توصيات من أجل قوانين جيدة لإعلام مهني في المنطقة العربية
إسماعيل حمودي



Download [375.08 KB]

[i]

رغم أن إصلاح قوانين الإعلام في بعض الدول العربية استند إلى دساتير جديدة وضعت عقب ثورات الربيع العربي، نصت على حرية الصحافة، وحرية الفكر والرأي والتعبير، كما أقرت الحق في الوصول إلى المعلومة[ii]، إلا أن مخرجات تلك الإصلاحات لم تحظ بقدر كبير من القبول والرضا وسط المهنيين وهيئات حقوق الإنسان، بدليل استمرار الجدل حول مهنية وسائل الإعلام من جانب، وتواصل السجال حول تداخل العلاقة بين السياسي والمهني، أو بين المهني والاقتصادي، من جانب آخر.

وتكشف الانتقادات التي وجهت إلى القوانين الجديدة عن مكامن القصور التي تشكو منها بالفعل، أبرزها؛ ضعف الملاءمة مع المعايير الدولية لحرية الإعلام، إذ تمّ اعتماد المبادئ في الشكل مع إفراغها من روحها على مستوى المضمون، علاوة على استمرار إخضاع الممارسة الإعلامية لقوانين متعددة، ما يسمح، في عدد من الحالات، بتدخل القانون الجنائي للحد من حرية الإعلاميين في التعاطي مع القضايا الحساسة. ومن نتائج ذلك، محدودية تلك القوانين في حماية التعددية الإعلامية، وقصورها عن خلق بيئة محفزة لتجويد العمل الصحفي والإعلامي.

وقد أكدت الممارسة أن المشرع في تلك الدول، خصوصا في مصر والمغرب وبدرجة أقل تونس، انتصرت لديه هواجس تقييد الحريات الإعلامية بواسطة القانون، بدل التركيز على تقييد السلطة، بسد المنافذ القانونية التي طالما استعملتها الأنظمة لأجل التحكم في الإعلام، وتسخيره لصالحها في مقابل تعطيل دوره في إثراء الوعي الديمقراطي. وفي المحصلة، تأكد أن تلك الإصلاحات لم تحقق الغاية المرجوة منها، مما يستدعي فتح هذا الملف مرة أخرى.

تحاول هذه الورقة طرح تصور للدفع باتجاه إصلاحات أكثر عمقا لقوانين الإعلام والصحافة، تعيد التوازن إلى العلاقة بين السلطة والحرية، وتعزز الخيار الديمقراطي في المنطقة العربية. على أن هذه الورقة لن تخوض في واقع كل دولة على حدة، بل ستقرأ قوانين الإعلام في الدول الثلاثة على ضوء المعايير الدولية لحرية الإعلام، بُغية الخروج بتوصيات لأجل منظومة قانونية من شأنها أن تسهم في تشكيل بيئة تشريعية محفزة لإعلام مهني حر ومستقل.

أولا: لماذا إصلاح قوانين الإعلام؟

كان يُفترض أن تُحدث قوانين الإعلام والصحافة التي تم وضعها خلال السنوات الأخيرة، -سواء في الدول التي شهدت ثورات أطاحت بأنظمة سياسية (مصر، تونس،) أو تلك تبنت إصلاحات سياسية (المغرب، الأردن،)- طفرة في اتجاه تكريس إعلام مهني ومستقل وتعددي، غير أن هذا الأمل لم يتحقق بدرجة كبيرة، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال تجربتي مصر والمغرب:

ففي مصر، أقرّ دستور 2014 الحق في النفاذ إلى المعلومة، وحرية الصحافة، واستقلالية المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة (الفصول 68-70-71-72)، كما أوكل مهمة تنظيم الإعلام إلى ثلاث هيئات؛ المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام (الفصول 211-212-213). وعلى إثر ذلك، أقدمت الحكومة على تشكيل “لجنة حكومية” لإصلاح قوانين الصحافة والإعلام، لم تنل قبول المهنيين، فأقدمت على تشكيل لجنة إضافية أطلق عليها “لجنة الخمسين” لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية حظيت بتمثيل أوسع؛ وقد عملت اللجنتان معا، فكانت حصيلة عملهما “مشروع قانون موحد لتنظيم الصحافة والإعلام”[iii].

