علي شحاتة عميرة
الطريق إلى الانتخابات:[1]
من أهم الموضوعات التي تمحورت حولها الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2017 هي مصير الاتحاد الأوروبي والنظام الاجتماعي الفرنسي وسياسات الهجرة والملف البيئي وطبيعة مؤسسات الجمهورية الخامسة الديجولية. وتميزت تلك الانتخابات بالتمثيل غير المسبوق لجميع التيارات السياسية على الساحة الفرنسية يتعدى الأحزاب اليمينية واليسارية التقليدية ويشمل الأحزاب التروتسكية والحركات السياسية الحديثة، مما أدى إلى تنظيم أول مناظرة تلفزيونية تضم جميع المرشحين الـ11 وليس فقط المرشحين الرئيسيين. ويرجع هذا أيضا إلى أنه لم يتواجد وحتى إعلان نتائج الجولة الأولى أي مرشح من الأرجح فوزه، نظرا للمرشحين وبرامجهم غير التقليدية، وهو ما يشير إلى تغيير محوري في التاريخ وفي الفكر السياسي والاجتماعي لفرنسا.
تعتبر مرشحة حزب الجبهة الشعبية اليميني المتطرف (Le Front National) مارين لوبن الحائزة على (%22) من أصوات المستطلعين في استطلاع لشركة opinion Way، أجري في الفترة من 7-13 أبريل الجاري[2]، فرس السباق المتوقع فوزها بالجولة الأولى وانتقالها إلى الجولة الثانية حيث سيتنافس وقتها مرشحان فقط. وبرغم تقلبات حملتها الانتخابية بسبب تصريحاتها الاستفزازية عن يهود فرنسا وعدم مسؤولية بلادها في إبادتهم خلال الحرب العالمية الثانية أو التناقضات بينها وبين أعضاء عائلتها داخل فريقها، أو تورطها في قضايا اختلاس أموال الاتحاد الأوروبي كنائبة أوروبية[3]، تعتمد مارين لوبن على قاعدة ناخبين مجندة ومستقرة تتسم بالإصرار والحزم. تُعتبر ملفات الأمن وسياسات الهجرة ومنذ فترة قصيرة ملف الإرهاب هي الموضوعات الرئيسية والتاريخية لليمين المتطرف التي تبلورت حولها حملة مارين لوبن الرئاسية وتغري شريحة من ناخبيها من أفق عديدة منهم شباب وطبقة متوسطة سفلى ويمينيين. لا نستطيع أن نجهل وجه التشابه بين ملفات حملة مارين لوبن وحملة دونالد ترامب وتشابه استراتيجياتهم الاستفزازية والصريحة، لذا يجب التساؤل إذا كانت توابع انتخاب دونالد ترامب من سياسات غير شعبية ومناقضة لحقوق الانسان وأحيانا غير قانونية قد تشجع الفرنسيين على التفكير مرتين قبل انتخاب شبيهة ترامب الفرنسية؟ قد نثق في نزاهة الشعب الفرنسي وحرصه على الحفاظ على الديمقراطية التي يفتخر بها ولكنه قد يكون مجرد تساؤل بلا أمل، أو قد نتخيل أن انتخاب مارين لوبن كرئيسة فرنسا هي الصحوة التي يحتاج اليها الشعب الفرنسي لإعادة النظر في حياته السياسية وعيوبها. كما حدث في الانتخابات الرئاسية عام 2012، ستركز مارين لوبن أولويتها خلال الأسبوع الأخير من حملتها على “العودة إلى المضمون”، بما يعني تركها لاستراتيجية انتقاد الاتحاد الأوروبي وسيطرة بروكسل على زمام الأمور في فرنسا وستركز اهتمامها على الملفات الداخلية التي ورد ذكرها، خصوصا انتقاد سياسات الهجرة مما يثير اهتمام ناخبيها. وإذا سطع نور مارين لوبن في سماء باريس فله دلالة على مناخ الهستيريا والتساؤلات الذي تعيشه فرنسا حول هويتها وتكوينها الاجتماعي وعدم القدرة على التصالح مع ماضيها.
