جوزيف ضاهر
مقدمة:
في ظل تعدد الآراء حول الديمقراطية على مر العقود واعتبارها في كثير من الأحيان خديعة كبرى هناك العديد من النقاط التي يجب أخدها في الاعتبار على رأسها أن الديمقراطية ليست مفهوما ثابتا بل يتغير من مكان إلى آخر ومن حقبة زمنية لأخرى. يربط البعض الديمقراطية بالحقوق السياسية والانتخابات بينما يرى آخرون أنها يجب أن تتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. يتضح هذا الفارق في النظم الديمقراطية الليبرالية التي لا تفضل تضمين تلك الحقوق الأخرى وتقصر تعريفها للديمقراطية على الحق في التصويت وحماية الملكية الخاصة.
ترجع الفروق بين أشكال الديمقراطية المختلفة في الأساس للعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل دولة ولا تتعلق بالدين أو العرق مثلما يعتقد البعض. على سبيل المثال، يتم النظر أحيانا للمنطقة العربية أو الإسلامية على أنها ذات طبيعة خاصة لا ينطبق عليها التحولات السياسية التي تحدث في باقي أنحاء العالم. على سبيل المثال كتب أندرو جرين، سفير المملكة المتحدة السابق بالسعودية وسوريا، مقال عنوانه “لماذا لا تصلح الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط؟” قال فيه إن “الديمقراطية كما نفهمها لا تصلح في دول الشرق الأوسط حيث تأتي العلاقات العائلية والقبلية والاعتبارات الطائفية والشخصية في المقام الأول والدولة في المقام الثاني”.[1]على الجانب الآخر يتبنى الكاتب السوري عزيز العظمة وجهة نظر مختلفة وهي “أنه يجب استخدام العلوم الاجتماعية والإنسانية وليس تهميشها من أجل فهم الظواهر السياسية في العالم العربي والإسلامي”.[2] ويتفق الباحث مع وجهة النظر الثانية.
يشير التاريخ أن الديمقراطية مفهوم متغير وأن هذا التغير عادة ما يحدث نتيجة لصراعات أو ثورات تتضمن حفنة من المطالب ويترتب على نجاحها تضمين المزيد من الحقوق في النظام الديمقراطي مثل الحقوق الاقتصادية والمدنية والمساواة بين الرجل والمرأة والحق في التصويت والحق في التنظيم وغيرها. وعلى مر التاريخ تمكنت العديد من الحركات التقدمية في توسيع مفهوم الديمقراطية لضم أكبر قدر ممكن من الحقوق ولا زالت تفعل ذلك. يرى كل من كارل ماركس وفريدريك إنجلز أن الديمقراطية والاشتراكية متربطان ببعضهما البعض منذ منتصف القرن التاسع عشر. في 1848، كتب ماركس وإنجلز في “البيان الشيوعي”: “فقبلا رأينا أن الخطوة الأولى في ثورة العمال هي ترفيع البروليتاريا إلى طبقة سائدة والفوز بالديمقراطية”.[3]
لكن لا يمضي تضمين المزيد من الحقوق في النظام الديمقراطي قدما طوال الوقت حيث تظهر العقبات التي قد تعيق هذا التطور مثلما حدث في العديد من الدول في مختلف أنحاء العالم. عرف كل من جاك رانسيه وحنا آرنت الديمقراطية على أنها حالة تمرد مستمر ضد حكم الأقلية وليست نظام حكم ثابت وفي هذا الإطار تتضح أهمية “دمقرطة الديمقراطية” من خلال التخلص من أي ممارسات إقصائية تتعلق بها[4]خاصة ما يتعلق حقوق العمال والحقوق الاجتماعية وحقوق المرأة والأقليات وشكل مؤسسات الدولة وغير ذلك.
تكتسب الديمقراطية أهمية خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث تسيطر الأنظمة الاستبدادية ولا يتسع المجال لممارسة العديد من الحقوق على رأسها الحق في التنظيم. كما تتأثر هذه المنطقة بمفهوم الديمقراطية الذي تروج له المؤسسات المالية الدولية والذي يتمحور دائما حول “الإصلاحات” و”الحوكمة الرشيدة” بهدف نشر السياسات النيوليبرالية وهي تلك السياسات التي تساهم في الواقع في تثبيت أقدام الأنظمة القائمة ولا تخدم الديمقراطية.