لم يُعتمد مشروع اللجنتين من قبل الحكومة، بالنظر إلى المواقف المتوجسة لـ”البيروقراطية” المصرية من مضامينه وآفاقه، وهو التوجس الذي دفع جهات أخرى داخل الدولة وفي الوسط الاقتصادي للتحرك نحو اعتماد قانون يُعدّل قليلا من القانون رقم 96 لسنة 1996، وقد صدر سنة 2016 تحت رقم 92 باسم “قانون التنظيم المؤسسي للصحافة الإعلام”، نظم كيفية تشكيل واختصاصات وعمل الهيئات الثلاثة المعنية بتنظيم القطاع الإعلام الذي نص عليها الدستور في المواد 211 و212 و213 كما سبقت الإشارة، وهو قانون جزئي هيمنت عليه فكرة الضبط والتحكم في القطاع بدل تنظيمه وتأطيره. ومن نتائج ذلك، أن القانون الجديد لم يُحدث أي تغيير إن على مستوى جودة ومهنية الإعلام، أو حماية الحريات الصحفية، كما تؤكد ذلك تقارير منظمات دولية، مثل “مراسلون بلا حدود”[iv].

وعلى خلاف مصر، يمثل المغرب نموذجا مختلفا، فهو لم يشهد ثورة لتغيير النظام القائم، بل تبنى إصلاحات في إطار الاستمرارية، حيث أقدم على وضع دستور جديد (2011)، تضمن مقتضيات خاصة بحرية الصحافة والإعلام، والحق في النفاذ إلى المعلومات، والتنظيم الذاتي للصحفيين، (الفصول 27-28). وفي أكتوبر 2012، شكلت الحكومة “اللجنة العلمية للحوار والتشاور” ضمّت مهنيين وشخصيات ممثلة لجل تيارات الفكر والرأي، قادت حوارا موسعا خلص إلى تقديم توصيات بشأن تغيير مسودات مشاريع قوانين[v]، قبل اعتمادها من قبل الحكومة، ثم البرلمان الذي صادق عليها في يوليو 2016.

ومع أن حجم تغيير القوانين كان كبيرا، إلا أنها لم تحظ في النهاية بموافقة النقابة الوطنية للصحافة المغربية، كما اعترضت عليها فيدرالية ناشري الصحف. ذلك أن الحكومة بعد أن حذفت العقوبات السالبة للحرية من قانون الصحافة والنشر فقد رحلتها فورا إلى القانون الجنائي. كما أنه قانون تضمن عبارات فضفاضة تسمح في كثير من مقتضياته بالحد من حرية الصحافة. وعلى العموم، لا زال تشريع الصحافة تنظمه قوانين أخرى غير قانون الصحافة والنشر، أبرزها القانون الجنائي، ما دعا منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى القول بأن “الخطوط الحمراء لا زالت حمراء”[vi] في المغرب، في إشارة إلى أن قانون الصحافة قد وقع الالتفاف عليه بقوانين أخرى.

ومنذ إقرار تلك القوانين، سواء في مصر أو المغرب، لا يظهر أن لها تأثير ملموس على جودة المنتوج الإعلامي، كما أن حرية الإعلام والصحافة لم تتحسن، والدليل على ذلك أن دول المنطقة تراجعت تصنيفاتها في تقارير المنظمات الدولية المختصة، مثل “مراسلون بلا حدود” أو “فريدوم هاوس”، ما يعني أن سمعتها الدولية باتت أسوأ، بل إن مصر باتت تصنّف ضمن لائحة الدول المعادية للصحافة، وهي أسباب كافية لكي يكثف المهنيون، والمجتمع المدني، الضغط مجددا من أجل إصلاحات قانونية أعمق أثرا، تتلاءم مع المعايير الدولية، وتستفيد من الممارسات الفضلى سواء من داخل المنطقة أو خارجها.

