رشا أبو زكي
مرّ 73 عاما على انعقاد مؤتمر بريتون وودز، ومن حينها، شهدت المؤسسات التي انبثقت عن المؤتمر، الكثير من التغييرات والتخبط والانتشار والنقد، والنقد الذاتي، تخللها فرض السيطرة على السياسات النقدية والمالية في عدد كبير من دول العالم، بالتزامن مع نشر مفاهيم ونظريات تعزز هذه السيطرة بما يتعدى الاقتصاد إلى المجتمع والثقافة وحقوق الإنسان وغيرها.
ففي العام 1944 بدأ صعود الولايات المتحدة الأمريكية نحو تبوء زعامة العالم، وفيما انكسرت وانتصرت وضعفت وقويت خلال فترات راوحت بين النمو والركود، استطاعت من خلال مؤسسات دولية متعددة الوجوه، إخضاع الأسواق لسيطرة شبه أحادية، محولة شعوب العالم إلى ماكينات تؤمن ديمومتها الاستقطابية، ومجندة الأنظمة للسير في مخططاتها “المقدسة”، لتصبح مجموعة من المفاهيم القائمة على أوهام، واقع يؤمن به مليارات البشر، هم بالواقع ضحايا هذه المخططات.
فمن المؤسسات المنبثقة عن بريتون وودز (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة) إلى المفوضية الأوروبية مرورا بالمنظمات الأقل فاعلية على المستوى الدولي، وصولا إلى صناديق ومؤسسات إقراضية وحتى مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، كلها تجتمع عند نقطة واحدة، وهي تأمين البيئة اللازمة لتدجين المجتمعات والأنظمة والاقتصادات بمشاربها كافة، من خلال ضخ مجموعة ضخمة من المفاهيم ومليارات الدولارات من القروض والمنح والمساعدات وآليات واسعة من السياسات التي تدور في فلك تأمين استمرارية المنظومة الرأسمالية وإحداث المزيد من التركز الاقتصادي والسياسي والقيمي.
إذ تتمحور المنهجية الجديدة لدراسة الفوارق الطبقية واللا مساواة الاجتماعية على السوق مثلا، فتحل مقاييس التوزيع والاستهلاك بديلا من مقاييس الإنتاج ووسائله وعلاقاته. ولا عجب، ما دامت الأسواق محور الحياة الاقتصادية الجديدة والطاقة المفترض أنها المحرك للكون في عصر العولمة، بناء على هذا الانقلاب يحتسب توزيع الدخل لا من خلال تقدير الثروة وحصص فئات السكان من الدخل الأهلي، بقدر ما يحتسب من خلال المداخيل والاستدلال على هذه من خلال الإنفاق بالدرجة الأولى. وتجري محاسبة التركز الاقتصادي (التعبير المهذب للاحتكار)، على خرقه قوانين التنافسية، المبدأ الرئيس لاشتغال الأسواق. وتلقى تبعات الفساد على تضخم الجهاز الإداري والموازنات “الثقيلة” والإنفاق على الخدمات الاجتماعية. وأخيرا ليس آخرا، يعاد النظر جذريا في مفهوم العدالة الاجتماعية بقلبه رأسا على عقب من مقياس المساواة إلى قياس الاعتراف بالتمايز والاختلاف[1].
ولعل أبرز المنظمات التي شاع صيتها سلبا بين غالبية المجتمعات في العالم هي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي[2] إضافة إلى منظمة التجارة العالمية وغيرها… ويعرّف[3] الصندوق والبنك نفسيهما على أنهما مؤسستان شقيقتان ضمن منظومة الأمم المتحدة تشتركان في هدف واحد، هو رفع مستويات المعيشة في بلدانهما الأعضاء. وتتبع المؤسستان منهجين متكاملين لتحقيق هذا الهدف، حيث يركز الصندوق على قضايا الاقتصاد الكلي بينما يركز البنك على التنمية الاقتصادية طويلة الأجل والحد من الفقر.
إلا أن تتبع الآثار التي تلحقها سياسات الصندوق وتدخلات البنك في الاقتصادات وهيكلتها، يظهر الكثير من الدمار والقليل من الفوائد التي كانت قائمة أساسا على تدابير محلية لا ترتبط حكما بوصفات الصندوق ومشاريع البنك. ولعل أبرز هذه الوصفات التي تلقى تندرا بين الاقتصاديين وتأففا بين المواطنين وترحيبا من قبل الأنظمة الواقعة في ورطات مالية ونقدية، هو ما يعرف بسياسات التكيّف الهيكلي. فالأخيرة أصبحت دواء لكل العلل، يتدخل الصندوق بتعليماته الموحدة بغض النظر عن التركيبات المعقدة للاقتصادات المأزومة، فيعلن في كل مرة أن حلول السيطرة على عجز الميزان التجاري وتراجع النمو وعجز الموازنة، تقوم على: رفع الدعم عن السلع والخدمات، الخصخصة، تجميد الأجور، تحرير سعر الصرف، تقليص التوظيف بالقطاع العام أو وقفه مع خفض الإنفاق العام أساسا، زيادة الضرائب…
أما الأهداف النهائية لهذه السياسة فهي تمكين الدول من سداد ديونها للصندوق بعدما تتحول إلى زبون دسم. هذه “الروشتة” القاسية انعكست تدهورا في الأوضاع الاقتصادية داخل العديد من البلدان، وارتفاعا في المعاناة الاجتماعية للمواطنين، خصوصا أن الأزمات ليست عملية حتمية ذاتية، وإنما نتاج سياسات محلية نقوم غالبا على سوء الإدارة والفساد والاحتكارات والمافياوية والضعف الرقابي وغيرها من الممارسات التي تتطلب معالجات مختلفة وبنيوية.
