زينب سرور
الأردن ,الإمارات العربية المتحدة ,البحرين ,الجزائر ,السعودية ,السودان ,الصومال ,العراق ,الكويت ,المغرب ,اليمن ,تونس ,جزر القمر ,جيبوتي ,سوريا ,عمان ,فلسطين ,قطر ,لبنان ,ليبيا ,مصر ,موريتانيا
العلاقة الدائرية بين العدالة البيئية والعدالة الاجتماعية:
لا يمكن الفصل بين العدالتين البيئية والاجتماعية، فلكلّ واحدة آثارها المباشرة وغير المباشرة على الأخرى.
تؤثّر البيئة في العدالة الاقتصادية والاجتماعية على حدٍّ سواء، وبالتالي، يؤثّر الاختلال في التنوع البيولوجي مثلاً على العدالة الاجتماعية. وهناك الكثير من الأمثلة التي تربط بطريقة أو بأخرى بين أي نوع من الاختلالات التي تحصل على المستوى البيئي وبين العدالة الاجتماعية، كمسألة انقراض الأسماك في المغرب، التي ترتبط باحتجاجات الريف التي اندلعت عام 2017 بسبب سمك التونا الأزرق، والمياه الراكدة التي حرّكها قتلُ بائع سمك الحسيمة الفقير سحقًا بتهمة بيع سمك يحظر بيعه في ذلك الوقت من السنة وما له من أبعاد اقتصادية واجتماعية والآثار التي تبعت ذلك.
ومن المهم أيضًا التطرق إلى مسألة الصيد البحري والبحث في كيفية تأثير الأسماك المنقرضة على حال الصيادين والفئات الأضعف. وتشكّل الأسماك موردًا أساسيًّا لهذا الفئات، على عكس الطبقات الثرية المغربية القادرة على استبدال غذاء السمك بغذاء آخر، ومع ذلك أصبح استهلاك الأسماك بالنسبة لها رفاهًا تمارسه بكثرة، وقد تضاعف هذا الاستهلاك حتى بلغ ستة أضعاف ما تستهلكه الطبقات الشعبية والفقيرة في البلاد، وفق دراسةٍ نُشرت عام 2014.1
ويؤثّر الاقتصاد أيضًا بالبيئة، وتحمل اتفاقيات التجارة الحرّة، وبُعدُها الأساسيّ اقتصاديّ، آثارًا على التنوع البيولوجي. ومن المهم هنا دراسة مدى وكيفية تأثير الاتفاقيات التجارية على البيئة وكيف يرتدّ هذا ثانيةً على توسيع اللامساواة وخلقها كذلك.
علاقة الشمال والجنوب:
إن النمط الاقتصادي القائم على العلاقة الاستخرجية الذي تضطرّ غالبيةُ دول الجنوب، وتحديدًا دول منطقتنا، إلى السير به، يقع ضمن دائرة مغلقة تضطر معه دولنا إلى الاستدانة والقيام بأنشطة مضرّة لمستقبلها وذات منفعة لمصلحة الدول المستغِلّة في آن. وتُعتبر المجتمعات المهمشة أكثر المتضررين من هذا النهج.
على أنّ الكوارث البيئية وارتباط مصير دول العالم على الصعيد البيئي تحديدًا بعضَه ببعض يحتّم وجودَ تعاون مشترك بين الشمال والجنوب لمواجهة تلك الكوارث البيئية التي تبدو أكثر وضوحًا من العلاقات التي تحكم الاقتصاد. من هنا يمكن الحديث عن مسؤوليتنا كشعوب عالم الجنوب للعمل مع الشمال بهدف الحفاظ على بيئتنا المشتركة. فلبنان مثلا ممرٌّ للطيور المهاجرة، وحفاظنا على هذه الطيور عندما تمرّ في لبنان مشاركةٌ في الحفاظ على التنوع البيولوجي العالمي، ونحن نملك مسؤولية أكبر من غيرنا. وتلعب ناشطيّة الخبراء والباحثين والمجتمع المدني هنا دورًا في توعية الشعب والثقافة العامة على أهمية ودورنا ومسؤوليتنا كعالم جنوب عالمي.