ثانيا: خيارات من أجل إصلاحات أعمق

لا يبدو أن الخيار السلطوي القائم على التحكم في الصحافة والإعلام فعالا وناجعا، بعدما تأكد إفلاسه خلال عقود من التجريب. لقد فشل هذا النموذج في انتزاع رضا وقبول الشعوب، التي باتت طموحاتها في الديمقراطية والحرية والكرامة أكبر، كما أنه لم يعد قادرا على تجميل صورة الأنظمة بجعل الناس يعتقدون أن كل شيء جيد. ويبدو أن خسارة المنطقة بسبب القيود القانونية والسياسية على الإعلام، أصبحت مكلفة جدا، الوضع الذي باتت معه الأنظمة القائمة أمام خيارين: إما أن تقود الإصلاح من الأعلى، أو أن ترى ذلك يحدث في الشارع من الأسفل.

  • المبادئ الأساسية

لتلك الأسباب، لا مناص من تبني النموذج الديمقراطي في تنظيم الإعلام، دون تأخير أو إبطاء، ويمر الطريق إلى ذلك أولا عبر إقرار إصلاحات جوهرية للتشريعات الإعلامية لتنظيم القطاع وتطوير العاملين فيه. وإذا كانت الأنظمة السياسية جادة في ذلك، فإن المرجعية الدولية في تشريعات الإعلام توفر خبرات جيدة، كونها تمثل خلاصة القيم الإنسانية المشتركة، وبالأخص منها: مبدأ حرية التعبير، مبدأ حرية الإعلام، ومبدأ الحق في النفاذ إلى المعلومة.

  • حرية التعبير: وتعني التدفق الحر للمعلومات والأفكار والآراء، بما في ذلك حرية تلقيها ونقلها للآخرين دون قيود. ويجد هذا الحق مرجعيته في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي اكتسبت قوة قانونية جعلتها أحد مصادر التشريع في القانون الدولي، كما نجد ذلك في المواثيق الإقليمية، خاصة المادة 13 من المعاهدة الأمريكية لحقوق الإنسان والمادة 10 من المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان. وتستمد حرية التعبير أهميتها من كونها الأساس لحقوق أخرى، فالمشاركة الديمقراطية للمواطن تعتمد على حرية تدفق الآراء والمعلومات، وفي حال تم تقييد هذا الحق، يمكن أن تتعرض حقوق أخرى مثل المراقبة والمحاسبة لسوء الاستعمال.
  • حرية الإعلام: وهو مبدأ لا يمكن فصله عن حرية التعبير، فالإعلام من يُحوّل حرية التعبير إلى واقع ملموس، من خلال نشر وتعميم وترويج المعلومات والأفكار، ما يؤدي إلى الارتقاء بالنقاش العمومي الحر، وهذا الأخير عماد مهم للمجتمع الديمقراطي. وبالطبع، تقتضي مهام نشر المعلومات والأفكار أن تكون وسائل الإعلام والصحافة حرة، تتمتع بكافة الضمانات الدستورية والقانونية والإجرائية التي تمكنها من النفاذ إلى المعلومات ونشرها دون أية رقابة سلطوية، ولها حرية التعليق على كافة القضايا التي تهم المواطنين.
  • الحق في الوصول إلى المعلومة: وتعني في المواثيق الدولية الحق في البحث والتحري عن المعلومات، والحق في نشرها، خصوصا تلك التي تتوفر لدى السلطات العمومية. ويكتسي هذا الحق أهمية قصوى، سواء بالنسبة للمواطنين الذين تتعزز قدراتهم على اتخاذ قرارات سليمة، أو بالنسبة للدولة التي قد تعزز قدراتها الإدارية والتنظيمية، ومن شأن ذلك أيضا أن يعزز الثقة بين الطرفين. وإذا كان من الطبيعي أن يُقيد هذا الحق باستثناءات، فقد وجب أن تكون محدودة ومفصلة في القانون، وفق ثلاثة شروط: -أن تكون الاستثناءات لحماية مصالح مشروعة، -أن يكون من شأن الكشف عنها إلحاق ضرر مؤكد، -وأن يتم تغليب معيار المصلحة العامة. على أن ينص القانون بأن تسقط تلك الاستثناءات بعد فترة من الزمن.

