من أجل اقتصاد تشاركي بديل:

الجهاز الإداري للدولة وأدواره

هبة خليل



Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [2.59 MB]

أي مخطط لاقتصاد بديل يتجاوز الاحتكار والرأسمالية الحالية، يتطلب دولة وجهاز إداري وتنفيذي له استقلالية في اتخاذ القرار، وله علاقة قوية بالمجتمع والقطاع الخاص، خصوصا المنتجين بكافة تنظيماتهم، بما فيها التعاونيات الإنتاجية وتنظيمات العمال. فوجود الهيكل الإداري المستقل وغير الفاسد من أهم شروط الانتقال إلى اقتصاد بديل يتجاوز النظام النيوليبرالي الحالي، ويتحدى المنطق الرأسمالي المسيطر. الطريق لأجل التحول لاقتصاد بديل، يتطلب تنظيم إداري قوي لحماية هذا الاقتصاد من أعدائه بالداخل والخارج من أصحاب المصالح الرأسمالية، فالاقتصاد البديل بالضرورة سيكون له أعداء يحاولون إحباطه من أجل الحفاظ على المصالح الاقتصادية والسياسية. لذا، وجب التفكير ليس فقط في خلق، وإنما أيضا في حماية واستمرارية الاقتصاد البديل، ضد بعض القوي الرأسمالية الداخلية وقوى الرأسمالية الإمبريالية الدولية، بما فيها المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية.

وهكذا، فمع تخيل شكل الاقتصاد الجديد، يجب وأن نبدأ في الإعداد لشكل الدولة التي يجب أن تصاحبه. وبالرغم من أن بعض أشكال الاقتصاد البديل لا تنبع بالضرورة من الدولة، بل تطورت وتتطور حاليا بأشكال متعددة على أيدي عمال ومواطنين وفلاحين، إلا أن الهيكل الإداري للدولة من شأنه أن يدعم تلك الأشكال، أو أن يحبط عملها ويعطلها، كما يفعل الهيكل الحالي للدولة النيوليبرالية في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما العالم العربي، بتعنته مع كل أشكال الاقتصاد غير الرسمي والعمل غير المنظم، وتقييده لأشكال الإنتاج التعاوني وكافة أشكال التضامن الاقتصادي والاجتماعي.

ولذلك، يتطرق هذا البحث للشكل التنظيمي والهيكل الإداري للدولة الذي يجب أن يصاحب تصورنا للاقتصاد البديل، وبشكل خاص، ويناقش علاقة البيروقراطية، أو الجهاز الإداري للدولة برجال الأعمال/ القطاع الخاص/ رأس المال الخاص، من ناحية، وعلاقة الدولة واتحادات العمال والفلاحين، والنقابات والتعاونيات، من ناحية أخرى.

من الجدير بالذكر، أن تصورنا للاقتصاد البديل سيحدد العديد من خصائص وأدوار الدولة، وعلاقاتها بالقطاعات المجتمعية المختلفة. فعلي سبيل المثال، قد يكون تصورنا للاقتصاد البديل الذي يتجاوز النيوليبرالية الحالية أنه اقتصاد يسمح بالملكية الخاصة، ولا سيما ملكية قطاعات الإنتاج بشكل خاص، وذلك مع التدخل في تخطيط وتنظيم هذا الإنتاج. وقد يكون تصورنا للاقتصاد البديل أنه يعيد الملكية للشعب، ويغير علاقة الدولة بالإنتاج من ناحية وبالمواطنين من ناحية، حيث تكون ملكية الإنتاج وآلياته عامة، واتخاذ القرار فيه والتخطيط أيضا عام، أي من اختصاص دولة، وتشاركي، أي بمشاركة المواطنين في كيفية إدارة الاقتصاد. وفي كل الأحوال، فالوضع الحالي للاقتصاد في دولنا يحتم علينا الانتباه إلى أن ثم مرحلة انتقالية يجب أن نمر بها، من أجل الوصول للشكل المرجو من الاقتصاد البديل. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاقتصاد البديل يجب أن يكون تشاركيا، أي أن شكل الاقتصاد سيتحدد طبقا لأشكال التنظيم الموجود في المجتمع وحسب أنماط الإنتاج البديلة التي يتبناها المواطنون من أجل بناء اقتصاد تشاركي وتضامني. ومن هنا، يطرح هذا البحث أهم مواصفات وأشكال التنظيم على مستوي الدولة والجهاز الإداري والبيروقراطي، وكذلك أهم العلاقات التي يجب أن تتخلل هذا النظام لتحقيق تشاركية الاقتصاد.

مقدمة: أهمية الدولة والجهاز الإداري في تحقيق الاقتصاد البديل

يأتي هذا البحث في إطار تساؤلات نطرحها نحن والعديد من الاقتصادين والمهتمين بالشأن العام وبالتغيير الثوري تتعلق بمدي إمكانية التحول من نظام اقتصادي نيوليبرالي، إلى نظام بديل، يضع مصلحة ورفاهة المواطن كأولوية، ويعمل من خلال إطار ومنهج شامل وموحد في اتجاه التنمية الحقيقية، بشكل تضامني وتشاركي. والتنمية هنا ليست بمفهوم البنك الدولي، أو الأمم المتحدة، وهو المفهوم الضيق للتنمية، والذي لا يدعو لتحدي الأسس الهيكلية للإفقار والأسباب الجذرية لإعادة إنتاج عدم المساواة والطبقات المحرومة في دولنا بشكل مستمر. فهذا المفهوم الضيق للتنمية هو ما ينتج عن الفكر النيوليبرالي، والذي يعمل جاهدا على فصل السياسات النيوليبرالية عن آثارها ونتائجها في الواقع، والتي تتسم بالإفقار والمعاناة من قبل المواطنين. وبدلا من ذلك، تتركز سياسات التنمية للمؤسسات النيوليبرالية على علاج ما تراه كـ”خلل” مؤقت في المجتمع، دون الولوج لأسباب إنتاج هذا الخلل، أو الاستفسار حول العلاقة بين السياسات التي تدعمها تلك المؤسسات بل وتفرضها كشروط للديون والمنح، وبين عملية إنتاج الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وإنتاج الفقر والحاجة. ومن هنا، فالتفكير في اقتصاد بديل يأتي كبديل لنموذج التنمية القائم، وكبديل للنظام الاقتصادي العالمي الذي يتم تطبيقه في مختلف أنحاء العالم.