ويمكن للدراسات أيضًا الإضاءة على أهمية التنوع البيولوجي في منطقتنا من أجل سلامة الغذاء والبيئة على المستوى العالمي، فسلامة الغذاء الأوروبي والعالمي مثلا تعتمد على مدى قدرتنا على الحفاظ على التنوع البيولوجي الكبير والمتنوع لدينا. وعلينا في هذا السياق إدراك إمكانياتنا والتنوع البيولوجي والجيني الذي نملك، وإدراك كم تحتاجه دولُ الشمال التي تعي تمامًا حاجتها إليه.
في الوقت عينه، وضمن المسار نفسه، لا يجب إغفال أهمية مواجهة الاستغلال والاحتكار والضرر البيئي الكبير الذي أحدثته سياسات الاستعمار على مدى عقود طويلة وما زالت تُحدثه بأشكال “أقل عسكريّةً” وأكثر ديبلوماسيةً ومواربة، لثروات ومقدّرات دول الشعوب ورخص اليد العاملة فيها، بالتوازي مع محتكري ومستغلّي الثروات المحليين المساهمين في نهب وتسهيل نهب ثروات شعوبهم. وهنا يجب البحث في مدى إمكانية تحقيق ذلك في منطقتنا. وفي هذا الإطار يمكن للتراكمات الصغيرة، إذا ما تمّ التفتيش عن آلية معينة للبحث فيها، أن تعطي نتيجة أكبر لناحية التغيير على الصعيد الدولي ومواجهة الاستغلال. وربما يخدم هذه القضية بعضُ هذه الدراسات، الذي توثّق تراكمات معيّنة ونجاحات وإخفاقات قد تخرج عنها توصيات. على أنّ مواجهةَ الاستغلال الاقتصادي الشمالي لدول الجنوب والضررِ البيئي الناتج عنه ليست سهلةً على الإطلاق، فدولنا مثلا تستورد الآن نفايات صلبة بشكل علني على أساس أنه وقود بديل، وهناك نفايات سامّة تُصدّر لنا وتُدفن في بلداننا. ولا توجد دراسات حقيقة للأضرار، وبالتالي عند الحديث عن الأمر أمام المسؤولين، كما هو الحال في المغرب مثلاً، يُقال “تحكمه اتفاقيات دولية موقّعة”. لذا على النشطاء والباحثين في دول الجنوب استغلال كل الفرص المتاحة لإبراز أضرار هذا الأمر وغيرها من أشكال الاستغلال المضرّة ببيئتنا.
الحراك والسياق:
تُعتبر تجربة سد بسري في لبنان مثالاً ناجحًا للناشطيّة التي تمكّنت من الضغط على البنك الدولي لإيقاف سد تمويل السد (مع إمكانية إعادة الدولة اللبنانية طرح الموضوع والسير به مجددًا بسبب عدم إلغاء المشروع)، على أنّ تجربة السد ليست الأولى من نوعها في لبنان. ومن المهم ربط التجربة بسياق الأمور، فعلى سبيل المثال، خلال حراك عام 2015 في لبنان تمّ تسليط الضوء على مواضيع بيئية مهمة في البلاد وأخذت حيزًا كبيرًا من الاهتمام الشعبي. وقد ساهم الحراك في المواضيع البيئية وكانت الناشطيّة أساسيةً في ذلك العمل، إذ سلّطت حملاتٌ الضوء على انتهاكات الخصخصة المتزايدة في لبنان بشكل كبير، كما حصل في منطقة الدالية المحاذية للروشة، وكما حصل في منطقة كفرعبيدا في الشمال التي، ونتيجة مجهود الناشطين، تمّ إيقاف عمليات البناء على أحد شواطئها. أما لماذا حاز سد بسري على هذا الاهتمام؟ فلأنّ قضيةَ بنائه أتت بالتوازي مع انتفاضة 17 تشرين/ أكتوبر في لبنان والتي كان لمحاولات استعادة الحيّز العام مكان فيها لم يقلّ أهميةً عن المطالبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأخرى، وذلك لارتباطه بتلك الحقوق.