يستدعي تفعيل هذه المبادئ الدستورية الثلاثة على مستوى القوانين، احترام معايير دولية مستمدة من نماذج ديمقراطية مختلفة، يمكن الاستفادة منها والاستئناس بها في عملية إصلاح التشريعات الإعلامية عربيا، في أفق جعلها تشريعات قادرة على توفير بيئة قانونية تسمح ببروز إعلام مهني ومستقل وتعددي، ويتعلق الأمر بمعايير: الاستقلالية، النزاهة، وحرية تأسيس المنابر الإعلامية.

  • معايير رئيسية من أجل إصلاح قوانين الإعلام

يشكل الإعلام المستقل والنزيه والحر عماد المجتمع الديمقراطي، وهي معايير مترابطة ومتكاملة، لا يتصور وجود إحداها في غياب الآخر، ومن شأن الارتكاز عليها في أي إصلاح جدي وعميق لقوانين الإعلام والصحافة أن يسهم بدرجة معتبرة في توفير بيئة تشريعية جيدة لإعلام مهني.

  • الاستقلالية

ينصرف الذهن عند الحديث عن استقلالية الإعلام والصحافة نحو معنى غالب: الاستقلالية عن السلطة وتدخلاتها، وهو أمر طبيعي، لأن منطقتنا العربية اتسمت على مر العقود الماضية بسيطرة الأنظمة الحاكمة على قطاع الإعلام والصحافة. بيد أن معيار الاستقلالية يبقى أوسع من ذلك، بحيث يتضمن الاستقلالية عن تأثير رأس المال، وذوي النفوذ في الدولة والمجتمع كذلك.

ولهذا الغرض أنشئت مجالس تنظيم الصحافة لأول مرة في أوربا(السويد)، باعتبارها هيئات جماعية مستقلة عن السلطة، مهمتها ضمان استقلالية الإعلام، ولعب دور الوساطة بين الصحفيين ومؤسساتهم المهنية، وبين هؤلاء ومختلف فئات المجتمع، علاوة على تطوير أخلاقيات المهنة، وقد شكلت هذه المجالس أدوات فعالة لضمان حق الجمهور في جودة المنتوج. وبغض النظر عن اختلاف تجارب هذه المجالس من دولة ديمقراطية إلى أخرى، فإن المعيار المشترك بينها ظل هو فكرة “التنظيم الذاتي”، أي حرية المهنيين في تنظيم أنفسهم بتعاون مع مختلف الفاعلين في المجتمع (صحفيون، ناشرون، مجتمع مدني، منتخبون، قضاة،)، وباستقلالية عن السلطة.

غير أن تجارب المنطقة العربية، تشير إلى أن معظم هيئات تنظيم الصحافة والإعلام تسيطر عليها السلطة؛ ففي المغرب، على سبيل المثال، تسيطر الحكومة على الهيئة العليا للسمعي البصري، في غياب تام للمجتمع المدني والمهنيين، كما أن تمويلها مرتبط بميزانية الدولة أساسا. ورغم أن مدونة الصحافة والنشر نصت على تأسيس مجلس وطني للصحافة مستقل عن الحكومة، من صلاحياته التنظيم الذاتي للقطاع، والارتقاء بأخلاقيات المهنة، إلا أن هذا المجلس لم يتشكل بعد.

أما في مصر، فلا زالت الدولة تملك صحفا قومية، تدار بواسطة هيئة وطنية للصحافة تُعين بقرار من رئيس الجمهورية. وإذا كان تأسيس قنوات فضائية متاح من داخل المنطقة الإعلامية الحرة، فإن خضوع هذه الأخيرة لوصاية الهيئة العامة للاستثمار، -التي تتبع بدورها للدولة وتخضع لتوجهاتها السياسية-، يجعل حرية إنشاء وسائل الإعلام موجها في النهاية، وقد يؤدي إلى بروز ممارسات احتكارية في الإعلام من قبل رجال أعمال موالين للسلطة.

