ورقة سياسات: النقابات والعمل السياسي في لبنان

الشروط والخطوات لفاعلية أكبر في مواجهة الوضع الراهن

زينب سرور

لبنان

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [489.66 KB]

يعاني العمل النقابي في لبنان اليوم من شبه شلل. فالنقابات والتجمعات المهنية المستقلّة أو العمّالية والروابط، عاجزة إلى حد كبير عن القيام بالوظيفة التي قامت لأجلها؛ وهي حفظ الحدّ الأدنى من حقوق العمّال والدفاع عن الأجر وشروط العمل بما يتلاءم مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد. في الأصل، لم يسمح إرساء النظام الاقتصادي والسياسي اللبناني بتكوين نقابات فاعلة فكان أن نشأت مطلع التسعينيات، مع انتهاء الحرب الأهلية، “نقابات انضوت تحت اتحادات نقابية عطّلت عمل الاتحاد العمالي العام بعد أن سيطرت عليه”.i وتعزو “غالبيةُ الأدبيات المنشورة حديثًا غيابَ التنظيم النقابي وضعفه إلى سببين أساسيين:

أولاً: – سطوة الأحزاب السياسية التقليدية والطائفية على النقابات المهنية والعمالية وبالتالي على الاتحاد العمالي العام.ii

ثانيًا: – ضعف الدور النقابي العمّالي في سياق الاقتصاد النيوليبرالي الذي هيمن في لبنان بعد الحرب الأهليةiii والذي همّش العمل المهني والعمالي المطلبي الرسمي وفاقم من الاقتصاد غير المنظم. وقد أدّى هذا الواقع إلى ضرب العمل النقابي والتأثير على الحركات العمالية والنقابية والمهنية وقدرتها على لعب دور في تحركات الشارع بشكل جذري. علمًا أنه لا يمكن إنكار الصبغة العالمية التي ألمّت بأزمة العمل النقابي، والتي أصبحت متقاطعة مع الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يمرّ بها العالم منذ عقود. على المستوى المحلّي، ولم تكن النقابات حاضرة في انتفاضة 17 تشرين/ أكتوبر 2019، إذ أظهرت دراسة كمّية أنّ 95% من المتظاهرين كانوا غير منتسبين لنقابات عمالية وأنّ 5% فقط منهم كانوا منتسبين إلى نقابات مهنية حرةiv. دفع هذا الواقع بعض المواطنين إلى تركيز جهودهم على تحسين أدوار النقابات المهنية القائمة من خلال تحريرها من انتماءاتها السياسية حتى تتمكن من استعادة وظيفتها الأساسية، أو إنشاء جمعيات مهنية أو نقابات مهنية جديدة تكون قادرة على لعب أدوار محورية في تنظيم الجماهير،v لكنّ تلك التجارب بمجملها لم تتمكّن من الصمود.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من ملاحظة اندفاع قسم ممّن هم في عمر الشباب نحو المشاركة في تلك المحاولات وبعدها من خلال تظاهرات طلاب الجامعات التي طالبت بعدم دولَرة الأقساط (أي احتسابها على الدولار بعد الانهيار الكبير في العملة الوطنية)، لكنّ القسم الأكبر من الشباب كان متقاطعًا مع التوجه العالمي في تراجع انخراط الشباب في النقابات، والذين ربما لم يعودوا يجدون أنّ تلك النقابات تمثّل توجّهاتهم وتطلّعاتهم وتحفط حقوقهم.

انطلاقًا من هذا الخلفية، تطرح هذه الورقة أسس العلاقة بين العمل النقابوي (أي حصر عمل النقابة في الدفاع عن مصالح مهنية) والسياسي، وتقدم رؤية لمدى قدرة النقابات أو التجمعات النقابية والمهنية التي تطرح نفسها مستقلّة الانتقال إلى مرحلة المطلب السياسي بعد أن فشلت في ذلك سابقًا، وتأطير مطالبَها ضمن مشاريع سياسية قد تترك أثرًا على تطوير النظام السياسي ديموقراطيًّا، والأهم، ما إذا كان فعلاً هذا هو الدور المنوطة به حاليًّا.