لذا من المهم الالتفات إلى أن الناشطية عمل تراكميّ، وكيف يدفع السياقُ العامّ مسائلَ بيئية مدينية يكون العمل جاريًا عليها لمدة طويلة في شبه صمت أو أنها لم تحُز على ضجة إعلامية حينها. ولكن عند أي فرصة، كحصول انتفاضة شعبية، تبرز هذه المواضيع إلى العلن وتصبح متواجدةً ضمن الخطاب العامّ.
التعارض ما بين البيئي والاجتماعي:
من أكبر الأسئلة المطروحة هنا: هل النظام النيوليبرالي الاقتصادي الرأسمالي الدولي متماشٍ مع هدفنا في حماية التنوع البيولوجي؟ وهل يكفي تراكمُ المعارك الصغيرة لحماية التنوع البيولوجي على المدى الطويل أم أنّ النضالات الصغيرة غير كافية لكي تحدث تغييرًا أساسيًّا؟ وهل يمكن لنا من خلال إصلاحات في سياسات مختلفة أن نحمي مستقبل التنوع البيولوجي؟ أم يجب أن يكون هناك تغيير محوري راديكالي للنظام الاقتصادي الدولي؟
للسؤال الأخير أجوبة تتفاوت بين باحث وآخر ومفكر وآخر، على أنّ طرح التغيير الراديكالي موجود وواقعي، فقد نحتاج تغييرًا جذريًّا كي نتمكّن من الحديث عن تغيير حقيقي في مسألة التنوع البيولوجي وما يرتبط به على مختلف المستويات.
ويبقى السؤال: هل يحصل هذا النوع من التغيير بين ليلة وضحاها؟ أم عبر تراكمات ونضالات؟ يمكن رؤية المسألة من زوايا مختلفة إحداها أن التغيير الجذري يحصل نتيجة تراكمات ونضالات صغيرة، وبالتالي لا يجب وضع المسألتين بمواجهة بعضهما البعض.
على أنّ التقاطع بين الجذري والإصلاحي أصبح أدقّ من السابق لأنّ الحكومات صارت أكثر حنكة في التعامل مع الحركات الثورية في مهدها، وذلك من الناحية الأمنية ومن ناحية الترابط الدولي ضد المجتمع المدني والأصوات المختلفة. وفي مقاربةٍ دقيقةٍ لكيف أصبح التنسيق الدولي متقاربًا بين الحكومات، بصرف النظر عن التفاوت الاقتصادي بين العالم المتقدم والثالث، نجد أننا بحاجة إلى إحداث تغيير في مسألة الخطاب بين الإصلاحي والجذري، فقد نجد أنفسنا أحيانًا متورّطين في ترديد خطابٍ مُعدّ مسبقًا، كأن نكون ملزمين مثلاً بأجندة معينة فيما يتعلق بمؤسسة دولية معينة، وهذا يبتعد كل البعد عن الراديكالية. ولأننا شعوبٌ عاشت ثورات ونضالات مختلفة، فإننا نحتاج إلى تقديم كل جديد بناءً على خبرتنا وتراكمنا وألا نعلق في ثنائية الإصلاحي والجذري.
الوعي والسياسات
هناك علاقة وارتباط بين الوعي الشعبي لمقدّراته وأهمية محيطه البيئي وبين السياسات الحكومية ودورها، وتخضع مسألة العلاقة بينهما إلى نقاشات وآراء متفاوتة.