وإذا انتقلنا إلى مرشح حزب الجمهوريين اليميني المحافظ ((Les Républicainsفرنسوا فيون الحائز على (%21) في ذات الاستطلاع[4]، فقد فاز فرنسوا فيون رئيس الوزراء الأسبق بالانتخابات الداخلية الأولى من نوعها لحزب الجمهوريين بعد أن هزم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي ذو الشعبية المنعدمة وهزم رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه اليميني المعتدل. يمثل فرنسوا فيون التيار الليبرالي من الناحية الاقتصادية والتيار المحافظ الكاثوليكي من الناحية الاجتماعية، وحرص على تقديم نفسه كمرشح الاعتدال الأخلاقي والتقشف، فاهتم بملفات الأمن وتقليص الإنفاق الحكومي وتقليص تعيين الموظفين. ولكن ما لبثت أن بدأت حملته الانتخابية حتى سقط قناع الاعتدال والتقشف بعد أن تم اتهامه من قبل الصحافة بتهمة اختلاس الأموال العامة وبتوظيف مزور لزوجته عندما كان نائبا وحصوله على رشاوي في صورة ملابس باهظة الثمن من رجل أعمال[5]. رغم نفاقه، لم يتنازل فرنسوا فيون واستمر في حملته حتى تتم إدانته رسميا التي وعد بالتنازل بعدها. هو من كان منذ عدة شهور الرئيس المقبل الأرجح، أصبح أمله الوحيد بعد أن سقطت شعبيته وتركه الوسطيون بعد انحيازه لتيارات كاثولوكية محافظة، هو دعم الناخبين الأوفياء ممن هم فوق سن الخمسين ومن اليمينيين الذين يخشون بارانويا مارين لوبن، ولكن من حظ مرشح حزب الجمهوريين أن شريحة من ناخبين اليمين المحافظ والساركوزيين مستعدين أن ينسوا له الماضي وينتخبوه خوفا من موجة صعود اليسار.
تلك الموجة غير المتوقعة التي تحمل مرشح اليسار الراديكالي جون-لوك ميلونشون (18%)[6] وحملته “فرنسا المتمردة” (La France Insoumise) إلى مقدمة السباق، بعد أن قاد حملة انتخابية ناجحة بكل المقاييس مثل استخدامه لهولوجرام انتخابي عن بعد وخطابه على مركب في قنوات باريس، استطاع خلالها إغراء شريحة من اليسار الوسطي ومن الشباب وأن يتربع عرش مرشح اليسار المفضل. برغم الدعم الواضح حوله، يحمل جون-لوك ميلونشون عبء السنوات الخمس الماضية التي تحسب على اليسار أجمع بالسلب أكثر منها بالإيجاب كما أنه سيعاني من “بعبع” مرشحي اليسار الراديكالي الذي يثير رعب شريحة ليست بهينة من الشعب الفرنسي خصوصا بعد أن أصبحت حملات المرشحين الأخرين تتهمه علانية “بالشيوعية”، فمن أهم الملفات التي تثير القلق حول ميلونشون هي وجهة نظره للاتحاد الأوروبي ورغبته في إعادة مناقشة المعاهدات، وهو أمر غير واقعي نظرا لعدم وجود دعم له على الساحة الأوروبية مما سيؤدي في النهاية إلى سيناريو محتمل للخروج من الاتحاد.
إنه من المخزي لليسار، ولعلها القاعدة إذا نظرنا إلى التاريخ، عدم استطاعة ميلونشون أن يتحد مع بنوا هامون (%7)[7] مرشح الحزب الاشتراكي (Le Parti Socialiste) لتوحيد أصوات ناخبيهم وتحقيق انتصار أوحد بدلا من خسارتين. فخسارة بنوا هامون بدت مؤكدة، هو الذي سطع نجمه أولا في صفوف اليسار داخل الحزب الاشتراكي كمعارض لسياسات رئيس الوزراء الأسبق مانويل فالس المنتمي ليمين الحزب، وثانيا بعد فوزه الرمزي بالانتخابات الداخلية للحزب ضد فالس كمرشح اليسار الوفي، وثالثا بسبب برنامجه الانتخابي الطموح الذي يهدف إلى وضع دخل شهري شامل تدفعه الدولة كحق للجميع. لعل نقطة ضعف بنوا هامون هي نفسه، لا نستطيع أن ننكر كيف يعاني من عدم استطاعته إغراء ناخبيه بسبب ضعف شخصيته وعدم قدرته على الاقناع والجدال، كما أن بريقه بدأ في الخفوت بعد أن لمع بريق ميلونشون كمرشح اليسار الأول.