كما يـأتي هذا البحث في إطار محاولة جدية من قبل العديد من الباحثين في العالم العربي لطرح نموذج واضح ومفصل لاقتصاد بديل، عادل وتشاركي، نموذج باستطاعته أن يتحدى المقولة السائدة بأنه ليس لدينا بديل[1]، وأن يبني على الانتقادات الواسعة للنظام الحالي، سواء من قبل المواطنين، أو العاملين، أو الاقتصاديين أو الحركات الاجتماعية، وغيرهم.

كما يأتي هذا البحث للإجابة عن سؤال هام حول كيفية تطبيق سياسات الاقتصاد البديل على أرض الواقع، وهو السؤال الذي يطرح أهمية دراسة المؤسسات والقوانين وأهم الفاعلين في المجتمع، من أجل تخيل خطوات التطبيق، ومسؤوليات الإنفاذ، ومعها التحديات المتوقعة. والتحول الاقتصادي ليس ظاهرة غير مسبوقة بالطبع، فكل الدول تمر بفترات من التحول الاقتصادي، تتغير معا المؤسسات والقوانين، وعلاقة الدولة ومجتمع الأعمال من ناحية وعلاقة الدولة والعمال وفئات المجتمع من ناحية أخري. ولهذا، فنحن لا نحتاج لتخيل ظاهرة غير مسبوقة، بل يسعنا الاستفادة من دروس عملية وتجارب فعلية مرت بها دول من أجل التحول الاقتصادي الجاد، وهو التحول الذي يقضي على أي أسس للفساد أو السيطرة على رؤوس الأموال، في سبيل رؤية منهجية وواضحة لتنمية المجتمع ككل، خصوصا من خلال إعادة توزيع الثروة بشكل هيكلي (وليس بشكل يعالج بعض مظاهر الأعراض ولا يتعرض للأسباب الجذرية للأزمات الاقتصادية التي لا تنتهي، كسياسات التحويلات النقدية التي يتبناها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مصر والعديد من دول “الجنوب” حاليا).

ومن هنا، يأتي هذا البحث لتصور، أولا، شكل مؤسسات الدولة التي ستقوم بإطلاق وتنفيذ سياسات الاقتصاد البديل، وثانيا، الأدوار التي يجب أن تلعبها الدولة في هذا الإطار، بداية من التخطيط، وحتى التنفيذ التشاركي مع قطاع الأعمال والعاملين وتنظيمات المواطنين المختلفة. فالاقتصاد البديل لا يقوم فقط على العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة، ولكن يقوم أيضا على أسس التشاركية الفعالة للمواطنين، وتضمين حقوق المواطنين في التنظيم والتعبير عن الرأي والمشاركة في صنع القرار.

وقبل الولوج في شكل المؤسسات وأنواع الأدوار التي يمكن أن تلعبها الدولة، وجب التنبيه لأمرين في غاية الأهمية:

أولا، حول نظرية تدخل الدولة في السوق والاقتصاد

لعل من أهم ما يدعيه أنصار النيوليبرالية، أو نظام اقتصاد السوق الحر الغير منظم، هو أن الدولة لا دور لها في الاقتصاد. فمنذ بداية تطبيق النيوليبرالية كما نعرفها اليوم، خصوصا في عهد مارجريت تاتشر في المملكة المتحدة، ورونالد ريجان في الولايات المتحدة الأمريكية، والنظرية الاقتصادية لا تعترف بدور الدولة، سوي في خلق مناخ يشجع الاستثمار[2]. ولعل هذا الادعاء من أهم أساطير الرأسمالية النيوليبرالية في العصر الحالي. فالدولة تحت النظام النيوليبرالي لم تختف، بل غيرت نوع الأدوار التي تلعبها. فعلي سبيل المثال، تلعب الدولة دورا هاما في حماية الاستثمارات والشركات ورأس المال الخاص، والممتلكات الخاصة، وذلك بدلا من دور الدولة في حماية العمال على سبيل المثال. فلو اتخذنا مصر مثالا، لوجدنا أن الدولة انتقلت تشريعيا، ونظريا، وعمليا من حماية حقوق العمال في العهد الناصري، والذي لعبت فيه الدولة دورا كبيرا في الاقتصاد وفي التصنيع، إلى دورها الحالي الذي يتضمن تشريعات تجرم إضرابات العمال، وذلك للحفاظ على “عجلة الإنتاج” التي تخلق أرباحا خاصة لمستثمرين ورجال أعمال، وذلك على حساب استغلال العمال بأجور منخفضة، وظروف عمل قاسية ولا تضمن حق في استمرارية العمل من خلال عقود نافذة أو غيرها من الحقوق التي تضمن الأمان الوظيفي والمادي للعمال. وقد جاءت تلك التغييرات الجسيمة في سياسات سوق العمل تحت مسمي “مرونة” سوق العمل، والهدف منها “تحرر” القطاع الخاص من أي التزامات اتجاه العمال أو اتجاه المجتمع والتصنيع، وذلك حماية لحقوق المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال. وهكذا، فالادعاء بأن الدولة لا دور لها في النظام النيوليبرالي، ما هو إلا أسطورة. ففي واقع الأمر، وكما يوضح المفكر ديفيد هارفي (2005)، فإن السياسات النيوليبرالية تميل إلى منح الحماية والحرية فقط لرأس المال، وغالبا ما تسير جنبا إلى جنب مع التدابير الاستبدادية وغير الديمقراطية، بما في ذلك فرض القيود على الاحتجاجات والتنظيمات النقابية والتعاونيات، وذلك باسم حماية رأس المال والاستثمار[3]. وهكذا، وجب التأكيد أن دور الدولة وتدخلها في ذاته ليس المشكلة، ولكن السؤال في تحديد هوية هذا الدور، وأهدافه، ومحاوره وأنواع تدخلاته.