أولاً: هل يحيي القانون العمل النقابي؟

قبل الإجابة عن هذه الإشكالية، يجب البحث أولاً في كتلة المعنيّين بالتنظيم النقابي في لبنان. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى وجود اختلاف بين النقابات المهنية أو نقابات المهن الحرّة (نقابة المحامين، المهندسين إلخ) والنقابات العمّالية التي تمثل شريحة عمالية كبيرة، فالأولى “من الناحية القانونية منشأة بموجب قانون يصوّت عليه في مجلس النواب وهي لا تخضع لقانون العمل والضمان الاجتماعي. ومن الشروط الأساسية لممارسة المهنة الانتساب إلى نقابتها، وقد أطلقت عليها تسمية مهن حرة أي حرّة من القانون وبالتالي من قانون العمال. أما النقابات العمالية فتخضع لقانون العمل والضمان الاجتماعي والانتساب إليها اختياري. ويمكن تأسيس النقابة العمالية بناءً على طلب يتقدم به عدد من الأفراد إلى وزير الوصاية، وهو في هذه الحالة وزير العمل. وهذا ما شكّل أحيانًا عائقًا حال دون تأسيس نقابات عمالية نظرًا لهشاشة وضع مقدمي الطلب”.vi
وفي الحديث عن حجم القطاع العامّ في لبنان، إن النمط الذي اتّبع خلال العقود الماضية كان “يعتمد بصورة أساسية على إضعاف منهجي للإدارة العامة من خلال إفراغها من الكوادر الكفؤة، وصولاً إلى حشوها بالأزلام والمحاسيب».vii و«يعود تضخّم أعداد العاملين في القطاع العام إلى تقليد قديم في السياسة اللبنانية يوكِل إلى الإدارة العامة مهمةَ استيعاب قسم من فائض العمالة بسبب ضعف القطاعات الإنتاجية وشحّة ما توفّره من فرص عمل واسعة. إلى هذه المهمة يجب أن نضيف حشر الإدارة بالموظفين، الاسميين والفعليين، الذي مارسته كافة أجنحة الطبقة الحاكمة. وقد اصطدمت حملة التوظيف هذه بعجز الميزانية وضغوط البنك الدولي والمصارف المحلية، من أجل معالجة التضخم في القطاع العام وتقليص عجز الميزانية، فتحايلت الطبقة الحاكمة على هذه الضغوط بواسطة حيلَتَين: الإكثار في أعداد المياومين (يعملون بأجر يومي)، وتوظيف متعاقدين أو تحويل موظفين ثابتين إلى متعاقدين».viii على أنّه في الوقت نفسه، لقد اعتادت هيئات أصحاب العمل ورأس المال على تضخيم حجم القطاع العامّ والمطالبة، منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية الحاليّة، بتقليص حجمه وتطبيق وصفات التقشّف فيه لتخفيض عجز الخزينة وإجراء إصلاحات، علمًا أنّ “ضخامة” حجم هذا القطاع تكمن في القوى الأمنية والعسكرية في مقابل الحاجة اليوم إلى هيئة تعليمية رسمية أكبر مع انتقال قسم كبير من تلامذة المدارس الخاصة إلى القطاع الرسمي بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة.
تضخيم حجم القطاع العامّ من قبل قوى رأس المال لغايات ربحية لا يعني حكمًا ضآلة حجم الكتلة المعنية بالتنظيم النقابي، فنحن نتحدث عن كتلة تعليمية من مثبّتين في الملاك ومتعاقدين، (مع ابتداع تسميات وظيفية جديدة خاصة بالأزمة)، وموظفين وأجراء ومياومين، وبالتالي هي شريحة عمّالية كبيرة تحتاج إلى نقابات عمالية تنطق باسمها.