بالنظر إلى إيمانويل ماكرون (%22)[8] وحملته “متقدما!” ((En Marche!، نجد أنه ملاحق من قبل مرشحي الوسط الذين تميزوا بعدم استقرار قاعدتهم الانتخابية التي تميل إلى التفكك والانجراف يمينا ويسارا في أي لحظة مع اقتراب التصويت وتكثيف الحملات الانتخابية. أمام الصعود غير المسبوق للمرشحين الآخرين من الطرفين اليميني واليساري الراديكالي، ثبت فشل استراتيجية “الصوت الانتخابي المفيد” واستراتيجية “لا يمين ولا يسار” التي حملت ماكرون حتى الآن، مثلما تسقط شعبيته تدريجيا في استطلاعات الرأي. فهو الليبرالي الذي “يحب فرنسا” وعاشق أوروبا التكنوقراطية الوفي، الذي لا يستطيع إلا إغراء الطبقة المتوسطة العليا بعد أن استطاع ميلونشون جذب الشباب المستقل، الذين كانوا سابقا مغرمين بحيوية وعصرية حملة ماكرون. ولعله كان من المتوقع أن لا يسلم ماكرون من تخوفات شريحة غير ضئيلة من اليمين الوسطي التي فضلت الانحياز إلى اليمين المحافظ على أن تدعم برنامج ماكرون الاجتماعي المتحرر من ناحية الأعراف والتقاليد، نستطيع أن نتكهن بأن برنامج ماكرون للمدة الرئاسية كما قدمه فهو عبارة عن تكملة جريئة لبرنامج فرنسوا هولاند الاقتصادي والاجتماعي، مع الفرق أن ماكرون لديه الثقة الكافية لتنفيذ وتطبيق سياسات اقتصادية بخصوص قانون العمل غير تقليدية في نظر الأيديولوجية الاشتراكية وهو ما كان يعرقل سياسات هولاند وما أراد ماكرون التخلص منه.
من الملفت للنظر إلى الأسباب التي غيرت مجرى تلك الانتخابات منذ بدايتها بنمط غير اعتيادي وأدت إلى صعود البعض وسقوط آخرون، فنجد أن سير الانتخابات لم يعتمد فقط على مواجهة البرامج الانتخابية الهشة للمرشحين بل اعتمد أساسا على انقسامات أيديولوجية مترسخة في الساحة السياسية الفرنسية متمثلة في كل مرشح أو على أيديولوجيات جديدة على الساحة تنفي الأعراف السياسية، كما يجب الأخذ في الاعتبار الدور الذي لعبته قضايا الاختلاس التي تم ترويجها من قبل الصحافة والاستراتيجيات العصرية لبعض المرشحين في تحديد شعبيتهم. ولعله من المهم فهم كيف تعكس تلك الانتخابات التحديات الفكرية السياسية التي تواجهها فرنسا: فصعود الحركات الراديكالية من اليمين ومن اليسار دليل على رفض النظام المؤسسي الحالي للجمهورية الخامسة وصرخة للطلب بجمهورية سادسة تتميز بسلطات برلمانية واسعة وتنهي النظام نصف الرئاسي كما يطالب ميلونشون، أو تتميز بسلطات رئاسية بدون رقاب كما تطالب مارين لوبن. في كلتا الحالتين، نجد الرغبة لقلب النظام السياسي هي النقطة المحورية التي تدفع تلك الانتخابات ومرشحيها إلى الأمام.ولعل حضور الأحزاب التروتسكية في المناظرة التلفزيونية قد أتاح لهم منصة ليعبروا منها بصوت مسموع أمام الشعب الفرنسي عن سخطهم وعن عيوب النظام الرأسمالي واهدار حقوق العاملين كي يصبح الغني أغنى.[9]
كما أنه لا يجب مراقبة تلك الانتخابات كحالة منفردة تعكس المناخ السياسي الداخلي لفرنسا فقط، بل يجب أيضا الأخذ بالاعتبار انسياق تلك الانتخابات في مناخ أوروبي ودولي يتميز بصعود غير مسبوق للحركات اليمينية المتطرفة ذات النزعة القومية. فنرى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنجو من تلك الأيديولوجيات الشعبوية التي عرفتها البشرية في بدايات القرن العشرين حينما تم انتخاب دونالد ترامب على أساس برنامج “أمريكا أولا”. وللعودة إلى الاتحاد الأوروبي فنجد أن هذه السنة شهدت وستشهد سلسلة من الانتخابات الرئيسية والتشريعية التي ستقرر مصير الاتحاد الأوروبي