ثانيا، حول دور الدولة في رسم السياسة العامة ولعب الأدوار المختلفة في النظام الاقتصادي

من الأساطير التي يجب أن نبددها قبل البدء في رسم معالم مؤسسات الدولة وهياكلها وإدارتها هي أسطورة أن الاقتصاد الحر يمنح الحرية لرأس المال والاستثمارات بدون استراتيجيات أو خطط اقتصادية، وهي المعروفة أيضا بنظرية “اليد الخفية” (للسوق الحر الذي يدير نفسه) لآدم سميث التي أسئ فهمها. فالتجارة خير مثال لأسطورة عدم التخطيط واليد الخفية، والتي تعيد نشرها منظمة التجارة العالمية على سبيل المثال، وتسعي لفرضها كواقع لا يمكن مجادلته على الدول النامية. ذلك في حين احتفظت الدول المسماة بدول العالم الأول بامتيازات التطبيقات التفاضلية والاستراتيجية وبالحق في تخطيط الاقتصاد. فحين أن منظمة التجارة العالمية تفرض على الدول الأعضاء من الدول النامية أن تلتزم باتفاقات تلغي الجمارك تماما على السلع والخدمات المستوردة، بما فيها المنتجات الغذائية والزراعية على سبيل المثال، نجد أن دولة مثل الولايات المتحدة تطبق التجارة الحرة فقط على قطاعات معينة، وذلك حسب استراتيجية اقتصادية وتخطيط خاص، فلا تنطبق مبادئ التجارة الحرة على العديد من المنتجات الزراعية كمنتجات ومستخرجات الذرة، فتنتهج الولايات المتحدة نهجا حمائي لضمان حماية المنتجين المحليين، وهو ما يتنافى ومبادئ منظمة التجارة العالمية، وما يتنافى مع الاتفاقات التي التزمت بها دولنا نحن، والتي نصت على أن التجارة الحرة هي بما يماثل التخلص من الحدود بين الدول، بدون تمييز بين السلع أو الخدمات التي تتحرك بحرية عبر الحدود. بالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست مثال يحتذي به بأي شكل من الأشكال، وتعاني من معدلات فقر وعدم مساواة وحرمان أبشع من تلك التي تعاني منها دولا فقيرة، إلا أن ما تفعله الولايات المتحدة من حيث التجارة يعد تخطيط، ورسم استراتيجية، لتنفيذ سياسات مستهدفة، وهو ما يعد من أهم خصائص دولة وإدارة الاقتصاد البديل، وهو القدرة على رسم سياسات مستهدفة واستراتيجية واضحة المخرجات، بقصد تحقيق الرفاهة والتنمية، وإشراك المواطنين والمجتمع في رسم تلك السياسات.

وهكذا، فتجاوز النظام الرأسمالي النيوليبرالي لا يتطلب إشراك الدولة فيما لم تسترك فيه مسبقا، ولا يتطلب خلق العديد من المؤسسات والهياكل الغير موجودة بالفعل، ولكنه يتطلب تغيير دور وتدخلات الدولة، حسب تغيير أهداف ورؤى الاقتصاد البديل.

هياكل الدولة المؤثرة على الاقتصاد البديل والبيروقراطية

ينطلق هذا البحث من فرضية أن الاقتصاد البديل لا يمكن أن يعتمد على المجتمع فحسب، دون مؤسسات الدولة، التي من شأنها ليس فقط تشجيع القطاعات المختلفة، ولكن أيضا التدخل لحمايتها، لفض نزاعاتها، والعمل على خلق سياسة متماسكة وموحدة وشاملة تجمع كافة القطاعات الصناعية، والزراعية والمجتمعية تحت مظلتها. ومن ثم، فهناك العديد من الهياكل التي يمكن أن يرتكز عليها تطبيق سياسات الاقتصاد البديل تلك: فتطبيق السياسات لا يحدث في فراغ، ولذا كان من المهم البحث في الهياكل والأشكال الإدارية والمؤسسية التي يمكن أن تطبق اقتصادا بديلا بمشاركة المجتمع.

أولا، يطرح سؤال الهياكل مشكلة المركزية مقابل المحلية، فكيف يمكن للهيكل الإداري للدولة العمل على المستويين المركزي والمحلي، بشكل يحقق أهداف الاقتصاد البديل بكفاءة؟

وهنا، يجب الموازنة بين أمرين هامين: التخطيط، والتشاركية. فالتخطيط في الاقتصاد البديل يجب أن يكون مركزيا، ولاسيما أن ملكية العديد من عناصر الإنتاج قد تكون خاصة أو عامة. ولكن التخطيط للاقتصاد البديل يجب أن يكون شاملا وموحدا ومتماسكا. فالاقتصاد البديل هو اقتصاد تضامني، وعادل، يعمل تحقيق الرفاهة في المجتمع وتلبية احتياجات المواطنين المختلفة. لذا، فالتخطيط يجب أن ينبع من إدارة مركزية موحدة، تعمل على تطوير خطة شاملة للاقتصاد ككل، وعلى الإشراف على تنفيذها، وتسهيل كل العقبات من أجل تحقيقها. وهكذا، فيجب أن يتواجد شكل إداري مركزي للتخطيط وتسهيل التنفيذ سواء على مستوي القطاعات المختلفة، أو على مستوي المحافظات والمدن المختلفة.