بالعودة إلى السياق القانوني، يحظر نظام الموظفين اللبناني على موظفي القطاع العامّ تأسيس نقابات، بينما يعترف بهذا الحقّ لموظفي القطاع الخاص. بحسب المادة 15 من نظام الموظفين الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 112 بتاريخ 12/ 6/ 1959، تحظر على الموظف أن “يلقي أو ينشر دون إذن خطي من رئيس إدارته خطبًا ومقالات أو تصريحات أو مؤلفات في جميع الشؤون أو أن ينضم إلى المنظمات أو النقابات المهنية”. كما أنّ من يمثّل مطالب الأساتذة هو وزير التربية. دفع هذا الواقع إلى بروز “شبه نقابات في الإدارات العامة والتي تستعيض عن اسم نقابة بأسماء حركية أخرى كـ(رابطة)”.ix وعلى الرغم من أنّ لبنان مصدّق على الاتفاقية 87 التي تمنح كل موظف الحق في الانتساب إلى النقابات وتضمن حرية التنظيم والعمل النقابي في القطاع العامّ، إلا أنّ “مجلس الوزراء تحفّظ عليها عند طرحها في أحد اجتماعاته، علمًا أن الاتفاقية الدولية أسمى وأعلى من القوانين المحلية. وحتى اليوم، لم تقَرّ في مجلس النواب”.x وقد طالبت القوى النقابية المستقلة تحديدًا باعتراف القانون بحق التنظيم النقابي وإلغاء المادة 15، وتقدّمت بعدّة مشاريع قوانين، منها ما تقدم عام 2012، لكنّ ذاك المشروع حُوّل إلى مجلس النواب ثم وُضع في الأدراج. في المقابل، قدّمت أحزاب السلطة أيضًا مشاريع قوانين لكنها كانت جميعها منافية للاتفاقية الدولية ولما تتطلّع إليه القوى النقابية، فأحدها مثلاً ربط حق الإضراب بإذن من الدولة، وآخر اشترط موافقة الدولة على إنشاء النقابة.

وحول الخشية من أن يتحول القانون نفسه إلى أداة بيد السلطة لتقييد العمل النقابي، يشرح النقابي غسان صلَيبي أنّ “القانون يمنحنا الحق بتأسيس نقابات والانتساب إليها لكن من دون دخوله بشكلها التنظيمي، فالنقابات هي التي تضع شكلها التنظيمي الخاص بها”.xi
في الأوضاع العادية، ليس الضغط باتجاه إقرار قانون يضمن حق التنظيم النقابي بما يتلاءم مع تطلعات القوى النقابية والعمّالية، سهلاً، فأحزاب السلطة والقوى الاقتصادية التي تتناقض مصالحها مع مصالح العمّال بإرساء قواعد قانونية تضمن حقوقهم، قادرة على إصدار قوانين تناسبها في حال لم تواجَه بجسم نقابي معارض متين وموحّد، كما هو الحال اليوم، خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة. على أنّ الإشكالية هنا ليست محصورة بمدى إمكانية انتزاع العمّال حقهم القانوني بالتنظيم النقابي، بل بمدى جدوى ذلك في الوقت الراهن، والأثر المحتمل للعامل القانوني على أي زخم عمّالي أو شعبي في الانتظام النقابي خارج يد السلطة والدفع تاليًا باتجاه الانتقال إلى مرحلة المطلب السياسي.