وفي حين يتم فصل السياسة عن الاقتصاد، وكلاهما عن القضايا الاجتماعية، يتطور مفهوم يقوم على أن “البلد الأكثر تطورا والذي توضع فيه السياسة وتطبق في خدمة الاقتصاد (الرأسمالي في الواقع) دون غيره، هو أفضل نموذج “للجميع”. ويجب على من يرغب في البقاء على المسرح العالمي، أن يقلد مؤسساته وممارسته”[4].
إلا أن التفاوت الصارخ ما بين الفقراء والأثرياء في العالم وداخل الدول ذاتها، إضافة إلى تصاعد الاضطرابات الاجتماعية وتدهور المؤشرات الاقتصادية واعتماد سياسات لا تتماشى مع واقع الركود والأزمات، كلها عوامل تظهر أن النظام العالمي المتبع أصيب بفشل ذريع. إذ أن حجم الأزمات يظهر أن إعادة توزيع الثروة العالمية وفق النظام المتبع اليوم يكاد يكون على خط فشل أكيد، ما يعني ضرورة البحث عن اقتصاد بديل، بمؤسسات بديلة وبهيكلية دولية تختلف تماما عن تلك القائمة، في الاقتصاد والسياسة والأمن والحقوق. ولعل أبرز مؤشرات الفشل، اندلاع الأزمة المالية العالمية، وضعف المبادرات الواقية من تكرارها.
وتطرح المؤسسات الدولية في عالمنا اليوم جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام. البعض يعتبرها وسيلة لتوزيع الثروة العالمية ما بين دول ثرية وفقيرة، والبعض الآخر يعدها مؤسسات تعمل من ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية ومهامها أنسنة الرأسمالية من خلال رفع شعارات التنمية ومحاربة الفقر والإقراض لتحسين السياسات، في حين يعتبر البعض أنها وجه سيء للعولمة، تقوم على استغلال الكثرة لمصالح القلة وتأمين دوام سيطرتها على مقدرات الدول. ليعدها البعض عدوا تجب مقاومته للحفاظ على الاقتصادات ومكاسب الشعوب، خصوصا في الدول النامية والضعيفة.
والملفت هنا، أن الأصوات التي ترفع هذه الشعارات متداخلة، وبعض خبراء الاقتصاد والمحللين والباحثين يجمعون على الاعتراف بوجود أزمة كبرى في عمل هذه المؤسسات وسياساتها، بالرغم من أنهم ينتمون إلى مدارس اقتصادية مختلفة. بذا، لم يعد موضوع مواجهة سياسات المؤسسات الدولية من صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وصولا إلى الناتو ومنظمات الأمم المتحدة، حكرا على المنظمات اليسارية، لا بل أصبحت المشكلات واضحة جدا إلى حد دخول الليبراليين والحداثيين وحتى المؤسسات الدولية ذاتها في خندق نقد مسار عمل هذه المؤسسات الدولية.
المرتكزات مختلفة بين موجهي الانتقادات، بين من يدعو لإصلاحات إنقاذية تنتشل هذه المؤسسات من ورطتها وخصوصا اهتزاز الثقة بدورها وأهدافها، مرورا بنقد ذاتي تقوم به هذه المؤسسات بعدما بثت تقارير مغلوطة وبعدما أدت سياساتها في بعض الدول إلى تأزيم مشكلات الاقتصادات، وصولا إلى دعوات لميثاق عالمي جديد، يقوم على تغييرات اقتصادية، تنبثق عنها مؤسسات جديدة بدلا من القائمة.
نحو “بريتون وودز” جديد؟
بعد بداية الأزمة المالية العالمية في العام 2008، اندفعت الأصوات الليبرالية مزاحمة أصوات اليساريين بغالبية مشاربهم الفكرية، داعية إلى تغييرات جذرية في سياسات المؤسسات الدولية، أو إجراء إصلاحات موضعية، وصولا إلى المطالبة بمؤسسات بديلة من القائمة. ويمكن من خلال الانتقادات التي طالت صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات (غالبية الانتقادات جاءت من عاملين سابقين أو حاليين في منظومة مؤسسات بريتون وودز)، تبيان مظاهر الخلل، لاستنتاج البدائل الممكنة والقادرة على تغيير مسار الأزمات ربطا بمصالح الفئات والدول المهمشة…
إذ قام خايمي جواياردو، ودانييل لي، وأندريا بسكاتوري من صندوق النقد الدولي ذاته، بدراسة خطط التقشف التي دعا إليها الصندوق ونفذتها الحكومات في 17 دولة في الأعوام الثلاثين الماضية. وركزوا على نوايا الحكومة بالمقارنة مع ما قام به المسؤولون الحكوميون في الواقع، لا على أنماط الدين العام فحسب. والواقع أن تحليلهم وجد ميلا واضحا من برامج التقشف إلى التسبب في خفض الإنفاق الاستهلاكي وإضعاف الاقتصاد. وهذا الاستنتاج، يشكل تحذيرا شديد اللهجة لصناع القرار السياسي اليوم.[5]
وبرز على رأس المنتقدين رئيس الخبراء الاقتصاديين الأسبق في البنك الدولي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد جوزف ستيغلتز، إذ يعتبر أن الأمر تطلب مرور خمسة عشر عاما واندلاع حرب عالمية قبل أن يقرر العالم أن يجتمع لمعالجة نقاط الضعف في النظام المالي العالمي التي ساهمت في إحداث الأزمة الاقتصادية الكبرى.