وفي الوقت ذاته، يتطلب شكل الاقتصاد البديل أن تكون الإدارة محلية، حتى يتمكن الاقتصاد من تحقيق التشاركية، والقاعدة التضامنية للمواطنين، سواء من خلال التعاونيات الإنتاجية والفلاحية أو من خلال العلاقة مع العمال والاتحادات المختلفة للمهنيين والطلبة وغيرهم من قطاعات المجتمع. كما أن التخطيط المركزي يجب أن ينبع من دراسة للواقع المادي في المناطق الجغرافية المختلفة، وأن يعمل على التفاعل مع متطلبات كل قطاع وكل نطاق جغرافي حسب إمكاناته وحاجات مواطنيه. لذا، فالإدارة المحلية لها دورا هاما في جعل الاقتصاد البديل فعالا، وناجحا في الواقع، بدلا من مجرد خطة مركزية لا يمكن تحقيقها.

وهكذا، فإدارة الاقتصاد البديل يجب أن تجمع بين المركزي والمحلي، بأشكال تتناسب ونوع الاقتصاد البديل. ولكن في كل الأحوال، يجب أن يصاحب الانتقال للاقتصاد البديل خلق لإدارة تخطيط، تختلف عن وزارات التخطيط التي نعرفها في دولنا حاليا. ففي مصر، على سبيل المثال، تتمتع وزارة المالية بكافة الصلاحيات وتعتبر هي المسؤولة عن التخطيط، فيما تعتبر مصلحة الضرائب إدارة تابعة لوزارة المالية مسؤولة فقط عن تجميع الدخل لوزارة المالية، وتلعب وزارة التخطيط دورا محدودا في التنمية (بمفهوم البنك الدولي)، وبعض الاستثمارات الحكومية، ولكنها لا تتخذ قرارات التصنيع أو الاستثمار أو الزراعة أو غيرها. أما في الاقتصاد البديل، فيتعين أن تخلق الدولة إدارة للتخطيط الشامل، تشتمل على خبراء من كافة القطاعات، الزراعية والصناعية، والتعليم، والصحة، والمالية وغيرها، وذلك بهدف خلق وحدة واحدة أو فريق موحد في الهيكل الإداري للدولة للتخطيط الشامل للاقتصاد، بداية من أهداف التصنيع وأشكاله، ووصولا إلى أدوار الدولة وعلاقاتها بالمجتمع، وكيفية تنفيذ هذا التخطيط بشكل شامل وفعال.

كما يجب أن تكون تلك الإدارة هي الأكثر تواصلا مع المجتمع، سواء كان مجتمع الأعمال أو مجتمعات المنتجين التضامنيين، والعمال وغيرهم. فالتخطيط والتنفيذ لن ينجح دون مشاركة حقيقية من كافة قطاعات المجتمع التي ستتبني الخطة الشاملة للاقتصاد البديل. لذا، فيجب أن يكون للعمال، والفلاحين، والتعاونيات، وأصحاب الأعمال من القطاع الخاص، تمثيلا ومشاركة فعالة في إدارة التخطيط، يضمن مشاركة الجميع، والتضامن في تنفيذ الانتقال، وحماية الاقتصاد البديل خاصة في بداية تنفيذه، من كافة الضغوط والهجمات المحتملة من أصحاب المصالح الرأسمالية.

ثانيا، خلق المؤسسات وحده لا يضمن كفاءة التنفيذ والإدارة. فكيف نضمن أن تكون الإدارة، سواء إدارة التخطيط المركزية أو إدارات القطاعات المختلفة، على كافة المستويات (المركزية والمحلية)، ذات كفاءة، ولا تعاني من الفساد والرشاوى، أو من التخبط في القرارات؟

بالإضافة إلى شكل الهيكل الإداري للدولة، فإن أهم ما يجب الالتفات له في بناء وتحويل المؤسسات هو الكفاءة في اتخاذ وتنفيذ القرارات الاقتصادية والصناعية. وقد توجه بعض المفكرين في العقود الماضية لمحاولة وضع نموذج للدول ذات الكفاءة خصوصا في تنفيذ التنمية الاقتصادية والتحول الاقتصادي، وشكل مؤسساتها. ولعل من أفضل الكتابات هي تلك التي جاءت في إطار “الدولة التنموية” محاولة تطوير نماذج للدول بناء على تجارب دول شرق آسيا، وعلى رأسها اليابان وكوريا الجنوبية. ولذا سأستند في هذا البحث إلى بعض الأدبيات التي جاءت في إطار الدولة التنموية، والتي في مفهومها تشابه الاقتصاد البديل من حيث خطط التحول الاقتصادي، ومن حيث أنها تؤسس لنظام اقتصادي مغاير للنظام العالمي. ولعل الفارق الأساسي بين مفهومنا للاقتصاد البديل ومفهوم الدولة التنموية يكمن في التشاركية: فالدولة التنموية في تأسيسها لم تكن تشاركية، بل وكانت في بعض الأحوال مهددة لحقوق قطاعات من المواطنين والعمال، بسبب تمييزها لأهداف التنمية الاقتصادية والتحول الصناعي، فوق مصالح مجموعات من المواطنين والعمال. ولعل الدولة التنموية أقرب للدولة الناصرية، منها لدولة الاقتصاد البديل. ولكنها تتقارب مع الاقتصاد البديل التشاركي من حيث التخطيط المركزي، وتحدي الرأسمالية العالمية، وتفضيل الصالح العام على المصالح الخاصة لرجال أعمال أم مستثمرين.

بدراسة أدبيات حول الدولة التنموية، نجد أن “الكفاءة” في تخطيط وتنفيذ السياسات الشاملة مرتبطة ارتباطا وثيقا بأمرين، أولا بالهياكل والإدارة، الممثلة في البيروقراطية، وثانيا، بشكل العلاقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع.