يبرز هنا رأيان. بحسب صليبي، صحيح أنّ العامل القانوني يضمن الحق بالتنظيم النقابي لكنّ العاملين في القطاع العامّ تمكّنوا من ابتداع مخرج للعائق القانوني تمثل بالانتظام ضمن روابط تمارس الدور نفسه الذي تمارسه النقابات من جهة، وأنّ قوى السلطة وأصحاب العمل يهدّدون العمّال بالطرد في حال الإضراب لكنهم في الحقيقة لا يفعلون شيئًا، من جهة ثانية. كما يرى أنّ ما يمنع النقابات حاليًّا من التحرك ليس القانون، وبالتالي فإنّ ضمان القانون لموظفي القطاع العام بحق إنشاء نقابات لن يشكّل بحدّ ذاته دافعًا للتحرك، فنحن في أزمة كبيرة، لكنّ القانون يعطي ضمانة بأن يصبح التحرك شرعيًّا. في المقابل، يرى رئيس رابطة موظفي القطاع العام السابق محمود حيدر أنّ إقرار الاتفاقية 87 “يفتح المجال أمام كل المواطنين لإنشاء نقابات خارجة عن سيطرة قوى السلطة”. كما تبرز هنا أيضًا إشكالية “الأولويات” التي تلحق أي محاولات تنظيم، أيًّا كان شكله، فبينما تحتلّ الهموم المعيشية اليومية للعمّال من أجور وتأمين متطلّبات العيش في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة سلّم الأولويات، يجد الكثيرون أنّ الاهتمام بالوضع القانوني يصبح نوعًا من الترف، خصوصًا في نظام سياسي معطّل عاجز عن تحقيق ألف باء الممارسات الديموقراطية وتداول السلطات كانتخاب رئيس للجمهورية ثم حكومة، وفي ظل مجلس نواب غير قادر على إقرار قوانين مستعجلة تمسّ الحياة اليومية للمواطنين.

على أنّ ذلك لا يعني انتفاء أهمية إقرار القانون في الوقت الراهن بقدر ما يعني أنّ التركيز عليه لن يشكّل بحد ذاته دافعًا نحو انتظام عمل النقابات أو تأسيس نقابات جديدة مستقلّة. كما أن تحقيق ذلك يتطلب:

  1. وجود مكونات عمّالية ونقابية ومهنية جادّة قادرة على تأمين حدّ أدنى من التضامن والضغط الفعلي لإقرار قوانين حقيقية لا صوريّة تضمن حقوق العمّال، الأمر الذي وإن كان موجودًا بنسبة قليلة، غير أنه حتى اليوم لم يثبت فعالية يمكن التعويل عليها.
  2. وجود قاعدة شعبية مقتنعة بأهمية النضال على الجبهة القانونية بما يمسّ مصالحها بشكل مباشر، وهو غير متوفر في الوقت الراهن، ويتطلب من القوى النقابية مجهودًا إضافيًّا لتحقيقه.

ثانيًا: معضلة التنظيم

ماذا عن انتظام النقابات والهيئات والتجمعات النقابية أو المهنية والروابط ومحاولات تأسيس أشكال تعاون جديدة قد تشكل الأشكال التنظيمية السابقة منطلقًا لها؟ أو الانتخابات النقابية التي لم يُظهر المستقلون الذين فازوا في بعض نقابات المهن الحرة تمايزًا يُذكر عن أحزاب السلطة؟ إلى أي مدى يمكن إعادة إحياء هذه الأشكال التنظيمية أو البناء عليها لتأسيس أشكال جديدة قد تلعب دورًا أبعد من دورها النقابي والمطلبي؟
لقد برزت خلال العقدين الأخيرين عدة محاولات لإنشاء نقابات مستقلة عن أحزاب السلطة، كما شكّل عام 2011 محطةً أساسيةً في العمل النقابي بلغت ذروتها بين 2013 و2014 كانت على رأسها “هيئة التنسيق النقابية”، لكنّ ذاك الجسم لم يتمكن من الصمود طويلاً لاعتبارات عدة منها سيطرة الأحزاب على رئاسة عدد من الروابط. وبُعيد انتفاضة 2019، سعى البعض إلى إنشاء جمعيات مهنية أو نقابات مهنية جديدة تكون قادرة على لعب أدوار محورية في تنظيم الجماهير، منها مثلاً تجارب مهنيون مهنياتونقابة الصحافة البديلةوانتخابات نقابة المهندسين والمحاماة، غير أن النتائج لم تكن على قدر التوقعات.