أصول وحدود الديمقراطية الليبرالية:
يترجم مصطلح الديمقراطية حرفيا لـ “حكم الشعب” ويشير بصفة عامة للأنظمة السياسية الغربية التي نشأت في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر وتعتمد بشكل أساسي على النظام البرلماني أسوة بالنموذج البريطاني. السؤال هو ما هي نسبة حكم الشعب التي توفرها الديمقراطيات الليبرالية خاصة في ظل القيود المتزايدة على الحريات المدنية وفي ظل المشكلات التي يعاني منها النظام النيابي مع الانفصال المتنامي بين النواب وقاعدتهم الشعبية فور دخولهم البرلمان وعدم اكتراثهم بتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي أدى لفوزهم في المقام الأول. إضافة إلى ذلك تفتقر العملية الانتخابية في عدد من الدول إلى كثير من الحقوق الديمقراطية الأساسية ويتضح هذا في إيران ومؤخرا في تركيا. لقد وصف كارل ماركس النظام الديمقراطي الليبرالي بدقة حين قال إن كل أربعة أعوام يتم حشد الناخبين لاختيار أعضاء الطبقة الحاكمة التي ستسيطر على البلاد في المرحلة التالية. على الرغم من ذلك لا يزال هناك فرق بين الديمقراطية الليبرالية والأنظمة الاستبدادية حيث يحرم الشعوب من أيه حقوق ديمقراطية بما فيها انتخابات حرة. معظم الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يحكمها أنظمة استبدادية فيما عدا استثناءات قليلة يتم فيها السماح بحقوق محدودة.
رفضت العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الديمقراطية الليبرالية بقيادة الطبقة البرجوازية وكبار ملاك الأراضي مثلما حدث في سوريا ومصر والعراق بعد الحرب العالمية الثانية حيث اتسمت المجتمعات في ظل هذه الأنظمة بانعدام المساواة والتوزيع غير العادل للثروات وغياب الحقوق الاجتماعية وتقليص الحقوق الديمقراطية للحد الأدنى وإن وجدت إلى حد ما في بعض الحالات. في الدول السابق ذكرها، تمت إزاحة الأنظمة الحاكمة من خلال انقلابات عسكرية قادها ضباط جيش من الطبقة الوسطى ذوي خلفية ريفية عادة. قام هؤلاء الضباط بتأسيس أنظمة سياسية تم فيها توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة وإعطاء المواطنين حقوقهم الاجتماعية لكن جاء ذلك على حساب الحقوق الديمقراطية التي تم قمعها بشدة. في مطلع سبعينيات القرن الماضي، تخلت الأنظمة السياسية في سوريا ومصر والعراق عن السياسات الاجتماعية التي اتبعتها سابقا لصالح التقارب مع الغرب ودول الخليج. يرجع ذلك إلى حد كبير إلى هزيمة عام 1967 والأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي لم تستطع الأنظمة المتبنية للفكر القومي والرأسمالية الدولة أن تتعامل معها. كما أن الحركات القومية العربية على الرغم من إنجازاتها الاجتماعية وقعت في فخ الصراعات الطبقية التي ساعدت على نشأة طبقة رأسمالية جديدة بدأت في مراكمة الثروة ومهدت لسيطرة النظام الرأسمالي.[5]نتج عن هذا غياب كل من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في معظم دول المنطقة. جدير بالذكر أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست الوحيدة التي رفضت فيها الطبقات الحاكمة البرجوازية إعطاء الشعوب المزيد من الحقوق الديمقراطية. يقول عالم الاجتماع جوران ثيربورن إن الطبقة البرجوازية في أوروبا لم تكن ترغب بشكل عام في السماح للشعب بالحكم وفضلت نوع من حكم الأقلية الليبرالي أو الدستوري بل وأحيانا اختارت عقد صفقات مع الملوك والنبلاء وقادة الجيش. يقول العديد من علماء الاجتماع الآخرين إن التحول الصناعي السريع الذي شهدته أوروبا الغربية في العقود الخمس السابقة على الحرب العالمية الأولى أدى إلى زيادة حجم الطبقة العاملة وزيادة قدرتها على التنظيم مما أدى إلى تغير توازن القوى لصالح الفئات الداعمة للديمقراطية. كونت الطبقة العاملة أحزاب اشتراكية ونقابات عمالية أصبحت من خلالها هي القوة التي صارعت من أجل الحصول على العديد من الحقوق على رأسها الحق في التصويت.[6]اتبعت الحركات النسائية خطوات مشابهة في وقت لاحق نتج عنها عدة مراحل من التعبئة أدت في نهاية الأمر إلى الاعتراف بحقوق المرأة.