يصف الكاتب فيفيك شيبر (2004)[4] هذه المكونات المسؤولة عن كفاءة تنفيذ خطط التنمية بأنها صفات “داخلية” و “خارجية” للدولة، وهي المسؤولة عن تحديد قدرة وكفاءة المؤسسات. فيرى شيبر أن قدرة وكفاءة الدولة تستند إلى خصائص جوهرية وداخلية، أهمها تماسك البيروقراطية واستقلاليتها، في صناعة وتنفيذ القرارات. أما الصفات الخارجية التي تميزت بها الدول التنموية فهي تتعلق بقدرة الدولة على “استخلاص الامتثال والأداء من الشركات الخاصة” وهو ما يسميه شيبر قدرة الدولة على “تهذيب” رأس المال[5]. وبنفس المنطق، يسلط بيتر إيفانز[6] الضوء على ضرورة الجمع بين القدرات الداخلية والخارجية على حد سواء. فمن أجل ترأس عملية التحول الصناعي والتحول الهيكلي الاقتصادي والاجتماعي، تحتاج الدول التنموية إلى تحقيق التماسك الداخلي، ويتم ذلك من خلال البيروقراطية، التي يؤكد إيفانز أنها يجب أن تقترب من البيروقراطية المثالية التي وصفها ماكس فيبر، فتقوم على الخصائص الآتية: اختيار الأعضاء حسب الجدارة ومن بين أفضل الخريجين، وتوفير المكافآت المهنية على المدى الطويل التي تضمن ولاء ومهنية البيروقراطيين، ومنع اختلاط طبقة البيروقراطيين بطبقة أصحاب الأعمال، رغم أهمية أن تربطهم علاقات وطيدة بالقطاع الخاص والتعاوني والتضامني بكافة أشكاله. يري إيفانز أن الجهاز الداري للدولة يجب أن يملأه فقط الإداريين من مستوي اجتماعي وخلفية اجتماعية ودراسية موحدة، حتى يخلق حوافز في الجهاز الإداري لقدرة الإداريين على تولي أي منصب والارتقاء بمسؤولياتهم داخل البيروقراطية، كما تخلق الخلفية التعليمية المماثلة للإداريين تماسكا داخليا للجهاز الإداري، وضمانا للدولة أن تعمل بشكل مستقل. ومن الجدير بالذكر، أن من أهم شروط استقلالية البيروقراطية، هو ضمان الفصل التام بين الإداريين وصانعي ومنفذي القرار، وبين البنوك والشركات والمؤسسات المالية الدولية. فلا يسمح لأحد العاملين في البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي بتولي مناصب حكومية، ولا يسمح للحكوميين بتولي مناسب في شركات أو بنوك أو مؤسسات دولية بعد تركهم الخدمة. والسبيل الوحيد لضمان ذلك، هو أن يكون العائد المالي طويل الأمد للموظفين ومتخذي القرار مرتفع ومرض للبيروقراطيين. وجود هذا الشكل من الاستقلال في البيروقراطية هو السبيل الوحيد لضمان استقلالية صانعي القرار التامة، وتماسك الجهاز الإداري من الداخل.

وأخيرا، فمن أجل التحول لاقتصاد بديل تشاركي، يجب تحقيق هذا التحول الاقتصادي الهام من خلال نظام سياسي تشاركي ومفتوح. وفي حين أن التخطيط، التصنيع والنمو الاقتصادي ضروريان فعلا لنجاح الانتقال لاقتصاد بديل دون اللجوء للديون أو غيرها من الأشكال الاستعمارية الجديدة، فإن الدولة، إذا لم تخضع للمساءلة من جانب مواطنيها، قد تنتهي بتكرار وإعادة إنتاج سياسات النيوليبرالية الجديدة التي تحقق أرباحا خاصة للبعض، وتظلم معظم قطاعات المجتمع. ولذلك، يؤكد شيبر (وهو من أنصار نموذج الدول التنموية الديمقراطي) أن حكومة التحول الاقتصادي يجب أن تكون حكومة ثورية، قادرة على تعبئة المواطنين والحصول على موافقتهم من أجل إنجاح التغيير، ولكنها في الوقت ذاته يجب أن تكون ديمقراطية، وأن تعززها الرقابة العامة والمساءلة، سواء من خلال مجلس ممثل للشعب، أم صحافة وإعلام حر، وقضاء عادل وناصف. فالاستبداد غالبا ما يؤدي إلى إساءة استخدام السلطة، ولا يعمل من أجل المصلحة العامة التي يجب أن تكون هدف الاقتصاد البديل. استشهد جونسون[7]، على سبيل المثال، بالغضب الشعبي في تدخل صندوق النقد الدولي في كوريا الجنوبية عام 1997، قائلا إن هناك حاجة إلى “نظام شبه ثوري” لتعبئة المواطنين للهدف الأسمى المتمثل في تحقيق الرخاء للمواطنين جميعا. ولعل التوتر في إرساء الديمقراطية في ظل تجارب الدولة التنموية أمر مثير للاهتمام، خصوصا في ضوء الغياب المطلق لمجموعات المجتمع المدني والعمال في أدب القرن العشرين حول الدول التنموية. فيتم التعامل مع العلاقات بين الدولة والمجتمع عموما على أنها تمثل علاقة الدولة والقطاع التجاري، حيث تنفذ السياسة الصناعية على حساب الأقليات والفئات المحرومة أو على حساب حقوق العمال في العديد من دول شرق آسيا. فيكفي أن نتخيل صورة لدولة تنموية ناجحة (كوريا الجنوبية) وهي تسحق احتجاج عمالي، لنتطلع لنموذج مختلف، نموذج يضع المواطن العادي على رأس الأولويات، ويتجاوز المنطق الرأسمالي، في اتجاه منطق إنساني وعادل وتضامني.