وتعد تونس استثناء في المنطقة، كونها تتوفر اليوم على تشريعات إعلامية متقدمة، ويعود السبب في ذلك إلى الدور الفعال لـ “اللجنة العليا لتحقيق أهداف الثورة” التي تشكلت عقب سقوط نظام بن علي (2011)، والتي أعدت قوانين منها: قانون الصحافة الذي أخرج وزارة الداخلية تماما من هذا القطاع، وقانون الإعلام الذي أحدث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري أعضاؤها مستقلون تماما عن الحكومة، ويمثلون المهنيين والمجتمع المدني والبرلمان، وتشرف على القطاع كاملا.

  • النزاهة

          تعد النزاهة الوجه الآخر للاستقلالية، فلا وجود لإحداهما دون الأخرى. وترتبط النزاهة بسلم من القيم، مثل الاستقامة، والشرف، وقول الحقيقة. وفي مجال الإعلام، تتجلى النزاهة، من جهة، في وجود معايير وأخلاقيات ومواثيق مؤطرة للمهنة والاحتراف الصحفي، ومن جهة أخرى في معيار التنوع المستند إلى فكرة الحق المتعدد الأبعاد، التي تقتضي في الممارسة منع الاحتكار وتمركز ملكية وسائل الإعلام في جهة واحدة. وعموما، يرتكز معيار النزاهة على شرطين: يتعلق الأول بتنظيم عمل الصحفيين، في حين يتعلق الشرط الثاني بالتنوع الإعلامي.

الشرط الأول: فيما يخص تنظيم عمل الصحفيين، منعت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فرض القيود على الصحفي، مهما كان نوعها، ونص الإعلان المشترك[vii] لسنة 2003 على أنه “لا ينبغي أن يشترط على الصحفيين الأفراد أن يحصلوا على ترخيص أو أن يسجلوا أنفسهم لدى أية جهة”، مثل نقابة الصحفيين أو غيرها، كما أنه “لا ينبغي أن تكون هناك أية قيود قانونية على من يمكنه ممارسة مهنة الصحافة”، بمعنى إقرار الولوج المفتوح إلى ممارسة المهنة.

وتشدد المواثيق الدولية على حماية الصحفيين من الضغوطات فيما يخص نقطتين بالغتي الأهمية: بطاقة الاعتماد، وحماية سرية المصادر. بشأن بطاقة الاعتماد، لا تمانع الهيئات الثلاث الموقعة على الإعلان المشترك حصول الصحفيين على “بطاقة اعتماد” إذا كانت ضرورية لولوج بعض الأماكن الخاصة، كالبرلمان والمحاكم، لكنها ترفض أن يتم سحب تلك البطاقة منهم بسبب محتوى أعمالهم، وتلح بأن تمنح بطاقات الاعتماد جهات مستقلة عن الحكومة، مثل مجالس الصحافة، أو البرلمان كما هو الحال في بريطانيا.

وتحمي المواثيق الدولية حق الصحفيين في عدم الكشف عن مصادرهم السرية، بحجة أن المس بهذا الحق قد يدفع المصادر للامتناع عن التواصل مع الصحفيين، وبالتالي لن يتمكن المواطنون من الاطلاع على المعلومات التي بحوزتهم، لذلك من البديهي أن تعتبر المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أن “حماية المصادر واحدة من الشروط الأساسية لحرية الصحافة”.

الشرط الثاني: يخص معيار التنوع، ويكمن أساسه القانوني في فكرة الحق المتعدد الأبعاد، فهو يرمي إلى تحصين الحق في نشر الأفكار والآراء، وأيضا الحق في تلقيها. وتتطلب حماية هذا الحق بيئة قانونية تسمح بميلاد إعلام متنوع يعكس التعددية في المجتمع. وقد حدد الإعلان المشترك حول تنوع الإعلام السمعي والبصري[viii] ثلاثة أبعاد لهذا الحق: المحتوى، والمؤسسة الإعلامية، والمصدر. وبديهي أن تنوع المصدر يؤدي إلى تنوع واسع في المحتوى.