حتى اليوم هناك بعض المحاولات لإعادة إحياء نماذج سابقة أو تأسيس نماذج مستقلة، منها مثلاً “التيار النقابي المستقل” الذي أنشئ بعد سيطرة الأحزاب على قيادة “هيئة التنسيق النقابية” عام 2015 لكن، بحسب ما يوضح صليبي، “كانت هناك ازدواجية فيه، إذ أنّ مؤسسيه كانوا ضائعين بين إنشاء نقابة مستقلة أو البقاء منخرطين في النقابة القديمة كلٌّ في رابطته والتصرف كنقابة مستقلة، على عكس بعض الدول العربية التي حُسمت فيها هذه المسألة إذ تم إنشاء نقابات مستقلة من خارج النقابات المسيطر عليها من قبل السلطة”. وهناك أيضًا “التحالف الاجتماعي من أجل دولة المواطن والعدالة الاجتماعية” الذي أنشئ عام 2021 ويضمّ هيئات نقابية وبلديات وتعاونيات وطلاب وشباب إلخ، وهدف إلى العمل على إقامة حركة نقابية مستقلة. لكن أيضًا لم نرَ فاعلية تُذكر لهذه التجربة لمختلف الأسباب، منها تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

إزاء هذا الواقع الذي تبدو فيه القوى المعارضة والمستقلة إما ضائعة أو ضعيفة جدًّا، يُطرح السؤال حول إمكانية الدفع باتجاه خلق أطر تنظيمية جديدة أو إعادة إحياء تجارب سابقة، خصوصًا في ظل الوضع الاقتصادي المتردّي. ولا تخلو المسألة من التحدي فهناك:

  • أولاً، والأهمّ، أزمة جوهرية متعلقة بالعقلية والحاجة الزبائنيّة التي خلّفتها الحرب على القاعدة الشعبية.
  • ثانيًا، وضع اقتصادي متردّي للغاية يخلّف آثارًا كبيرة على التفاعل الشعبي مع الحركات النقابية
  • ثالثًا، الشعور العامّ بالعجز بعد عدة محاولات سابقة للتحرك الشعبي خلال العقد الأخير لم تؤتِ ثمارها، بدءًا بتحركات المطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، مرورًا بتحركات 2015، ثم انتفاضة 2019، معطوفةً على تدويل الأزمة وإدراك القوى الشعبية أنّ الحلول بجزءٍ أساسي منها بيد الخارج، وقدرة قوى السلطة على إقناع الجماهير بعدم جدوى التحركات
  • رابعًا، تباين المصالح بين القطاعات نفسها وتركيزها على الحلول القطاعية، بينما الأزمة أصبحت شاملة وعامّة
  • خامسًا، اختلاف الظروف التي تهيّأت لبعض التجمعات النقابية والعمّالية بين الأمس واليوم فأدوات التحرك تبدو اليوم شبه معدومة لدى موظّفي القطاع العامّ كما أنّ التعاطي اليوم بات مع قوى في الحكم تستشرس دفاعًا عن مصالح رأس المال.

على أنّ ذلك لا ينفي تمامًا إمكانية التنظيم النقابي أو التأسيس على الأشكال السابقة وذلك يتطلب:

  1. التركيز على القضايا المشتركة من أجل إعادة تجميع الناس حولها.
  2. التنسيق بين القوى المستقلة والتوحد وخلق أطر تنظيمية وتحالفات قادرة على تقديم ما هو جديد على ساحة العمل النقابي وخوض المعارك والاستفادة من الظروف المناسبة لانتخاب قيادات مستقلة قادرة على تقديم برامج واضحة
  3. إحياء النقاشات القادرة على تقريب وجهات النظر، وإعادة النظر في كل التجارب السابقة والبحث في ثغراتها ونقاط ضعفها وقوّتها، وما إذا كانت هناك حاجة للاستمرار بها أو خلق أشكال أخرى من النضال
  4. الالتفات إلى أنّ وضع الدولة اليوم مختلف وكذلك أدواتها، وأنّ الخصم سلطة مفلسة ماليًّا وأنّ الحلول القطاعية لم تعد ذات جدوى في الوقت الراهن وأن الأزمة أصبحت عامّة وشاملة تطال كامل القطاعات، والتركيز على تحويل الصراع إلى صراع عامّ لإعادة النظر بالسياسات العامّة.
  5. الالتفات إلى أنّ ظروف الحركات والنقابات متغيرة ومتبدلة
  6. تطبيق الاتحادات التي تعرّف عن نفسها على أنها نقيضة للاتحاد العمالي العام للآليات المطلوبة التي تدل على أنها فعليًّا نقابات ديموقراطية وبقيادة مستقلة ونقابات فعّالة تمثّل الأجراء والعمّال وأن تعبّر قيادتُها بشكل فعلي عن مطالب الناس الذين تمثّلهم.xii

 

ثالثًا: نقابيسياسي

يعالج القسم الثالث إشكالية “النقابوي مقابل السياسي” في ظل الظروف الحالية، والحدود الفاصلة بين الاثنين. مدى أهمية وإمكانية تحقيق ذلك. وما شروط قيام أشكال تنظيمية قادرة على تطوير موقف سياسي وتأطير مطالبها ضمن مشاريع سياسية، أي لعب دور يتعدى الإطار النقابي إلى السياسي والذي أظهرت نقابات السلطة أنها غير معنيّة به، وبالتالي أن تكون جزءًا من المشهد الشعبي، على عكس ما كان الحال عليه في انتفاضة تشرين/ أكتوبر.

“تذكر الباحثة أنياس فافييه (Agnes Favier)، التي سبق أن درست الحركات الطلابية في لبنان خلال فترة ما قبل الحرب الأهلية، أن الجدلية بين العمل النقابوي والسياسي كانت على الدوام محورية في نقاشات “النقابات” ومحاولاتها التنظيمية الذاتية، وهو ما كان يؤثر بشكل مباشر على فعاليتها السياسية كما على استدامتها. وقد تعددت العوائق التنظيمية التي واجهتها”.xiii في المقابل، يشير صلَيبي إلى أنّ المقابلة بين السياقَين النقابوي أو السياسي ليست تاريخيًّا بالبداهة التي تُقدَّم فيها، فـ”النقابات في الأصل نشأت للدفاع عن الأجر وشروط العمل، وبالتالي كانت نشأتُها لأسباب معيشية واقتصادية واجتماعية. ثمّ خلال حراكها قد تطرح قضايا سياسية إذا اصطدمت بالنظام، فالأحزاب هي التي تنشأ لتحكم وتستلم السلطة بينما النقابات هي قوى ضغط لتحسين الظروف المعيشية”، مشيرًا إلى أنّ “مصدر السؤال حول ضرورة أن تمارس النقابات العمل السياسي هو الأيديولوجيا، فالوعي يأتي في سياق النضال عندما يكتشف الإنسان أنّ الإكمال في مسألة الأجور غير ممكنة إذا لم يتمّ تعديل السياسات العامة”.
هذا بصورة عامّة. على المستوى المحلي، وتحديدًا في الوضع الراهن، يشير صليبي إلى أنّ “المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية عادةً لا تنفع فيها المفاوضة الجماعية بين النقابات وأصحاب العمل بسبب وجود أزمة مالية واقتصادية، وبالتالي لا تملك الدولة أموالاً كي تقدّم تنازلات. في هذه المرحلة، ترفع الحركة النقابية سقفها وتطرح قضايا سياسية”.
هل تمكّنت الحركة النقابية خلال السنوات الماضية من الانتقال إلى مرحلة المطلب السياسي؟ كلا، لم تتمكن. والسبب يكمن:

أولاً:- في سيطرة أحزاب السلطة على النقابات العمّالية والتجمعات المهنية وعلى الاتحاد العمالي العامّ أيضًا بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الأهلية، بعد أن كان الأخير قد طوّر موقفًا سياسيًّا أواخر الثمانينيات عبر المطالبة بإنهاء الحرب عندما شعر أنّ الطرح المالي غير كافي وأعلن حينها إضرابًا لعدة أيام، “أي أنه انتقل من الموقع الاجتماعي- الاقتصادي إلى الموقع السياسي”، بحسب صلَيبي.