علاقة الدولة والمجتمع: القطاع الخاص والتعاوني والاتحادات العمالية

بعد أن ناقشنا الهيكل وشكل إدارة المؤسسات، يجب أن نتطرق لدور الدولة في التحول إلى الاقتصاد البديل، وذلك من خلال مناقشة علاقة ودور الدولة بالقطاع الخاص من ناحية وبالعمال والاتحادات العمالية من ناحية أخري.

البيروقراطية المستقلة يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ من المجتمع، ولها روابط اجتماعية مع مجتمع الأعمال، والقطاعات الإنتاجية والصناعية والعمال وقطاعات المجتمع المختلفة. فهذه العلاقات هي التي تؤسس لمحاور وأهداف الاقتصاد البديل، ويمكن أن تكون بمثابة قنوات مؤسسية للتفاوض على الخطة الاقتصادية والاجتماعية وأهدافها وسبل تنفيذها. وكما لا يمكن للدولة أن تعمل دون بيروقراطية مستقلة، فلا يمكن للبيروقراطية المستقلة أن تحقق الأهداف الإنمائية بدون علاقات قوية بين مع المجتمع، ولا سيما مع المنتجين من القطاع الخاص والتعاوني. وتترتب هذه العلاقة على مبدأ التشاركية، وعلى أدوار الدولة في دعم هذه القطاعات من أجل الوصول لخطة متماسكة، يتفق عليها كافة الأطراف.

في حين أنه لا يوجد نموذج واحد للدولة وعلاقتها بقطاعات المجتمع، إلا أنه بإمكاننا الوصول لأنواع هذه الأدوار والقواعد التي يجب أن تتوفر في العلاقة بين الدولة وقطاعات المجتمع، وبالأخص القطاع الخاص المحلي والقطاع التعاوني واتحادات العمال. وفي التالي، نراجع بعض أنواع الأدوار التي تقوم بها الدولة في سبيل التحول لاقتصاد بديل تشاركي.

أولا، تلعب الدولة دور التخطيط التشاركي، وذلك من خلال الجهاز الإداري السابق ذكره. ولعل لفظ “التخطيط التشاركي” يحتوي على مفارقة هامة: فالتخطيط يجب أن يكون مركزيا، ومن قبل مؤسسة قوية بداخل الجهاز الإداري للدولة، وفي الوقت ذاته، يجب أن تأتي أفكار التخطيط من القطاعات المجتمعية، ويجب أن يعتمد التنفيذ على علاقات مع هذه القطاعات. ومن أهم الخطط التي يجب زن تنتبه لها دولة الاقتصاد البديل، هو التخطيط لتنظيمات قاعدية قوية، تستطيع أن تقوم بتنفيذ دورها في التحول للاقتصاد البديل. فالدولة التي ستشرك قطاعات العمال والإنتاج، يجب أن تخطط لوجود هذه القطاعات، وتخطط لسبل الموازنة فيما بينها في حال نشوب الخلافات، كما تخطط لشكل القنوات التي ستتخذها الدولة من أجل إشراك هذه القطاعات في خطوات التخطيط، وفيما بعد في تنفيذ الخطة الشاملة للاقتصاد البديل. ومن الجدير بالذكر، أن دور الدولة في التخطيط التشاركي سيحدد كل الأدوار القادمة، حيث أن التخطيط سيحدد القطاعات الاقتصادية التي ستعمل في الاقتصاد البديل، ونوع المنتجين الذين سيشاركون في تنفيذ الخطة الاقتصادية، والإجراءات التي ستتخذها الدولة لتسهيل التنفيذ على المنتجين والعمال، والإجراءات التي ستتخذها لضمان تنفيذ الخطة، وغيرها من القرارات الاستراتيجية، كحماية المنتجين المحليين من المنافسة الخارجية، وتسهيل إجراءات إنشاء والإنتاج من خلال التعاونيات وغيرها.

ثانيا، تلعب كل دولة دور التنظيم والوصاية. إن دور الوصاية الذي تقوم به الدولة هو وظيفة تقليدية ومشتركة بين جميع الدول، ويشمل وضع قوانين وقواعد وأنظمة، والعمل على إنفاذها، لا سيما من خلال مراقبة المجتمع إلى الامتثال. وهذا الدور بالغ الأهمية في دول الاقتصاد البديل، خاصة من أجل إرساء مبدأي الاستدامة البيئية واحترام حقوق العمال. فالدور التنظيمي للدولة يشمل وضع وإنفاذ ومراقبة تطبيق اللوائح البيئية والإنتاج المستدام. وهكذا، فسواء امتلكت الدولة أدوات الإنتاج، أو سمحت بامتلاك القطاع الخاص لتلك الأدوات، أو تركت الإنتاج للاقتصاد التضامني تحت إشراف تعاونيات إنتاجية على سبيل المثال، فإن دور الدولة في كل الأحوال يبقي كمنظم، وكوصي على الاقتصاد، يضع قوانين ويشرف على إنفاذها.

 وفي إطار الدور التنفيذي نفسه، تنظم الدولة أسواق العمل، وتضمن وجود قوانين واضحة تتعلق بحقوق العمال والمزارعين والمنتجين في مختلف القطاعات، بما في ذلك اللوائح الصارمة لضمان حدا أدنى للأجور، وتنظيم لساعات العمل، وضمان الرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي، وتدابير السلامة والصحو المهنية، وغيرها.

وفي إطار دول الدولة التنظيمي، يتعين أن تقوم الدولة بدور هام في خلق قنوات للتواصل بين العمال وأصحاب الأعمال في القطاع الخاص. فالدولة كمنظم ومراقب، ستلعب أيضا دورا هاما في فض النزاعات بين الاتحادات العمالية وأصحاب العمال إن نشبت، وذلك من خلال سن القوانين التي تضمن حقوق العمال، كالحق في التنظيم والحق في الإضراب، ومن خلال تنظيم إجراءات فض النزاع، من خلال القضاء المستقل، أو قنوات لفض النزاعات العمالية قبل أن تصل للقضاء.