الصراع من أجل الحقوق الديمقراطية:
يرتبط الصراع من أجل الحقوق الديمقراطية بمراقبة الطبقات الحاكمة والحصول على حقوق تفوق ما يمنحها النظام القائم. اتضح هذا إلى حد كبير في الثورات التي اندلعت في مصر وتونس حيث تم منح العديد من الحقوق الديمقراطية للشعب بعد سقوط مبارك وبن على لكن تغير هذا الأمر في مصر بعد انقلاب يوليو 2013 حين فرضت القيود على حرية الصحافة والتعبير والحق في التنظيم والاحتجاج وتداول المعلومات بينما ظل اختيار رئيس الدول يتم عن طريق الانتخابات التي تأثرت بدورها بالتعبئة الشعبية والفراغ السياسي. لا يمكن قصر الحقوق السياسية على الحق في التصويت واختيار الشعب لممثليه كل عدة أعوام فالديمقراطية لا تتحقق بدون المشاركة الفعالة للشعب على جميع المستويات ولا تكتمل بدون المساواة والحق في التنظيم والاحتجاج وحرية الصحافة والتعبير والوصول للخدمات للأساسية مثل الصحة والتعليم. في هذا الإطار، تتضح أهمية حق العمال في التنظيم والاحتجاج في القطاعين العام والخاص والمطالبة بحقوق أساسية مثل رفع الرواتب ونظام معاشات عادل وتحسين ظروف العمل كجزء لا يتجزأ من أي ديمقراطية. كما يتضمن منح المزيد من الحقوق الديمقراطية حق الطبقات العاملة والشعبية في رفض السياسيات الحكومية التي تتعارض مع مصالحهم. يحق للعاملين التأكد أن اختيار المسؤولين في مؤسساتهم يتم على أساس القدرات المهنية والخبرة وبما يخدم مصالحهم وليس المحسوبية أو المصالح الخارجية. كما أن الحق في التنظيم يضمن للعاملين الحفاظ على المناخ الديمقراطي في محل العمل. في الواقع، يعتبر محل العمل من الأماكن التي يكون فيها الصراع من أجل الحقوق الديمقراطية أكثر فاعلية إلى جانب المدارس والشوارع والأعمال الإبداعية.
بصفة عامة، الديمقراطية الحقيقيةهي التي تشارك فيها فئات الشعب المختلفة خاصة فيما يتعلق بصياغة القوانين والقرارات التي تمس السواد الأعظم فلا تتوقف الديمقراطية داخل المصنع في حالة العمال على سبيل المثال بل تمتد للمشهد السياسي والشؤون الاقتصادية. لا يمكن فصل الاقتصاد عن الحقوق السياسية والديمقراطية الحقيقية هي التي تمتد أيضا للأسواق وتسمح للجميع بالمشاركة في القرارات الخاصة بملكية وتوزيع الموارد الاقتصادية. يمكن تطبيق الديمقراطية على المؤسسات والنظام السياسي بحيث ينمكن المواطنون من تحدي الخيارات الاقتصادية لحكوماتهم ولفت الانتباه للعديد من الأمور الحيوية مثل دعم الدولة للطبقات الشعبية وتأميم الصناعات التي تم تخصيصها والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي.
تلعب المراقبة الديمقراطية لسياسيات الدولة دورا هاما في تعزيز سيادة واستقلالية الدولة خاصة فيما يتعلق بسداد القروض التي يرفضها الكثيرون في دول الجنوب حيث تم فرضها على هذه الدول كجزء من حزمة إصلاحات هيكلية أملتها المؤسسات المالية الدولية وأدت لإفقار الطبقات الشعبية. يعيق سداد هذه القروض من فرض تأسيس اقتصاد بديل يعمل على تفعيل سياسات تحقق العدالة الاجتماعية كما يتم استخدام هذه القروض من قبل الطبقات الحاكمة كذريعة لتطبيق إجراءات التقشف والمزيد من السياسات النيوليبرالية. رفضت الحركات الاجتماعية في كل من مصر وتونس هذه القروض ووصفتها بـ”الكريهة” و”غير الشرعية” مما يعطي الشعب الذي لم تتم استشارته قبل الحصول على القروض والذي يتضرر من الإجراءات الملحقة بها في رفض السداد. لهذا يتضح أن إشراك الشعب في قرارات مصيرية مثل تلك المتعلقة بالاقتراض من شأنه حماية الدولة من التدخل الخارجي وتعزيز سيادتها.