ثانيًا:- في عدم وجود قوى نقابية حاليّة تحمل مشروعًا بديلاً عن النظام القائم أو قادرة على ممارسة دور سياسي معيّن.
في هذا الإطار، يوضح حيدر أنّ شراسة الهجوم على “هيئة التنسيق النقابية” بين 2012 و2014 عندما كانت تطالب بسلسلة الرتب والرواتب من قبل قوى السلطة والهيئات الاقتصادية يرجع إلى تعدّي المطالب إطارها النقابي والمطلبي وارتباطها بالصراع السياسي في البلد وتهديدها السلطة القائمة.
ممّا سبق، يمكن الاستنتاج أنّ المشهد الحالي ووفق الظروف الراهنة لا يشي بالقدرة على تخطّي الدور النقابي إلى الدور السياسي، إلا عبر تأطير المطالب ضمن إطار تنظيمي على قاعدة التزام مطالب الفئات التي يتمّ تمثيلها (أساتذة، موظفون، أجراء..) وفي ظلّ قيادة نقابية مستقلة غير تابعة لقوى السلطة، وأنّ الحلول القطاعية، وإن تحققت بأبهى حلّتها، آنيّة وقد تكون بنفسها ولّادة لأزماتٍ لاحقة، أو ضاغطة على الظروف الراهنة. حينها فقط يمكن الحديث عن إمكانية تخطي المطالب القطاعية إلى دور سياسي من شأنه التأثير على النظام الديموقراطي.

 

خاتمة:
عالجت الورقة إشكالية أساسية تتمثّل في إمكانية إعادة إحياء العمل النقابي، ومدى قدرة النقابات والتجمعات النقابية والمهنية الانتقال إلى مرحلة المطلب السياسي بما قد يؤثر على النظام السياسي ديموقراطيًّا. وقد تمّ ذلك على مستويات ثلاثة: القانوني والتنظيمي والنظري (النقابوي والسياسي).
يتبين أنّ أزمة العمل النقابي في لبنان جوهرية تتعلق بشكل أساسي بالتركيبة التي تعزّزت في فترة ما بعد الحرب، على المستويات النقابية والجماهيرية كذلك. وبينما يرى البعض أنّ الأزمة تتخطّى العامل القانوني- وبالتالي وإنْ كان الأخير يضمن الحق بالتنظيم النقابي إلا أنّ القانون ليس هو ما يمنع النقابات حاليًّا من التحرك- يؤكد رأي آخر أهمية إقرار القانون بما هو عامل يفتح المجال أمام كل المواطنين لإنشاء نقابات خارجة عن سيطرة قوى السلطة. وعلى المستوى التنظيمي، يظهر أنّ الرغبة متوفرة لدى العديد من القوى، لكنّ قوى المعارضة الحالية والمستقلة إما ضائعة أو ضعيفة جدًّا، وأن التنظيم النقابي أو التأسيس على أشكال سابقة يتطلب عددًا من الخطوات وتوافر شروط معينة. أما تخطي الدور النقابي إلى السياسي فيحتاج إلى جهد كبير في ظل الظروف الراهنة.