نظرا لأهمية الدور الذي تلعبه الحركات الوطنية: فقد نجت النمسا من ديماغوجية المرشح اليميني المتطرف نوربرت هوفر الذي خسر بفارق ضئيل أمام مرشح حزب الخضر الكسندر فان دير بيلين في ديسمبر 2016، كما تم هزيمة الحزب اليمين المتطرف الهولندي بقيادة خيرت فيلدرز الذي استطاع إضافة خمسة مقاعد، لكنه فشل في الفوز بالاقتراع أمام حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية الليبرالي بقيادة رئيس الحكومة مارك روتي، رغم ما كانت ترجحه استطلاعات الرأي. ولكن في كلتا الحالتين نستطيع أن نراقب عن كثب حيثيات صعود تلك الحركات القومية وتهوين أهميتها، ففي السياق النمساوي اعتمد المرشح اليميني في خطاباته المناقضة لاستقبال اللاجئين على قاعدة الناخبين اليمنيين القاطنة حدود جنوب شرق النمسا، حيث يوجد وفود من اللاجئين السوريين العابرين من المجر ومن البلقان. أما في سياق الانتخابات الهولندية فالنظام المؤسسي البرلماني للسلطة يفرض على الأحزاب تكوين تكتلات للحكم. وإذا عدنا لسياق فرنسا، فتلك الانتخابات الرئاسية هي أهم وأخطر لعدة أسباب: أولا الخلل المؤسسي في النظام نصف الرئاسي الفرنسي الذي يجعل رئيس الجمهورية مسؤول من الشعب فقط بموجب أنه تم انتخابه عن طريق الاقتراع العام، ورئيس الوزراء يتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية بموافقة من البرلمان، ولكن بما أن الانتخابات التشريعية الفرنسية تلحق الانتخابات الرئاسية فورا؛ فذلك يجعل الرئيس والبرلمان من نفس ذات التيار السياسي، مما يعطي سلطات واسعة للرئيس الذي في واقع الأمر يتحكم في سياسات الحكومة ورئيس الوزراء. ثانيا، فإذا خرجت فرنسا من الاتحاد الأوروبي فسيسبب ذلك خللا بنيويا سيؤدي إلى انهيار الاتحاد ككل وهو ما يثير قلق أوروبا والعالم أجمع نظرا للتداعيات السياسية والاقتصادية.
الانتخابات: النتائج والسيناريوهات المستقبلية[10]
تعبر نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات عن حالة الانقسام المجتمعي بفرنسا، فنجد أن ماكرون حصل على 24.01% ولوبين حصلت على 21.3% وفيون حصل على 20.01% وأخيرا ميلنشون حصل على 19.58%. ذلك التقارب في النتائج يدل على التفكك الحاد للأصوات بين مرشحين من جميع التيارات السياسية وهو ما يعكس عدم استطاعة الشعب الفرنسي أن يتكتل خلف وجهات نظر توافقية بل ينقسمون بسبب اختلافات أيدولوجية متصارعة.
استطاع ماكرون إقناع أغلبية الناخبين بالتكتل خلفه رغم ضعف برنامجه ولكنه أغراهم بأسلوبه الحديث وما يمثله من تغيير في الحياة السياسية الفرنسية. واثبتت مارين لوبين قدرتها على جذب شريحة ثابتة من الناخبين لم يستطع والدها جذبها خلال انتخابات 2002 حين حصوله على 16.8% فقط من الأصوات. وإذا انتقلنا إلى النتيجة التي أحرزها فرنسوا فيون فمن المثير كيف أستطاع -برغم جميع الاتهامات في قضايا فساد- أن يجذب شريحة من الناخبين الذين لم يجدوا حرجا في دعم رجل سياسي مدعي الاستقامة وفي نفس الوقت متهم بإهدار المال العام. من ناحية أخرى استطاع اليساري ميلنشون أن يحصل على أصوات ليست بهينة مما يدل على نجاح حملته الانتخابية وأيضا على اعتباره -منذ الأن- كرجل سياسي ذو ثقل وشرعية بين تيارات اليسار. وأخيرا تعتبر نتيجة هامون الاشتراكي الذي حصل على 6.36% هي إعلان واضح لضعف شعبية الحزب الاشتراكي وعدم قدرته على الاقناع برغم وعود هامون بالتغيير. فخسارة الحزب الاشتراكي تعتبر نتيجة سخط شريحة كبيرة من الاشتراكيين من رئاسة فرانسوا هولاند.