لا يتعين تحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة في توزيع الثروات على المدى المتوسط والطويل إلا من خلال منح المزيد من الحقوق الديمقراطية للطبقات العاملة والشعبية التي يمكن من خلالها مراقبة أداء الدولة وتحدي السياسات التي تتعارض مع مصالح الأغلبية وكذلك تحقيق المساواة بين المواطنين بحيث لا تنفرد الطبقة الحاكمة بامتيازات خاصة. يتطلب هذا القضاء على كل أشكال التمييز سواء على أساس النوع أو الدين أو العرق أو الميول الجنسية حيث أن المساواة السياسية لا تتحقق سوى بين أقراد متساويين على جميع المستويات.
كان للثورات التي اندلعت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العديد من المطالب السياسية والاقتصادية التي لا يمكن الفصل بينها وبنيت هذه المطالب على منح المزيد من الحقوق الديمقراطية للطبقات الشعبية بحيث تتمكن من خلالها من الضغط على الطبقات الحاكمة. طالبت هذه الثورات بديمقراطية تبدأ من أسفل فتتمكن بذلك من بناء نظام اقتصادي بديل مبني على المساواة والعدالة.
السياسات النيوليبرالية و”تحديث الاستبدادية” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا:
يتعارض مفهوم الديمقراطية من الأسفل كما هو موضح أعلاه مع الديمقراطية كما يروج لها داعمي النظم الليبرالية التي ربطت الديمقراطية باقتصاد السوق منذ تسعينيات القرن الماضي. النظام النيوليبرالي هو في الواقع مؤسسة رأسمالية تضمن توافر الظروف الملائمة لإعادة إنتاج الرأسمالية على نطاق عالمي من خلال الطبقة الحاكمة التي تتخذ قرارات حاسمة أثناء الأزمات الاقتصادية مثلما حدث وقت الكساد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ونتج عنها موجة جديدة من التوسع الرأسمالي.[7]يشير ديفيد هارفي أن الهدف الأساسي من النيوليبرالية هو تطوير نظام جديد لتراكم رأس المال يتضمن الحد الأدنى من تدخل الدولة في الاقتصاد وحصر هذا الدور في الشؤون القانونية والسياسية والعسكرية التي تضمن أن يسير عمل الأسواق بالشكل المطلوب وخلق أسواق جديدة حيث لا توجد.[8]يشرح ديفيد هارفي دور الدولة في إطار النظام النيوليبرالي فيقول إنه “على سبيل المثال، يجب على الدولة لكي تحافظ على المال أن تؤسس كل الكيانات العسكرية والدفاعية والشرطية والقانونية التي تحافظ على حقوق الملكية الخاصة وتضمن ولو بالقوة أن يسير عمل الأسواق على ما يرام. بالإضافة إلى ذلك، في القطاعات التي لا تتواجد بها أسواق مثل الأراضي والمياه والتعليم والصحة والأمن الاجتماعي والشؤون البيئية يحب خلق أسواق جديدة ويمكن للدولة أن تتدخل لتضمن هذا لو لزم الأمر”.[9]
تبنت الأنظمة النيوليبرالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عدة سياسات اقتصادية أعادت هيكلة توازن القوى بين الطبقات كان على رأسها الخصخصة وفتح الأسواق وتحرير العمل وخفض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية. أدت هذه السياسات إلى ما يمكن تسميته بـ “تحديث الاستبداد” بدلا من تأسيس طبقة وسطى مستقلة ومجتمع مدني قادر على تحدي النظام السياسي. تكون المجتمع المجني الناتج عن النظام النيوليبرالي من مجموعة من المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تعليماتها من أعلى ويديرها أعضاء من النخبة القريبة من شبكات رجال الأعمال ذات الصلة الوثيقة بالنظام السياسي. أما عن منظمات المجتمع المدني المستقلة التي تدين انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام فيتم قمعها. يمثل ظهور المنظمات غير الحكومية شكل من أشكال خصخصة العمل الاجتماعي. يتحدث باسم حداد عن حالة سوريا على وجه التحديد لكن يمكن تطبيق رؤيته على دول أخرى في المنطقة: “هذا التطور النيوليبرالي من شأنه تعزيز الحكم الشمولي وليس تحديه نظرا لوجود العديد من المصالح المشتركة بين الدولة وأصحاب الأعمال”.[10]