وفي حين هيمنت الولايات المتحدة وبريطانيا على مؤتمر بريتون وودز القديم، فإن الساحة العالمية اليوم مختلفة كثيرا. كذا، فإن مؤسسات بريتون وودز القديمة كانت قائمة على مجموعة من المبادئ الاقتصادية التي ثبت فشلها اليوم، ليس فقط في البلدان النامية، بل وحتى في قلب العالم الرأسمالي. ويعتبر ستيغلتز أن القمة العالمية المقبلة لابد وأن تواجه هذه الحقائق الجديدة إذا كانت راغبة في التحرك على نحو فعّال نحو تأسيس نظام مالي عالمي أكثر استقرارا وأقرب إلى العدالة[6].
وطال الاندفاع أيضا الكاتب والاقتصادي خوسيه أنطونيو أوكامبو الذي اعتبر أن البنية الدولية للنظام المالي العالمي تحتاج إلى إصلاح عميق. وشرح أن مسألة الدعوة إلى الإصلاح تشتمل على مشكلتين أساسيتين. فهي أولا تفتقر إلى المحتوى، ففي حال انعقد، لا أحد يستطيع أن يجزم بالمواضيع التي قد يناقشها مؤتمر بريتون وودز الثاني. والمشكلة الثانية أن العملية كانت على خطأ منذ بدايتها، مع استبعاد أغلب البلدان من المحادثات (في المؤتمر الأول). إذ أن الإصلاح الجذري لن يتحقق بلا منح البلدان الصناعية والنامية، والبلدان الكبيرة والصغيرة سواسية، الصوت الكافي. ويتعين على المؤسسات الدولية، وليس مجموعات من البلدان داخلها، أن تجهد لتحقيق الإصلاح هذا. وأبرز هذه الإصلاحات التركيز على مواجهة التقلبات الدورية، ومنع التراكم المفرط لرؤوس الأموال والاحتياطيات أثناء فترات الازدهار ومنع فقاعات أسعار الأصول من التغذي على التوسع في الائتمان. إذ أن أي نظام جديد لابد وأن يقوم على شبكة فاعلة من السلطات الوطنية والإقليمية تحت إشراف دولي حقيقي على المؤسسات المالية ذات التأثير العالمي.[7]
أما الاقتصادي الأمريكي بيتر بلير هنري، فقال بعد 5 سنوات من الأزمة المالية العالمية، إن التراجع السريع لثقة الاقتصادات الناشئة بمؤسسات بريتون وودز يصعب معالجته الآن، مع تباطؤ النمو والوهن الاقتصادي في الدول المتقدمة. وقد اعتبر هنري أن الدول المتقدمة تمسكت بنفوذها في المؤسسات المالية الدولية لأمد أكثر من المفترض، حتى مع خفوت لياقتها المالية. وهذه الدول هي سبب في إلحاق الضرر الكبير بالاقتصاد العالمي بفعل إهمالها للنصيحة التي طالما قدمتها للدول النامية. ووجد هنري أن الحل يقوم على تعهد زعماء الدول المتقدمة والنامية تعميق التزامهم بالإصلاح الاقتصادي والتكامل. ويستدرك أنه لن يتسنى للاقتصاد العالمي أن يصل إلى هذا الهدف إلا من خلال إعطاء الاقتصادات الناشئة صوتا حقيقيا في الإدارة العالمية، ما يعني الحد من تراجع الثقة وإعادة الشرعية للمؤسسات المتعددة الأطراف.[8]
نيري وودز، المستشارة السابقة لصندوق النقد الدولي ورئيسة دائرة الاقتصاد في جامعة أوكسفورد، تضع في كتاب “قوى العولمة” Globalizers))، مجموعة من الاقتراحات لمعالجة وإصلاح الخلل في عمل المنظمات الدولية وخاصة الصندوق والبنك الدوليين، وتعتبر في كتابها أن الولايات المتحدة الأميركية تتحكم بهذه المؤسسات وفق توجهاتها تاركة العالم يعيش على فتات طموحاتها التوسعية. وودز تشرح آثار تركّز القرار، في مقالة لها، بحيث أن التأخير في إصلاح صندوق النقد الدولي يثير انزعاج البرازيل وروسيا والهند والصين كثيرا.