أبرز التوصيات التي تضمّنتها الورقة:

  • التركيز على القضايا المشتركة في التأطير النقابي، ووجود مكوّنات عمّالية ونقابيّة تضغط بشكل فعلي لإقرار قوانين حقيقية لا صوريّة تضمن حقوق العمّال مع وجود قاعدة شعبية مقتنعة بأهمية النضال على الجبهة القانونية

التنسيق بين القوى المستقلة وخلق أطر تنظيمية وتحالفات قادرة على تقديم الجديد في العمل النقابي والاستفادة من الظروف المناسبة لانتخاب قيادات مستقلة قادرة على تقديم برامج واضحة

  • إحياء النقاشات بين المكونات النقابية والعمالية والمهنية القادرة على تقريب وجهات النظر
  • البحث في ثغرات وإيجابيات وسلبيات التجارب السابقة وما إذا كانت هناك حاجة للاستمرار بها أو خلق أشكال أخرى من النضال
  • الالتفات إلى أنّ الحلول القطاعية لم تعد مجدية في الوقت الراهن، بينما الأزمة عامة وشاملة، والبحث في السياسات العامة مسألة ضرورية،
  • تركيبة النقابات وظروفها متغيرة ومتبدلة، وبالتالي طرح بدائل عن الاتحاد العمالي العاميحتاج من الاتحادات البديلة تطبيقًا للآليات التي تدل على أنها ديموقراطية وذات قيادة مستقلّة غير تابعة لقوى السلطة وتعبّر بشكل فعلي عن مطالب الناس الذين تمثّلهم.

 

المراجع

i أحمد العاصي، ” دور النقابات المهنية في المرحلة الانتقالية”، جريدة “الأخبار”، 16/ 12/ 2019، https://al-akhbar.com/Issues/281149

ii Lea Bou Khater, “Lebanon’s October 2019 Revolution: Inquiry into Recomposing Labor’s Power”, South Atlantic Quarterly 120, no, 2 (2021)” 464- 472

أنظر Jamil Mouawad, “Lebanese Trade Unions and Independent Professional Associations: A Review in Light of the Popular Movement’, “Arab Reform Initiative”, 9/ 11/ 2019, Arab_Reform_Initiative_en_lebanese-trade-unions-and-independent-professional-associations-a-review-in-light-of-the-popular-movement_20470 (2).pdf

iii Nadim El- Kak, “Alternative Labor Unions in Lebanon: Comparative Reflections and Lessons, The Lebanese Center for Policy Studies, April 2021

iv أنظر Jamil Mouawad, “Lebanese Trade Unions and Independent Professional Associations: A Review in Light of the Popular Movement’, “Arab Reform Initiative”, 9/ 11/ 2019, Arab_Reform_Initiative_en_lebanese-trade-unions-and-independent-professional-associations-a-review-in-light-of-the-popular-movement_20470 (2).pdf

v المرجع السابق

vi Jamil Mouawad, “Lebanese Trade Unions and Independent Professional Associations: A Review in Light of the Popular Movement”, “Arab Reform Initiative”, 9/ 11/ 2021, Arab_Reform_Initiative_en_lebanese-trade-unions-and-independent-professional-associations-a-review-in-light-of-the-popular-movement_20470 (1).pdf

vii محمد وهبة، «شربل نحاس: خِدْش في النمط الاقتصادي»، جريدة «الأخبار»، 21/ 7/ 2017، https://al-akhbar.com/Community/235186

viii فواز طرابلسي، «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، «دار الساقي»، 2016، ص 127

ix أحمد العاصي، مرجع سابق

x مقابلة مع محمود حيدر، رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة سابقًا، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.

xi مقابلة مع النقابي غسان صلَيبي بتاريخ 16/ 12/ 2022

xii غسان صليبي، محمود حيدر، بتصرّف

xiii جميل معوض، “النقابات والتجمعات المهنية المستقلة في لبنان: قراءة في ظلّ الحراك الشعبي”، ضمن كتيّب “بين أهمية الدور وتحديات التنظيم والتمثيل: النقابات المهنية المستقلّة في العالم العربي”، “مبادرة الإصلاح العربي”، ص 33

Start typing and press Enter to search