ويستدعي معيار التنوع منع تمركز ملكية وسائل الإعلام والصحافة، ومنع الاحتكار كذلك، لكن لا يبدو أن المعيار يشكل أولوية في المنطقة العربية، لأن الأهم هو الولاء للحاكم. ففي مصر ليس هناك قانون يمنع الاحتكار، وإن أسند دستور 2014 هذه الوظيفة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ففي الواقع تتقاسم الدولة ورجال المال والأعمال ملكية معظم المنابر الإعلامية. أما في تونس التي منع الدستور والقانون بها الاحتكار، وأسند مهمة النهوض بذلك إلى الهيئة العليا المستقلة للسمعي البصري، فقد كشفت دراسة لـ “مراسلون بلا حدود” أخيرا أن 60 في المائة من المؤسسات مملوكة لرجال أعمال مقربون من السلطة كذلك. ولم يدخل المغرب تجربة التعددية في الإعلام البصري بعد، في حين تبدو التعددية الإذاعية موجهة.

  • حرية تأسيس المنابر الإعلامية

بدل التركيز على ملكية وسائل الإعلام، يبدو أنه من الأولى التركيز على حرية تأسيس المنابر الإعلامية، والمدخل كذلك هو تغيير القوانين واللوائح التطبيقية لها، كي تكون شفافة ومنصفة. خاصة وأن تأسيس مقاولة إعلامية، سواء كانت جريدة أو إذاعة أو تلفزيون أو صحيفة إلكترونية، يتطلب الإذن الرسمي من الدولة، التي قد تشتط وتحد من هذا الحق.

وفق المعايير الدولية، يجب التمييز، كلما تعلق الأمر بالصحف الورقية والإلكترونية، بين نظام الإذن ومتطلبات التسجيل. فالترخيص بإنشاء الصحف يعد غير شرعي في القانون الدولي، وقد اعتبرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في قرار لها أن نظام الترخيص مخالف للمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو التوجه المعتمد لدى الدول الديمقراطية، بيد أنها تعمل بنظام التسجيل، إما لأغراض إدارية أو قضائية (التعويض عن الضرر).

لكن المواطنين في الدول العربية يحتاجون إلى إذن مسبق قبل إصدار صحيفة، وحين يتعلق الأمر بالتسجيل تبرز عقبات عصية، تُستعمل غالبا للتحكم فيمن يُسمح له بتأسيس مؤسسة إعلامية. في المغرب، يتطلب إحداث جريدة تقديم تصريح من ثلاثة نظائر إلى المحكمة، لكن الممارسة أقامت تمييزا بين ما يسمى بـ”الوصل المؤقت والوصل النهائي”، وهو تعقيد قد يحد من حرية إنشاء الصحف. أما في مصر فقد جعلت سلطة الترخيص بيد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، لكن موقف الأجهزة الأمنية يبقى حاسما. وقد جعل القانون التونسي هذا الإجراء بيد القضاء كذلك.

أما بخصوص تأسيس قناة أو إذاعة، فإن المعايير الدولية تؤكد على ضرورة أن تتولى منح الترخيص سلطة مستقلة عن الحكومة، تحظى بتمثيل ديمقراطي، وتتمتع بالمصداقية والحياد، تتولى منح الرخص وفق معايير دقيقة يجب أن يتضمنها تشريع خاص، ومن الممكن منح هذه السلطة المستقلة صلاحية تنظيم المحتوى الإعلامي كذلك، بواسطة دفتر تحملات متوافق عليه بين هذه السلطة والمهنيين والمؤسسات الإعلامية، لكن هناك تجارب، مثل جنوب أفريقيا، تفصل بين سلطة الترخيص وسلطة تنظيم المحتوى، ويبدو أنه مفيد أكثر من غيره للتجارب الديمقراطية الناشئة.