ذلك بفعل زيادة مساهمة هذه البلدان في صندوق قروض الطوارئ التابع لصندوق النقد الدولي بعد الأزمة المالية العالمية إلى 15.5% من موارد الترتيبات الجديدة للاقتراض. ولكن هذه البلدان التي أضحت من أكبر عشرة مساهمين في الصندوق لم تنل ما وعدت به من زيادة قوة تصويتها وفق وضعها الجديد.
وكذا، بقيت تعهدات مجموعة العشرين بحماية البلدان والمجتمعات الأكثر فقرا وهشاشة من تأثيرات الأزمة بلا تنفيذ. وقد سلطت أزمة 2008 الضوء على ضرورة التعاون الدولي لتنظيم التمويل وتخفيف التأثيرات الناتجة عن الأزمات. ورغم ذلك فإن الموارد والأدوات المطلوبة لإدارة أو تجنب الأزمة التالية لم يتم توفيرها. وبدلا من هذا فإن البلدان تستكشف بهدوء أساليب أخرى لإدارة التمويل وخلق صناديق طوارئ وتعزيز تمويل التنمية. وهذه النتائج، تشير إلى المزيد من التفتت والابتعاد عن مركزية الأجهزة التنظيمية بالتزامن مع جهود متواضعة لإزالة عولمة التمويل والمساعدات.[9]
هذا الواقع الذي هز أسس العولمة الاقتصادية، انسحب شماتة طالت أميركا على وجه الخصوص. وتأثر الاقتصادي هارولد جيمس منتقدا محاولة تعميم الفشل على الجميع، طارحا سؤال: “ما العمل؟”. وكتب أن الأزمة المالية والاقتصادية كانت سببا في إفقاد النموذج الرأسمالي الأميركي مصداقيته، ثم أتى دور أوروبا، والآن يبدو الأمر وكأن آسيا تستعد لبعض الضربات. ويتابع أنه في أعقاب أزمة الرهن العقاري وانهيار ليمان براذرز، أشارت أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة بوصفها مثالا واضحا لحجم السوء الذي يمكن أن يحدث. فقد فشل النموذج الأميركي، بعد أن أضعف غزو العراق سمعته، ثم جاءت الأزمة المالية لتقضي عليه. والآن أصبح كل من راوده الحلم الأميركي بليدا أو غبيا. ومن ثم يطرح جيمس سؤاله: “ولكن إن كان الواقع هكذا بعد ما فشلت اشتراكية الدولة، فهل يعني ذلك أننا لن نعثر على آلية سليمة لتنظيم الاقتصاد؟”، وأنهى مقالته بلا جواب.[10]
مؤسسات بديلة وتعميق فهم التغييرات في بنية الإنتاج
حين نتطرق إلى محاولات تخيل شكل المؤسسات الدولية التي يمكن أن تنبثق من منظومة اقتصادية بديلة، تتبادر إلى ذهننا قضية التعاون في المؤسسات القائمة اليوم حول العديد من المسائل الجامعة بين الدول الأعضاء، مثلا محاربة تمويل الإرهاب، أو غسيل الأموال، أو التهرب الضريبي، ونلحظ بشكل جلي قدرة الدول الكبرى القائمة اقتصاداتها على النمط الرأسمالي، على فرض سياسات جامعة تضفي عليها صفة الإلحاح والأهمية القصوى والعاجلة في كل ما يهدد ديمومة النمط الاقتصادي المتبع، أو كل ما يهدد أرباح المؤسسات أو القلة المستفيدة من المنظومة الاقتصادية القائمة.
هنا، لا بد من عكس بوصلة التفكير، وطرح أسئلة تصيب عمق هذا “التعاون” الذي ينطلق محليا من دول المركز ليصبح قضية دولية أساسية: إن كان التعاون قادرا على رفع مطالب القلة، ألا يمكن لهذه السلسلة التعاونية المترابطة أن تطرح مصالح الأكثرية وتصل إلى تحقيقها بالفاعلية ذاتها التي تدار بها مصالح وامتيازات المتمولين؟ طبعا تستطيع، لكن، إن كان هيكل الاقتصاد العالمي قائما على الفردانية أو تعدد الأقطاب المسنود إلى تركز رأس المال في القوة المحركة للمطالب، ففي هذه الحال، يصبح رفع حقوق الأكثرية بحاجة إلى ضغوط قوية وقوى اجتماعية فاعلة ومنظمات ناشئة صلبة توصل العالم إلى أفق جديد.
وحين الدخول إلى آلية الضغط في منظومة التعاون الدولي حول قضايا محددة تطالب مثلا بسياسات تضمن العدالة الاجتماعية، لا بل من الدخول إلى آليات الاستجابة من قبل الجهات المستهدفة إن كان على الصعيد الدولي، الإقليمي أو الدولي، لمعرفة الأساليب الواجب اتباعها للوصول إلى توسيع شبكة التعاون وتحقيق الهدف المطلوب تحقيقه.
وهنا لا بد أيضا من طرح سؤال: هل الاستجابة ستكون آنية مرتبطة بالقضية المطروحة، أم متكاملة ومستدامة؟ هنا أيضا لا بد من توقع أن تحقيق الاستدامة في تلبية الشروط الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية والأمنية والبيئية وغيرها، تتطلب مؤسسات تمتلك الشرعية المجتمعية الواسعة والقدرة على التشبيك مع المنظمات والجمعيات في المجتمع المحلي وصولا إلى تعميم المبادرات إقليميا أو دوليا.