روجت المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للعديد من الإصلاحات الهيكلية من خلال مفاهيم مثل “سيادة القانون” و”اللامركزية” و”الحوكمة الرشيدة” و”فصل السلطة التشريعية والتنفيذية” لضمان أكبر قدر من الشفافية الاقتصادية لكن كان الهدف الحقيقي هو إضفاء المزيد من الشرعية على النظام النيوليبرالي واتضح هذا بشكل خاص بعد الأزمات الاقتصادية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حيث كان للإصلاحات الهيكلية نتائج كارثية في الجنوب. بينما تبدو تلك الإصلاحات في ظاهرها مضادة للنيوليبرالية هي الواقع تعززها حيث أن تضمن خضوع المؤسسات للقطاع الخاص وكذلك الحد الأدنى من تدخل الدولة في السوق. في الشرق الأوسط حيث تسيطر الأنظمة الاستبدادية تبدو تلك الإصلاحات ديمقراطية وبالفعل يتم تقديمها على أنها داعمة للديمقراطية لكنها في الواقع مضادة للديمقراطية.[11]
نظرا لطبيعة الثقافة السائدة في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ساهمت السياسات النيوليبرالية في تعزيز ثقافة توريث الحكم وبالتالي التقليل من فرص التحول الديمقراطي. يعرف ماكس فيبر الدولة الوراثية على أنها قوة سلطوية متوارثة تدار بشكل يميل إلى القبلية مثل من خلال مجموعة من الأصدقاء والأقارب وينطبق هذا حتى على القوة العسكرية التي يدين قادتها بالولاء للطبقة الحاكمة وليس للدولة. تدار هذه الدولة بواسطة رأسمالية المحاسيب التي يتحكم فيها العائلات والأفراد القريبين من النخبة الحاكمة مما يعطيهم النفوذ السياسي الذي يمكنهم من مراكمة الثروات. في كل من مصر وتونس سيطر نظام يندرج تحت “النظام الوراثي الجديد” وهو نظام جمهوري سلطوي مؤسسي تكون فيه الدولة منفصلة نسبيا عن الحكام. وتفشت المحسوبية في الحالتين كما اتضح في عائلتي مبارك وطرابلسي. يمكن أن يتحول النظام الوراثي الجديد إلى نظام وراثي تقليدي حين يكون هناك خطط لتوريث الحكم أو حين يقرر الحاكم اختيار من سيخلفه فبالتالي يصبح نظاما وراثيا.[12]وبساعد على تعضيض هذا ميل تلك الدول للنظام الريعي ويكون مصدر هذا الريع في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الأساس من البترول والغاز الطبيعي وموارد معدنية متنوعة مما يعيق من عملية التنمية ويقوي النظام الوراثي أو شبه الوراثي.
تتسم الدول الوراثية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنخبة سلطوية فاسدة ثلاثية الأضلاع كما يشير جلبير الأشقر: “هو مثلث سلطة يتكون من ثلاثة أضلاع متداخلة: الجهاز العسكري والمؤسسات السياسية والطبقة الرأسمالية المسيسة. يشترك الثلاثة في الدفاع المستميت عن السلطة المستمدة من الدولة وهي مصدة جميع المميزات التي يحصلون عليها”.[13]
خاتمة:
لا يمكن بناء اقتصاد بديل بدون تأسيس ديمقراطية من الأسفل يتم من خلالها تمكين الطبقات الشعبية حيث يصبح لديها القدرة على إدارة مجتمعاتها. هذا النوع من الديمقراطية هو الذي يشارك فيه جميع المواطنين في عملية اتخاذ القرار فيما تتعلق بالسياسات والشؤون العامة بما فيها المجال الاجتماعي والاقتصادي. لم تعط الأنظمة السياسية للطبقات الشعبية حقوقها أو بعض منها إلا بعد سلسلة من الصراعات وبدا أن هذا ينطبق على الثورات التي اندلعت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 2011. في الواقع، قامت الأنظمة الحاكمة بتقديم بعض التنازلات للاستجابة لمطالب المتظاهرين بعد سقوط الديكتاتوريات مما أدى إلى إعطاء المواطنين العديد من الحقوق الديمقراطية منها الحق في التصويت لكن لم يكن هناك ضمان على استمرار هذه الحقوق وقد اتضح هذا بالفعل حينما بدأت الدولة في قمع العديد من الاحتجاجات في فترات لاحقة.