خاتمة وتوصيات

          يتبين مما سبق أن الهوة بين المعايير الدولية وقوانين الإعلام العربية التي صدرت بعد ثورات سنة 2011 لا زالت كبيرة، بسبب اختلال بنيوي في ميزان القوى لصالح السلطة على حساب الحرية. ويعد تغيير القوانين مدخلا مهما، لكن ذلك يتطلب بناء توافق واسع بين المهنيين والحقوقيين والأكاديميين من أجل استئناف عملية الإصلاح، وهو توافق ممكن، كما تؤكد ذلك تجارب “اللجان الوطنية” التي تشكلت في البلدان الثلاثة (مصر، تونس، المغرب)، والتي أعدت قوانين متقدمة لولا التدخلات اللاحقة للسلطة التي أدت في مصر إلى التخلي عن “القانون الموحد” لتنظيم الإعلام، وأدت في المغرب إلى الالتفاف على قانون الصحافة والنشر بواسطة القانون الجنائي.

إلى جانب بناء التوافق، يمكن للصحفيين أن يلعبوا دورا محوريا في دفع الحكومات إلى تغيير القوانين والكف عن التدخل في القطاع، إذا هم حصّنوا مهنتهم من الغرباء، وتصدّوا للفوضى والرداءة فيما بينهم، باعتماد مواثيق شرف دقيقة ومفصلة تطبق بفعالية وإنصاف. ويمكن للأكاديمي أن يساعد في تطوير مهنة الصحافة بإعداد ونشر تقارير دورية ترصد الأخطاء المهنية الجسيمة للصحفيين قصد تلافيها. كما يمكن للصحفيين تطوير علاقات أفضل مع المجتمع وقواه الحية من خلال تبني تجربة “الوسيط” (الأمبودسمان) المعمول بها في بعض الدول مثل السويد، لعل ذلك يعزز العلاقة بين الصحفي والمجتمع، بالشكل الذي تضطر معه الأنظمة العربية إلى وضع قوانين أقل سلطوية وأكثر حرية.

—————————-

[i]  تعريف الكاتب: صحفي مهني في “أخبار اليوم”، حاصل على دبلوم المعهد العالي لإعلام والاتصال، وحاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية.

 المغرب في 2011، تونس في 2014، وفي مصر 2014 -[ii]

[iii] – انظر نص المشروع على جريدة الأهرام، عدد 47164 بتاريخ 23 يناير 2016.

[iv] – صنف مؤشر “حرية الصحافة العالمي” لسنة 2017، والذي تعده وتصدره منظمة “مراسلون بلا حدود” مصر في الرتبة 161 من أصل 180 دولة شملها المؤشر، الذي وصف مصر بأنها “أحد أكبر سجون الصحفيين في العالم”.

[v] – يتعلق الأمر بثلاث قوانين صدرت بشكل موحد هي: قانون الصحافة والنشر، وقانون يتعلق بالنظام الأساسي للصحفيين المهنيين، وقانون محدث للمجلس الوطني للصحافة.

[vi] – انظر نص التقرير على الرابط الإلكتروني التالي: https://www.hrw.org/ar/report/2017/05/03/302999

[vii] – أقصد “الإعلان المشترك بشأن تنظيم القيود على وسائل الإعلام والصحفيين والتحقيق في الفساد” الصادر سنة 2003 عن الثلاثي: مقرر الأمم المتحدة الخاص حول حرية التعبير والرأي، وممثل منظمة الأمن والتعاون في أوربا حول حرية الإعلام، والمقرر الخاص لمنظمة الدول الأمريكية حول حرية التعبير.

[viii] – وقع هذا الإعلان كل من المقرر الأممي الخاص بحرية الرأي والتعبير، الممثل الخاص لمنظمة الأمن والتعاون في أوربا لحرية الإعلام، المقرر الخاص بحرية التعبير والوصول إلى المعلومات في المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ومقرر منظمة الدول الأمريكية الخاص بحرية الرأي والتعبير.

Start typing and press Enter to search