أحمد فرحات حمودي
يواصل أصحاب السترات الصفراء احتجاجاتهم السلمية حينا والعنيفة أحيانا. تطورت شعارات المحتجين من مجرد الضغط على حكومة ادوارد فيليب لحملها على التراجع على قرارها القاضي بالترفيع في اسعار المحروقات إلى المطالبة باستقالة الرئيس الفرنسي ماكرون وحل البرلمان. ولجت الاحتجاجات مبنى الجمعية الوطنية في قصر بوربون في باريس عندما ارتدى النائب جون دو لاسال اليميني سترة صفراء تضامنا مع المحتجين ومطالبهم وهو ما أثار جدلا واسعا وتعطل لأشغال المجلس وخطية مالية في حق النائب.
اتخذت الاحتجاجات منحى خطيرا عندما تحولت إلى مواجهات مع قوى الأمن في قلب باريس وعلى جادة الشانزيليزيه تحديدا التي توقفت فيها الحركة وتحولت إلى ساحة نزال عنيف وكان مشهد النيران التي أضرمها المحتجون على أطراف الجادة صادما. وجدير بالتذكير أن الاحتجاجات اندلقت غداة اقرار الحكومة زيادة في اسعار المحروقات الذي يتنزل ضمن سياسات يستعد الرئيس الفرنسي اتخاذها فيما يعرف بالانتقال الأيكولوجي (écologie transition) بالاعتماد على الطاقات البديلة والنظيفة عوض المحروقات وتطورت هذه الاحتجاجات سريعا لتصير حركة جماهيرية واسعة فبلغ عدد المحتجين نهاية الاسبوع الماضي 280 ألف محتج. كما تجدر الإشارة إلى أن الاحزاب اليسارية التي تحمست مع بداية الأحداث عدلت مواقفها ودعت إلى التهدئة والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة موقف عبر عنه بوضوح بينوا هامون مرشح الحزب الاشتراكي الفرنسي في انتخابات 2016 وجون ميلونشون زعيم ومؤسس حركة فرنسا غير الخاضعة بينما حاولت النقابات العمالية اليسارية وأهمها الكونفدرالية العامة للعمال التوسط بين الحكومة والمحتجين. في الطرف المقابل أعلنت أحزاب أقصى اليمين وبعض أحزاب اليمين دعمها ومساندتها وانخراطها في التحركات. ورغم أن المثل الفرنسي يقول: المقارنة ليست حجة. فإن سرعة انتشار رقعة الاحتجاجات وضخامتها أعاد للأذهان الحركة البوجادية نسبة لمؤسسها بيار بوجاد ذلك المكتبي الصغير صاحب المستوى التعليمي المتدني والذي صار زعيما سياسيا في وقت قياسي عندما أطلق مبادرة رفض تسديد الأداءات احتجاجا على فتح السوق الفرنسية أمام المساحات التجارية الكبرى التي تهدد صغار الحرفيين والفلاحين والتجار والكسبة والذين كانوا العمود الفقري للحركة البوجادية التي استطاع زعيمها حشد أكثر من 120 ألف محتج في باريس في يناير/ كانون ثاني 1955 واقتحم البرلمان مع أنصاره في مارس من نفس العام ليفتك الكلمة ويتهجم على السياسيين والأحزاب كما فعل النائب دو لاسال يوم أمس.
ويعزز ارتفاع أعداد المحتجين وانتشار رقعة الاحتجاجات القناعة بأن فئات واسعة من الشعب الفرنسي ولا سيما فئة الشباب تعاني قلقا وضجرا من الواقع الاقتصادي والاجتماعي وحتى القيمي المأزوم ras le bol)) وفي غياب لأي أفق بديل. ولا شك أن اليمين القومي يسعى بكل قوته لاستثمار هذا القلق الوطني من خلال شعارات تروج للانغلاق الاقتصادي وطرد المهاجرين والخروج من الاتحاد الاوروبي الذي تتهمه وتحمله مسؤولية كل المآسي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وحتى الهوية رافعة شعارات فرنسا للفرنسيين ولنجعل فرنسا قوية مجددا وهو ذات الشعار الذي كان عنوان حملة دونالد ترامب الرئاسية لنجعل امريكا قوية مجددا.