ويسأل سائل: ما الذي سيدفع الدول إلى الالتزام بشروط لا تتوافق مع مصالح النخبة فيها؟ والجواب يقوم على تكوين قوى ضغط واسعة ومتراصة قادرة على تهديد مصالح النخبة، لإجبارها على التنازل وصولا لتراكم المكتسبات وتغيير صورة طبعت اقتصادات الدول بالخنوع لمصالح خارجية ومصالح الأقليات المحلية.
وبشكل عام، يشكل عدم اليقين والمخاطر والتفضيلات القائمة على المصالح العامة من المتغيرات الأساسية التي تؤثر على الخيارات الأساسية في الدول. وتؤدي أهمية عدم اليقين إلى الدفع نحو اتباع منهج منطقي مقيد بالمخاوف، ما يدفع الدول إلى حساب التكاليف والبحث عن أسس للمساومة والتنازل.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى نجاح عدد كبير من المنظمات الدولية القائمة حاليا في تعميم وفرض شروط قاسية على الشعوب لتحقيق مطالب القلة، والنجاح هنا لا يعني بطبيعة الحال الموافقة على السياسات، وإنما استخلاص العبر من القدرة على تشكيل تكتلات فاعلة ترفع المطالب. وإن كانت هذه المنظمات قادرة على فرض قواعد القلة من منطلق أن الأخيرة تمتلك السطوة المالية، فإن القدرات الكامنة في الشعوب لا تقل قوة عن سطوة المال، والشروط التي تستطيع الأكثرية المهمشة في النظام العالمي الأقلوي فرضها، تحتاج إلى أذرع تمتلك التنظيم المؤسسي الصلب، والهيكل التعاوني المتراص، وآلية العقاب والمكافأة لمن يلتزم بالشروط ولمن يخالفها.
إذ أن تحقيـق العدالة الاجتماعية[11] والتوزيع العادل للثروات يتطلب نظاما اقتصاديا قائما على التكافل. وهنا، لا بد من طرح آليات فك الترابط القائم اليوم ما بين النظم التابعة والاستعمار الاقتصادي بأدواته المؤسساتية السائدة حاليا.
فالنظم في الدول الضعيفة خصوصا فقدت القاعدة الاجتماعية والسياسية لمشروعيتها، فسعت للتعويض عن ذلك بالتحالفات الدولية مع مراكز النظام الرأسمالي العالمي. وذلك بتحالفات طبقية واجتماعية مع رجال الأعمال والتوحد معهم في ظل الخصخصة والتحرير الاقتصادي. بالتأسيس لمشروعية إيديولوجية تستمد قوتها من ثقافة العولمة، ومن خلال علاقات الزبائنية، والانتفاع، والولاء، على أساس الانتماءات الأولية. وأخيرا من خلال المزيد من القمع والقسر والعنف وتجاوز القانون وانتهاك حقوق الإنسان والمواطن، لأن كل ما سبق ليس كافيا لتأمين تدفق الريع وضمان استقرار الحكم واستمرار شخص الحاكم وتوريث السلطة.[12]
وهذا الواقع، يفرض القيام بتغييرات جذرية في البنى السياسية وفك الترابط ما بين السياسة والمصالح الخاصة لمن يتولون زمام السلطة، لوقف ظاهرة ما يعرف بـ “القطط السمان”.
إذ أن بناء جبهة متماسكة للجنوب يفترض ضمنا مشاركة شعوبه، وفق سمير أمين، فالأنظمة السياسية في الكثير من بلدان الجنوب ليست ديموقراطية، إن لم نقل صراحة إنها كريهة. وهذه الأبنية الاستبدادية للسلطة تقف إلى جانب القطاعات الكومبرادورية التي ترتبط مصالحها بالتوسع الرأسمالي الإمبريالي العالمي.[13]
يجب، إذن، أن ينظّم الاعتماد المتبادل بحيث يفتح مجالا لتحسين شروط الإنتاج والمعيشة لصالح الشعوب والطبقات المغلوبة، أي بتعبير آخر: يجب أن تُدار مفاوضات صحيحة وصريحة على صعيد عالمي من أجل بناء (عالم متعدّد القطبية)، الأمر الذي يتطلب بدوره تجاوز آفاق الدولة – الأمة لمصلحة إقامة منظمات إقليمية ذات المغزى الاقتصادي والسياسي.
ومع تفاقم أزمة المؤسسات الدولية كانعكاس لورطة الرأسمالية، قليلون جدا من طرحوا أشكالا لمؤسسات دولية بديلة عن تلك القائمة، وبين القلة هذه يبرز سمير أمين أيضا، داعيا إلى إطلاق منظمة تقوم بالتخطيط بهدف تحديد حقوق الدول في الحصول على الموارد الطبيعية واستخدامها على صعيد الكون، الأمر الذي يتطلب بدوره تخطيط أسعار هذه الموارد. ولا بد من أن تكون هذه المنظمة مسؤولة عن تحديد أنصبة مختلف أقاليم المنظومة العالمية في تجارة المنتجات المصنوعة، مع الحاجة إلى تشجيع تصنيع المناطق الأكثر تخلفا، وهو شرط تحسين أوضاع طبقات الشعبية[14].