لعبت التعبئة الشعبية دورا هاما في ثورات 2011 خاصة فيما يتعلق بالقدرة على التنظيم الذاتي. كما اتضح في هذه الفترة الدور الهام الذي لعبته النساء حيث تحدين القيود الاجتماعية والأعراف التي حالت دون مشاركتهن في المجال العام وقررن المطالبة بحقوقهن كجزء لا يتجزأ من التحول الديمقراطي. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت الجموع التي طابت بالديمقراطية من التغلب على مشكلات داخلية عديدة على رأسها الطائفية واتضح هذا بشكل جلي في بداية الثورات.
كما قال المؤرخ هوارد زين في بداية فيلمه “الشعب يتحدث”: “الديمقراطية لا تأتي من أعلى بل تأتي من أسفل”.[14]لهذا فإن الديمقراطية الحقيقة هي التي تؤسسها الطبقات الشعبية ويشارك فيها المواطنون في عملية اتخاذ القرار حيث أن هذا فقط يضمن أن يحتوي هذا النظام الديمقراطي على كافة الحقوق التي تخدم مصالح الشعب وليس الطبقة الحاكمة فقط. الديمقراطية ليست مجموعة من المؤسسات وحسب كما يظن البعض بل هي الحق في معارضة الحكومة غير العادلة من أجل تطبيق سياسات أكثر عدلا. الديمقراطية الحقيقية هي التي يتحقق فيها شرطان أساسيان: الأول هو هيمنة الطبقات الشعبية والثاني هو تغيير الهيكل الاقتصادي.
[1]Green, Andrew (2014), “Why Western democracy can never work in the Middle East”, The Telegraph (online). Available at: <https://is.gd/c33DVu>, (accessed 20 April 2017)
[2] Azmeh (Al-), A. (2003), “Postmodern Obscurantism and the Muslim Question”, Socialist Register, Vol. 39, pp. 39
[3] Engels, Frederich and Marx, Karl (1848), “Manifesto of the Communist Party”, Marxist.org (online). Available at: <https://is.gd/ffzpIw>, (accessed 20 April 2017)
[4]Balibar, Etienne (2008), “Historical Dilemmas of Democracy and Their Contemporary Relevance for Citizenship”, Rethinking Marxism, Volume 20, Issue 4, pp. 522-538
[5]Hanieh, Adam (2013), Lineages of Revolt, Issue of Contemporary Capitalism in the Middle East, (Chicago, Haymarket) pp. 26-27
[6]Cited in Le Blanc, Paul (2010), “What do socialists say about democracy?” International Socialist Review, Issue no. 74, (online). Available at: <https://is.gd/JrjgCt>, (accessed 28 April 2017)
[7]Cimorelli, Eddie (2009), “Take neoliberalism seriously”, International Socialism, (online). Available at: <http://isj.org.uk/take-neoliberalism-seriously/>, (accessed 22 December 2017)
[8] cited in Roccu, Roberto (2012), Gramsci in Cairo: Neoliberal Authoritarianism, Passive Revolution and Failed Hegemony in Egypt under Mubarak, 1991-2010, (PhD), University of London, London School of Economics, p.72
[9]Harvey, David (2005), A Brief History of Neoliberalism, (New York: Oxford University Press), p. 2
[10]Haddad, Bassam (2013), “Business Associations and the New Nexus of Power in Syria” in Aarts P. and Cavatorta F. (eds.) Civil Society in Syria and Iran: Activism in Authoritarian Contexts (Rienner Publishers), 74
[11] Hanieh, Adam (2011), “Egypt’s ‘Orderly Transition’? International Aid and the Rush to Structural Adjustment”, Jadaliyya, (online). Available at: <https://is.gd/UhnKds>, (accessed 30 April 2017)
[12] Achcar, Gilbert (2013), Le peuple veut, une exploration radicale du soulèvement arabe, (Paris, Actes Sud), p 91-98
[13]Achcar, Gilbert (2016), Morbid Symptoms, Relapse in the Arab Uprising, (Stanford: Stanford University Press and London: Saqi), p.6-7
[14]Cited in Le Blanc, Paul (2010), “What do socialists say about democracy?”, International Socialist Review, Issue no. 74, (online). Available at: <https://is.gd/JrjgCt>, (accessed 28 April 2017)