في بعض الأحيان يمكن اعتبار الرأي العام والثقافة العدوَّ الأول لا السلطة، فعندما يعي الشعب أهمية الثروة الجغرافية والجينية الموجودة لديه ومدى ترابطها بالعالم، يمكن التعويل على إحداث تغيير معيّن. كما حصل في البرازيل مثلاً التي تغيرت نظرة أبنائها، المعتمدين ولسنوات طويلة في معيشتهم على الخشب، إلى مدى أهمية غابات الأمازون على المستوى العالمي وبالتالي تغيرت ممارساتهم، على أنّ ذلك أخذ وقتًا وجهدًا من العلماء والمنظمات الأهلية والمجتمع المدني العالمي الذي عمل بالتعاون مع المجتمع المدني البرازيلي. وقد نكون في منطقتنا في أول مرحلة من هذا الكفاح، الثقافي لا السياسي. ولا يمكن منح الشعب في ممارساته اليومية صك براءة فهو يحمل مسؤولية تجاه بيئته في ممارساته اليومية، الأمر الذي لا يحتاج إلى كثيرِ ثقافة، بل يمكن أن يبدأ من الثقافة البيتيّة. لذا، وبالتزامن مع النضال تجاه الحكومات، هناك حاجة إلى تغيير سلوك الناس تجاه الطبيعة، فالحكومة في لبنان مثلا لا تمنع زراعة النباتات غير التجارية، والتي يمكن أن تكون ثروة زراعية، كما أنها لا تحمي الصيادين في صيدهم الجائر للطيور التي لا يعتاشون عليها، ومع ذلك يبتعد البعض عن اعتماد هذه الزراعة ويمارس آخرون الصيد غير المشروع، وبالتالي المسألة هنا متعلقة بالثقافة الشعبية.
في المقابل، لا يمكن الحديث عن “وعي شعبي” ولا يمكن التعويل على شعب ما أو لومه لعدم إلمامه بكل ما يتعلق بالبيئة من حوله وهو منتزعٌ من كل مقوّمات التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي وذلك في ظلّ سياسات نيوليبرالية تنتج عنها فجوةٌ هائلةٌ في الثروة تزداد مع الوقت اتّساعًا وتنعكس على مختلف الفرص الثقافية. فشعوب منطقتنا مثلاً محرومة من الإمكانيات والحقوق الأساسية، ومنها التعليم الكارثي الذي يتسبّب بتدهورٍ في طريقة التفكير لدى الأطفال ما يؤثر على مستقبلهم.
كما أن هناك فرقًا كبيرًا على المستوى الثقافي بين أطفالٍ يملكون مقومات معيشية مقبولة وآخرين محرومين من كل إمكانيات التعليم والحياة في قرًى نائية مثلاً. وبالتالي، وفي إطار هذه المسألة، هناك فرق شاسع بين توفير إمكانيات للشعب ثم البحث عن نتائج متعلقة باتجاهاته، وبين البحث عن نتائج اتجاهات شعب محروم من مختلف الإمكانيات ومنها حتى مساحة التعبير عن مشاكله، كما هو وضعنا اليوم في منطقتنا.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الثقافة والوعي لا يتغيران عبر حملات رفع الوعي وغيرها من الطرق المعتمدة اليوم، فالوعي مرتبطٌ بالممارسة وهو يرتفع بها، والممارسة تأتي في الأساس من سياسات حكومية. لذا لا يمكن الفصل بين الوعي والسياسات، فإذا بقيت السياسات التي تنتهك البيئة موجودة فمن غير الممكن الطلب من الشعب تغيير وعيه. وفي الوقت نفسه، إذا استمرّ مستوى الوعي على حاله من الصعب إلزام الحكومات تحقيق إنجازات عظيمة. وإذا أردنا من المواطنين الحفاظ على البيئة علينا توفير بيئة صالحة لهم كي يحافظوا عليها ويعوا مدى أهميتها.
1 محمد لديب، “أغنياء المغرب يلتهمون السمك 6 مرات أكثر من الفقراء”، موقع “هسبريس”، 29/ 11/ 2014، https://bit.ly/2Nkvl32