وأيضا، تأسيس نظام أسواق الأموال، بحيث تُوجه الفوائض المالية نحو الاستثمار المنتج في الأطراف. ويحل هذا النظام محل السوق المالية غير المنظمة، القائمة حاليا، والتي تعمل في الاتجاه المعاكس، فتشجع تصدير الأموال من الجنوب نحو الشمال، وخاصة نحو الولايات المتحدة التي تغطي عجز ميزان مدفوعاتها الخارجية بواسطة سيطرتها على هذه الأسواق المالية.
وكذا، تصفية النظام النقدي العالمي الحالي، الذي فات أوانه، وإلغاء وقاعدة الدولار وإحلال نظم نقدية إقليمية محلها، في أوروبا الغربية والشرقية ومناطق العالم الثالث، بفرض ضمان ثبات نسبي في أسعار الصرف، وتعزيز فاعلية الأسواق المالية[15].
وفي هذا الإطار تمكن إعادة النظر في برنامج المعونة الدولية، وتطوير دمقرطة نظام الأمم المتحدة. وكذا إنشاء نظام ضرائبي على صعيد عالمي من خلال إدارة الموارد الطبيعية وتوزيع الريع المنوط بها، وهو قاعدة سليمة من أجل إقامة نوع من البرلمان العالمي، بالتدريج، حيث تُمثل مختلف المصالح المجتمعية على صعيد الكون.
لكن، وبالعودة إلى الأساس، فإن مثل هذه الإصلاحات على صعيد عالمي لن تتحقق، كما يؤكد سمير أمين مرارا، إلا إذا تبلورت قوى اجتماعية تقدمية في إطار مختلف المجتمعات الوطنية المكوِّنة للعالم المعاصر، أي تكوين كتل اجتماعية واعية وقادرة على طرح بدائل حقيقية على صُعد الأقطار المعنية، تخلق بدورها أرضية ملائمة لتطوير النظام العالمي في الاتجاه المطلوب. وفي غياب مثل هذه التطورات في الأطر الوطنية أولا، ستظل مشروعات الإصلاح على صعيد عالمي حبرا على ورق، وستظل التنمية عاطلة، وسوف يتأجل إنعاشها.[16]
واقتراح بدائل عن المؤسسات الدولية القائمة، يقوم على تصور السياسات التي تحتاجها الشعوب أساسا والأنظمة ثانيا لتقوم بدورها المنطقي في إدارة شؤون المواطنين وتحسين معيشتهم. فالأمر لا يرتبط بمجموعة من الإصلاحات التي تحاك لتغيير مؤشرات اقتصادية بمعزل عن المحيط الاجتماعي، وإنما بعملية متكاملة ومترابطة من السياسات تؤسس لتغييرات بنيوية في المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبناء أسس للتنمية المحلية والمتواصلة في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية المرجوة. وتبدأ هذه العملية من المحلي والإقليمي وصولا إلى التأسيس لمؤسسات دولية لا تكتفي بانتقاد مساوئ الربط الرأسمالي للاقتصادات لصالح القلة، وإنما بتنفيذ سياسات قائمة على التوزيع العادل للدخل العالمي وتأسيس صناديق دولية مهمتها محصورة بالتنمية وتعزيز قدرات الشعوب في الإنتاج بدلا من تحويلها إلى مستودعات لاستهلاك بضائع الدول الكبرى.
بذا، لا بد أن يكون الإنسان ومصالحه محور سياسات المؤسسات الدولية في الاقتصاد البديل، وأن يكون الاقتصاد هو عملية لإدارة الإنتاج العام في الدول لتحقيق رفاهية المنتجين، لا أن يتمحور الاقتصاد حول مصالح قلة من الأثرياء على حساب الأكثرية.
وعلى التنمية المقترحة من قبل هذه المؤسسات أن تكون منبثقة عن حاجات المواطنين الفعلية إن كان من ناحية رفع مؤشراته المعيشية وصولا إلى تنمية قدراته الإبداعية والابتكارية للمحافظة على نسق التطور الاقتصادي والإنساني في آن. وكذا، لا بد من أن تضع هذه المؤسسات عملية تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي والإنتاجي في صلب أولويات سياساتها، لفك شبكة الترابط المهين والقسري والاستغلالي القائم ما بين مراكز الإنتاج وبلدان الاستهلاك.
كذا، يجب أن تقوم المؤسسات البديلة بحصر حجم الثروات الطبيعية العالمية وإعادة توزيع عائداتها من خلال اقتطاعات يمكن أن تكون ضريبية تجمع في صناديق هدفها إعادة توزيع الثروة ما بين بلدان متخمة بالموارد وبلدان لا تمتلكها. ومع التحول الاقتصادي والإنتاجي الحاصل على الصعيد التكنولوجي، لا بد من قيام مؤسسات تعيد النظر في أسس الملكية الفكرية، التي شكلت احتكارا للمعلومات وكذا لإعادة تصنيع المنتجات التي تفيد البشرية، خصوصا فيما يتعلق بالأدوية والمستلزمات الطبية، والبحث العلمي والمعرفة وغيره.