إن أزمة النظام الاقتصادي الحالي النيوليبرالي وحدوده الاقتصادية والاجتماعية والبيئية صار عنوانا للحركات اليمينية ولاسيما المتطرفة منها والتي تقدم الانغلاق والتقوقع والسياسات الحمائية بديلا عنه وطريقا سليما للخروج من الأزمة ولمغادرة منطقة القلق الوطني إلى منطقة الرفاه المنشودة. هكذا إذن يمهد رعاة النيوليبرالية وأدواتها (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية أساسا) من خلال سياساتهم المجحفة الطريق لنهايتهم. إن النتيجة الواضحة والفعلية والواقعية لسياساتهم الآن هو عكس ما يطمحون إليه وهو صعود اليمين القومي الذي يناهض سياسات الانفتاح والتبادل الحر التي يبشرنا بها الاقتصاد النيوليبرالي وما فتئ يقنعنا أنها كلمات مفاتيح للنهضة والقفزة والمعجزة الاقتصادية.
لا غرابة إذن أن ينجح اليمين القومي والمتطرف في الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل أخيرا وأن يصوت أغلب البريطانيين مع الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولا مندوحة من الاعتراف بأن الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون كان أول المنتبهين لحالة الضجر والقلق الوطني في هذا الوضع المأزوم من المشهد السياسي الموجود والذي يبدو أنه يعيش نهاياته بفقدان المواطنون لثقتهم فيه فتقدم بعرض سياسي جديد يقطع مع التقسيم السائد الذي حكم فرنسا على مدى قرن ونصف وهو التقسيم يمين ويسار وما عاشه الطرفين من تحولات على مدى الزمن وفي ضوء عالم متغير شهد أحداثا مأساوية. كان ماكرون نبيها إذن عندما تفطن لذلك وادعى انه سيكسر هذا التقسيم الكلاسيكي العقيم وهو ما مكن حركته من اختراق غير مسبوق للمشهد السياسي الفرنسي ولكن آمال الفرنسيين تراجعت عندما أيقنوا أن مشروع ماكرون يتلخص في تغيير الوجوه وليس السياسات وهو ما يؤكده هذا الحراك الاجتماعي والشعبي القوي على سياساته وتدني شعبيته إلى أدنى مستوياتها.
تراقب النخب العربية باهتمام مآل الأحداث والتطورات في فرنسا وتتعدد التحليلات ويتفاعل معها البعض بسخرية بالغة وطرافة فريدة ليصار إلى مقارنات بين تطور الاحداث في تونس ومصر وليبيا نهاية 2010 وسنة 2011 وما يقع الآن في فرنسا ولا تخفي روح النكتة والطرفة لدى بعضهم روح الحزن وجلد الذات واهتزاز الثقة لدى البعض الاخر لاعتبارنا دوما اقل قيمة وفي درجة دونية ﻷننا لم نتحرك كما الفرنسيين بالرغم من واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المأزوم وهو خطاب يتكرر باستمرار يعتقد أصحابه أنهم بذلك يشحذون الهمم وهم في الواقع بهكذا خطاب ينهون ما تبقى من ثقة الانسان العربي في نفسه المهزوزة أصلا. والثابت عندي أن ما يقع في فرنسا يؤكد كونية الأزمة وأن الحل لن يكون إلا كونيا يمكن الاسهام فيه باستنباط البدائل وبالتفاعل والتنسيق والتفكير المشترك بين المدافعين عن العدل والحرية والكرامة والسلام والبيئة في مختلف أركان المعمورة بالانكباب على العمل لا بالنحيب والعويل الوطني الذي نبدع فيه.
تفتح الأحداث وتطورها وتسارعها على سيناريوهات واحتمالات فقد تنتهي إلى تراجع حكومة ادوارد فيليب على قرارها الزيادة في سعر المحروقات وقد تتحول حركة السترات الصفراء إلى حركة سياسية كما فعل بوجاد في خمسينيات القرن الماضي وقد تستغلها الحركات اليمينية القومية لتعزيز مكانتها في الساحة السياسية الفرنسية ولكنها في كل الأحوال ستمثل منعرجا ومنعطفا تاريخيا كما كانت الحركة البوجادية وكما كان ماي 68 ستجبر الكل على إعادة التفكير في كل المسلمات والبديهيات. إن استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتفاقمها تمثل الخطر الأول على الفكر الانساني الحر والمنفتح والتقدمي. إن اليمين المتطرف مستغلا للأزمة وبشعبويته الفاقعة والفجة يكشر على أنيابه ليدك آخر معاقل الفكر الانساني الحر وهو ما يستدعي منا انكبابا وشغلا وجهدا بعيدا على الشعرات الفضفاضة والفارغة لاجتراح الأمل الضروري للحياة.