فإن دور الدولة التنظيمي سيحدد أنواع وأنماط الإنتاج المختلفة، وعلاقتها بالدولة. وسواء كان الاقتصاد البديل معتمد على القطاع الخاص أو لا، فلابد أن تطلق الدولة العنان لأشكال الإنتاج المختلة، وخصوصا الإنتاج التضامني كالتعاونيات الفلاحية والإنتاجية. دور الدولة التنظيمي يجب أن يضمن قدرة هذه الكيانات على العمل والإنتاج، مع خلل خطة الدولة المركزية الشاملة للاقتصاد البديل أهداف عملهم وإنتاجهم. إذا، فمن ناحية الدولة تضع القوانين التي تسهل إجراءات إنشاء وتسجيل والعمل من خلال تلك الكيانات التضامنية، ومن ناحية أخري يرتكز دور التنظيم على جعل تلك الكيانات بمثابة شريك تنفيذي للدولة لتنفيذ خطة الاقتصاد البديل التشاركي.

الدور الثالث هو دور الدولة في الإنتاج. وخلافا لدور الإنتاج العام الذي تقوم به جميع الدول، والذي يركز على السلع الجماعية، مثل البنية التحتية كأنشاء الطرق وشبكات المياه، فإن دور الدولة الإنتاجي في الاقتصاد البديل أكبر من ذلك، وقد يشمل كل القطاعات. ودور الدولة الإنتاجي قد يأتي مشاركا للقطاع الخاص، أو قد يأتي معتمدا تماما على الشركات ذات الملكية عامة، بالإضافة إلى التعاونيات وأشكال الإنتاج التضامني، والتي ترعاها الدولة. وفي كل الأحوال، فدور الدولة في التخطيط للإنتاج محفوظ، ومدعم من قبل الشركاء من المنتجين، سواء من أصحاب الأعمال الخاصة، أو من المنتجين التضامنيين والتعاونيات. ولكن دور الدولة الإنتاجي بشكل مباشر قد يختلف حسب توفر القطاع الخاص، وحسب نوع الإنتاج. وفي كل الأحوال، فدور الدولة الإنتاجي قد يتم من خلال تعاون وثيق مع الجمعيات التعاونية والإنتاج التضامني، وذلك من خلال الخطة التي تحدد القطاعات الإنتاجية والصناعية التي ستركز عليها الدولة، والشركاء الذين ستعتمد الدولة عليهم في التنفيذ.

رابعا، دور الدولة في دفع أصحاب الأعمال والمنتجين المحليين للأمام. ويشمل هذا الدور تدخلات الدولة من أجل مساعدة المنتجين المحليين، التي قد يتخذ بعضها شكل قواعد حمائية، مثل إقامة “صوبة” للتعريفات الجمركية، أي وضع قيود على الاستيراد من أجل حماية المنتجين المحليين من المنافسة الغير العادلة الدولية. كما تعمل الدولة على وضع قيود أخرى على المستثمرين غير المحليين، وعلى رأس المال الخارجي، كشروط إعادة استثمار الربح داخل الدولة على سبيل المثال، أو منع الملكية الخاصة للأجانب، وهكذا. وتهدف هذه التدخلات إلى حماية الصناعات المحلية من المنافسة الدولية، وتشجيع المنتجين المحليين، وخصوصا الإنتاج التضامني الذي لا ينجو أبدا في النظام الرأسمالي العالمي. وكجزء من هذا الدور، يمكن للدولة أيضا أن تعمل على تعزيز الصناعات المحلية من خلال توفير الحوافز الضريبية لقطاعات معينة، والدعم المادي للتعاونيات على سبيل المثال، وغيرها من السياسات التي تقلل من المخاطر، وتزيد من العوائد المتوقعة، من أجل تشجيع الشركات الصغيرة والإنتاج التعاوني على الخوض في السوق. وبعبارة أخرى، يمكن للدولة أن تحفز رأس المال التضامني على لعب أدوار في الاقتصاد وحمايته من الخسارة ومن مخاطر السوق.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدولة أيضا القيام بمزيد من التدخلات المباشرة في الإنتاج الخاص، وتولي مهام إضافية، لضمان دعم الشركاء من القطاع الخاص والتعاوني في جهودهم الصناعية. وبهذه الصفة، يمكن للدول أن تتفاوض مع الشركات الدولية نيابة عن المنتجين المحليين، بما في ذلك التعاونيات، لضمان حصولهم على التكنولوجيا الخاضعة لسيطرة صارمة من قبل الشركات متعددة الجنسيات، أو يمكن للدول أن تضع قوانين صارمة بشأن كيفية عمل قطاعات معينة.

خاتمة: تحديات بناء الهيكل الإداري للاقتصاد البديل في ظل إمبريالية رأس المال الدولي

على الرغم من كل الفرص التي ذكرناها، إلا أن الاقتصاد العالمي، وهيكل الرأسمالية الدولية، يظلان من أهم التحديات أمام أي دولة في تنفيذ الخطوات المطلوبة من أجل المضي قدما في اتجاه الاقتصاد البديل.

في ممارسة “الاستقلالية”، الدول التي ستنتقل للاقتصاد البديل في النظام الرأسمالي الدولي الحالي سوف تضطر إلى مواجهة العديد من الحواجز الجمركية وغير الجمركية التي وضعت من قبل النظام التجاري الدولي، سواء كانت اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، أو الاتفاقات التجارية والاستثمارية الثنائية، التي انتشرت بشكل خاص جراء فشل دورة مفاوضات الدوحة، وانتهاء المفاوضات حولها بشكل رسمي في عام 2016. وفي حين أن مفكرين كبيتر إيفانز (1995) قد عبروا عن دور استقلالية الدولة في توفير سياسات “الصوبة” لحماية الصناعات المحلية من المنافسة الدولية، فإن الاقتصادات الوطنية أصبحت تفتقد الاستقلالية، والقدرة على تنظيم وتخطيط مدى حرية التجارة بها.