وأيضا، لا بد من الوقوف بصلابة من خلال برامج ومشاريع وأبحاث ودراسات تمولها هذه المؤسسات الدولية من الصناديق المنبثقة لكسر سلسلة الأوهام الفكرية التي تقول إن العولمة النيوليبرالية هي نهاية العالم، عبر إعادة دراسة الأسواق وإعادة تحديد الطبقات الاجتماعية وملامحها وخصائصها وآليات استغلالها، ودعم الباحثين بشكل واسع للخروج بنظريات تشرح ماهية الأزمات التي تعانيها المجتمعات اليوم، وما هي الحلول التي تراعي خصائص كل مجتمع وما هو مستقبل الاقتصاد وآليات التصدي لأنواع جديدة من استغلال الإنتاج البشري خلال المستقبل.
وكذا، لا بد من نشوء مؤسسات دولية بديلة، تعولم العمل النقابي، وتطرح علي أسس علمية أزمات الفئات العاملة وآليات تطويرها وتحسين أدائها الإنتاجي، وتحصين حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والصحية وغيرها، من خلال منظومة متكاملة تلغي الفوارق الكبيرة في الأجر والتقديمات القائمة بين الدول ما بين منتجين من الفئة ذاتها والقدرات ذاتها، ما يؤسس لإلغاء الاحتكار المعرفي والإنتاجي ما بين الدول.
مؤسسات دولية جديدة: طوباوية أم صورة المستقبل؟
هل من طوباوية في طرح كسر العولمة الرأسمالية؟ يجيب سمير أمين “أعتقد أن المشروع الكاسر للعولمة الرأسمالية هو المشروع الواقعي والوحيد. وأي تقدم باتجاهه لا بد أن يجد صدى عظيما لدى الشعوب، ويساعد في تبلور قوى اجتماعية هامة تنضم إليه على صعيد جميع أقاليم الكون.
أما الخطوة الأولى المطلوبة فهي تأمين شروط إعادة إنتاج القوى الأيديولوجية والسياسية القادرة على مواجهة تحديات الاحتكارات الدولية. أما مختلف أبعاد التحدي فهي: جدلية العلاقة بين العالمي والمحلي، جدلية العلاقة بين الديمقراطية السياسية والتقدم الاجتماعي جدلية العلاقة بين الفاعلية الاقتصادية وقيم المساواة والأخوة، تجديد الهدف الاشتراكي العالمي على ضوء الإجابات عن التساؤلات السابقة[17].
إلا أنه، وبالرغم من إمكانات التعاون والتضامن وتوجيه وعي الشعوب نحو مصالحهم عبر الاستفادة من انكشاف الرأسمالية بأزماتها ومصالحها، فإن العالم يسبقنا. إذ أن البدائل[18] لا يمكن أن يؤسس لها سوى المتضررين من السياسات القائمة، وهذا التأسيس يتبلور لدى دراسة ميكانيزم التغييرات في الأنماط الاقتصادية، ولا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة من دون دراسة ما يحدث من تبدلات، وصولا إلى معرفة التحديات وآليات المواجهة.
وإذا أردنا الحديث عن المفاصل الفكرية الاقتصادية في التاريخ المعاصر، سيتبادر إلى ذهننا ثلاثة أشخاص حملوا ثلاث نظريات كانت أولا أساسية في التأثير على الوضع العام للمنظومات الاقتصادية السائدة، وثانيا كانت نتاج الحراك الاقتصادي الذي ساد خلال فترة صياغة نظرياتهم. النظرية الأولى لآدام سميث في منتصف القرن الثامن عشر، كان النظام العالمي حينها ينتقل من الفلاحة إلى التجارة والخدمات، حيث ظهرت الطبقة البرجوازية كفئة اجتماعية صاعدة تريد تغليب مصالحها وتأمين استمرارية نفوذها المالي. ومن هذه البذور الاقتصادية نضجت أفكار سميث الذي نادى بتحرير الأسواق وفتحها أمام التجارة واعتبار السوق لديه من القدرة الكافية لتنظيم ذاته بذاته.
في منتصف القرن التاسع عشر جاء ماركس بنظريته، كانت المجتمعات حينها قد دخلت الثورة الصناعية، حيث تمظهر الاستغلال بشكله الواضح في المصانع والمزارع، وكان العمال والفلاحون هم الفئة الصاعدة ولكن من ناحية الظلم والحرمان.
في القرن الـ20، ظهرت الكينزية، من رحم التحولات الاقتصادية التي كانت سائدة حينها، حيث ارتفعت حدة الأزمات الاقتصادية المتزامنة مع نشوء الديكتاتوريات في غير بلد، فقامت نظريته علي دفع الديمقراطية في مقابل إعطاء الدولة مسؤولية في كبح فشل السوق في تنظيم نفسها ذاتيا…
أما اليوم، فنعيش في حالة من الارتداد الاقتصادي، أميركا التي حملت سميث على أكفها، تنقلب على مبادئه بالعودة إلى الحمائية وإغلاق سوقها والانسحاب من الاتفاقيات التجارية. أوروبا تهزها الأزمات والديون والانفصال والتفكك، والدول التي حملت الشيوعية كنظرية أساس في السابق مثل الصين، تتصدر واجهة العالم في صعودها الاقتصادي القائم على الاستغلال والاقتصاص من حقوق العمالة فيها.
وبموازاة ذلك، تشهد الأنماط الاقتصادية بذاتها تحولات كبرى، في الانتقال من الإنتاج السلعي إلى الإنتاج الذهني، مع صعود الرقمنة مصحوبة بتغييرات في بنية الإنتاج من الاعتماد على اليد العاملة نحو الاعتماد المتمادي على الآلات وهو مستقبلنا المتوسط والبعيد. ومع هكذا تحولات، ستختلف بالطبع آليات استغلال القوى العاملة، مع عدم نشوء نظريات تقيس حالات استغلال الإنتاج الذهني وانعدام قابلية معرفة قيمته الفائضة مثلا، لتحديد حجم انتفاع أصحاب رؤوس الأموال مقارنة مع حجم الخسائر التي يمنى بها المنتجون. خصوصا أن الرأسمالية بشكلها الحالي، تسعى إلى فرض الاحتكار الذهني علي نمط الإنتاج الناشئ هذا، فتقوم الشركات الكبرى بتكديس براءات الاختراع وشراء الأفكار التحديثية في الإنتاج الذهني، إلى حين أن تقرر إدخالها في سوق الاستهلاك.
عالم الغد لن يكون كما اليوم، والفوضى الفكرية والضآلة النظرية وضعف القدرة على تحليل التغييرات الاقتصادية التي تحصل أمام أنظارنا، يشي بمستقبل غامض ولكن فوضوي لا بد من الاستعداد لتأثيراته التي قد تمتد لسنوات طويلة. أما البدائل، فهي تحتاج إلى نهضة فعلية من الكبوة الفكرية السائدة، بأدوات تحليلية سنستكشفها سوية في القادم من الأيام وربما السنوات وحتى القرون.
ومن هذه البدائل ستنشأ مؤسسات محلية وإقليمية ودولية، تطرح قضايا لا نطرحها اليوم، وتحمل هموما لا نعرف عنها حاليا سوى القشور، وتؤسس لتحديات لا بد من دراستها، على أن تكون مصالح الشعوب هي الأساس، والنظم التي تتحمل مسؤوليات شعوبها هي المنطلق، فكما يقول بول كروجمان إن “الدول ليست شركات، ولا يمكن أن تدار بمنطق الربح الخاص وإنما بمنطق الربح العام الذي يتوخى المنفعة العامة حصرا”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فواز طرابلسي، الطبقات الاجتماعية في لبنان: اعتراف وجود، هنريش بل، 2014
[2] أنظر فتحي الشامخي، ما بعد الربيع العربي ومسؤولية المؤسسات المالية الدولية في تفاقم الفوارق الاجتماعية، في “كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية”، مؤسسة روزا لوكسمبورج ومنتدى البدائل العربي للدراسات 2016.
[3] الموقع الإلكتروني لصندوق النقد الدولي، https://is.gd/A2JLC3
[4] سمير أمين، الفيروس الليبرالي، دار الفارابي، 2003
[5] ROBERT J. SHILLER, “Does Austerity Promote Economic Growth?”, Project Syndicate, (Jan 18, 2012) https://is.gd/8mHIIG
[6] JOSEPH E. STIGLITZ, “Let’s throw away the rule book”, The Guardian (Nov 6, 2008) https://is.gd/SHf8ZC
[7] JOSÉ ANTONIO OCAMPO, “What Should Bretton Woods II Look Like?”, Independent (Nov 4, 2008) https://is.gd/T6GxKP
[8] PETER BLAIR HENRY, “The Global Trust Deficit”, Project Syndicate, (Jul 1, 2013) https://is.gd/TCpBNY
[9] NGAIRE WOODS, “Global Institutions after the Crisis”, Project Syndicate, (Sep 6, 2013) https://is.gd/B767ee
[10] HAROLD JAMES, “Schadenfreude capitalism”, Politico, (Nov 1, 2012) https://is.gd/rBu8O0
[11] أنظر سلامة كيلة، العدالة الاجتماعية والاقتصاد البديل في (كتاب: الاقتصاد البديل في المنطقة العربية “المفهوم والقضايا”)، مؤسسة روزا لوكسمبورج ومنتدى البدائل العربي للدراسات، 2016
[12] أديب نعمة، “الدولة الغنائمية والربيع العربي”، دار الفارابي، لبنان، 2014
[13] سمير أمين، “الفيروس الليبرالي”، دار الفارابي، 2003
[14] المرجع السابق
[15] المرجع السابق
[16] سمير أمين، “في مواجهة أزمة عصرنا”، سينا للنشر-مؤسسة الانتشار العربي، 1997
[17] المصدر السابق
[18] أنظر وائل جمال، “اللبنات الأولى لاقتصاد بديل”، مؤسسة روزا لوكسمبورج، منتدى البدائل العربي للدراسات، 2017، http://cutt.us/zHEfO