إن اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وحدها ستحد من خيارات السياسات المختلفة للدول: فعلى سبيل المثال، تلزم أحكام المعاملة الوطنية لمنظمة التجارة العالمية الدول الأطراف بالالتزام بمعاملة المستثمرين الأجانب بالطريقة نفسها التي تعامل بها الشركات المحلية والمستثمرين المحليين، وذلك باسم “التجارة دون تمييز”. وفي الواقع، فإن الافتراض الأساسي لأي دولة تتبني مسارا من أجل اقتصاد بديل هو قدرتها على مساعدة الشركات المحلية الصغيرة، من خلال خلق أسواق عندما لا تكون موجودة، وحمايتها من المنافسة الأجنبية، وتحفيز نموها في الأعمال التجارية التنافسية. أما بموجب أحكام اتفاقيات التجارة، فإن الدولة تصبح ملزمة بتقديم نفس الدعم للمستثمرين الدوليين، وفرض الضرائب عليهم بنفس المعدل، ومنحهم نفس الإعفاءات الضريبية، ومنحهم فرص متساوية للوصول إلى السوق. شرط “التجارة دون تمييز” في حد ذاته يجعل الانتقال لاقتصاد بديل مستحيل، من خلال تجريد الدولة من استقلاليتها في التخطيط والتنفيذ الاستراتيجي للسوق المحلي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأعضاء الجدد في منظمة التجارة العالمية يتعرضون لشروط “سقوف الدعم”، وهي التزامات بعدم دعم قطاعات معينة، لا سيما القطاع الزراعي، بأكثر من نسبة مئوية محددة من إجمالي الإنفاق. وليس من المستغرب أن تحصل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على الحق في دعم مستثمريها وقطاعاتها المختلفة، وأن تعمل على حماية قطاعها الزراعي على سبيل المثال، في حين يتم إخطار البلدان النامية في مفاوضات جولة الدوحة بشرط القضاء على الدعم الحكومي أو تخفيضه إلى نسب “مقيدة”.

هذه القيود السابق ذكرها ما هي إلا مثال بسيط من القيود التي تواجهها الدول في العهد الحالي، بسبب الإدارة المالية الدولية ونظام المديونية العالمي. فمن أهم المنظمات المقيدة للدول هي شركات التصنيفات الائتمانية، والتي تحلل الاقتصاديات وتضع الدول في منافسة حول تقييم الدول المقترضة، وحول مؤشرات سوق الأسهم بها، وقوة الاقتصاد وقدرته على تحمل الأزمات والصدمات. وتعد تلك الشركات بمثابة ديكتاتور نيوليبرالي، بإمكانه تسويئ سمعة دول والإضرار بمصالحها الاقتصادية في حال ابتعدت عم المنهج الاقتصادي المقبول من قبل باقي مؤسسات رأس المال الدولي، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. إذن فما الحل؟ كيف يمكن للدول مقاومة هذا الإرهاب الدولي؟

في حين أنه يمكن إعادة التفاوض على معاهدات الاستثمار الثنائية، فإن الاتفاقات المتعددة الأطراف مثل معاهدات منظمة التجارة العالمية يكاد يكون من المستحيل إعادة التفاوض بشأنها. أين يترك ذلك آفاقنا لاقتصاد بديل؟

قد تكون التحالفات الإقليمية، وتحالفات دول الجنوب حلا للمضي قدما. فعلي سبيل المثال، فشلت جولة الدوحة بعد أن وقفت البلدان النامية معا ترفض الشروط غير العادلة للاتفاق. إذا، فلو استطاعت البلدان النامية، والبلدان ذات الاقتصادات ذات الحجم المماثل، أن تتضافر في التحالفات الإقليمية أو دون الإقليمية، فإن عقوبات منظمة التجارة العالمية ستصبح غير عملية. وسواء كانت هذه الائتلافات تعمل من أجل إصلاح منظمة التجارة العالمية من الداخل، أو من أجل الخروج الآمن منها، فمن المؤكد أنه لكي تعمل الدولة على المضي قدما من أجل الاقتصاد البديل، فإنها تحتاج إلى أن تأخذ كلمات مفكري نظرية التبعية[8] على محمل الجد، وخاصة في عصرنا الحالي: التبعية والتخلف يتم إنتاجها واستنساخها باستمرار، وتحتاج الدول التابعة أن تنفصل عن مصدر حرمانها من أجل المضي قدما. وبالرغم من أن جوهر هذا الانفصال لا يزال موضع مناقشات، ولكنه ينطوي على تعاون إقليمي، وبعض الحماية الاستراتيجية للاقتصاد المحلي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]وائل جمال، اللبنات الأولي لاقتصاد بديل، منتدى البدائل العربي للدراسات، القاهرة، 2017.

[2] Harvey, David. 2005. A Brief History of Neoliberalism. Oxford: Oxford University Press

[3] Harvey, David. 2005. A Brief History of Neoliberalism. Oxford: Oxford University Press. P. 37.

[4] Chibber, Vivek. Locked in place: State-building and late industrialization in India. Princeton University Press, 2003.

[5] Chibber, Vivek. Locked in place: State-building and late industrialization in India. Princeton University Press, 2003. p.7

[6] Evans, Peter B. Embedded autonomy: States and industrial transformation. Princeton University Press, 1995.

[7] Johnson, Chalmers. “The developmental state: Odyssey of a concept.” The developmental state (1999): 32-60.

[8] Amin, Samir. “Contemporary imperialism.” Monthly Review 67, no. 3 (2015): 23.

Start typing and press Enter to search