من جهة أخرى كان فوز ماكرون بـ66٪ من الأصوات أمام مارين لوبن 34% بالجولة الثانية متوقع نظرا لتكوين جبهة جمهورية تضم اليمين واليسار لقهر مارين لوبن التي صورت كعدوة الديموقراطية والجمهورية في ذهن شريحة كبيرة من الفرنسيين. ولكن يجب ذكر نسبة الامتناع 26% ونسبة الأصوات الباطلة 9% المرتفعة والتي تدل على رفض شريحة ليست بهينة لكلا من ماكرون الليبرالي ولوبين القومية. هؤلاء الذين امتنعوا يمثلون في الأغلب ناخبي اليسار الراديكالي المتمثل في ميلنشون واليمين المحافظ المتمثل في فيون. فناخبين ميلنشون لا يريدون انتخاب ماكرون فقط لهزم لوبين خوفا من برنامجه الاقتصادي الليبرالي المتحيز لرجال البنوك والاعمال، وناخبين فيون برغم اتفاقهم مع ليبرالية ماكرون فهم يحرصون على قيم تقليدية مثل العائلة والهوية الفرنسية الكاثوليكية غير متمثلة في ماكرون وفي نفس الوقت لا يريدون التصويت ليمين راديكالي وقومي.
كما فشلت استراتيجية مارين لوبين خلال المناظرة الرئاسية بين الجولتين، حيث ركزت على مهاجمة خصمها ولم تكرس وقتا كافيا لتقدم برنامجها. أدت تلك الاستراتيجية إلى جعل المناظرة مجردة من أي محتوىن وبالفعل تم انتقاد المناظرة واعتبرت الأسوأ في تاريخ المناظرات السياسية.
بعد أسبوع من انتخابه وبعد أيام قليلة من توليه السلطة قام إيمانويل ماكرون بتعيين إدوارد فيليب كرئيس وزراء مكلف بتشكيل حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال لحين إجراء الانتخابات التشريعية، وهو محافظ مدينة الهافر الساحلية ورجل اليمين المعتدل وعضو الحزب اليمن الجمهوري. من خلال هذا الاختيار قام ماكرون رمزيا بكسر الحواجز بين اليمين واليسار الذي وعد به، فلأول مرة يتم تعين رئيس وزراء يميني من قبل رئيس يحسب على اليسار الوسط باختياره وبدون ضغط من الأغلبية البرلمانية المعارضة كما كان يحدث سابقا. يدل اختيار الوزراء بالحكومة الجديدة على سياسة ماكرون لحكم الدولة وهو عن طريق تشكيل حكومة توافقية تضم عناصر من أحزاب اليمين ومن أحزاب اليسار كالحزب الجمهوري وحزب الوسط والحزب الاشتراكي، كما أنها تضم عناصر من المجتمع المدني. يذكر لماكرون وفيليب أنهم حرسواعلى تمثيل المرأة بشكل قوي فأصبح نصف الوزراء من النساء. ولكن لعل أبرز النقاط في تشكيل الحكومة الجديدة التي تدل على عدم وفاء ماكرون بوعوده هي عدم تعيين وزير ووزارة خاصة لحقوق المرأة، أي هو ما توعد به الرئيس المنتخب في برنامجه. ومن أهم القوانين التي ستعمل الحكومة عليها هو قانون “استقامة الحياة السياسية” للحد من الفساد ولمنع الفاسدين من تولي سلطات بالدولة لمنع ما حدث خلال تلك الانتخابات، كما أنه سيتم التركيز عن كثب على ملف الارهاب والأمن القومي.
على الساحة الدولية فماكرون هو مناصر للاتحاد الأوروبي وحليف ألمانيا وانجلا ميركل. الدلائل على ذلك هو زيارة ماكرون لبرلين كأول زيارة رسمية بالخارج للرئيس المنتخب وأيضا تعينه سفير فرانسا بألمانيا كمستشار دبلوماسي للقصر الرئاسي. ولعل من أهم العلامات الرمزية بالحكومة الجديدة هي إعادة تسمية وزارة العلاقات الخارجية والتنمية الدولية الفرنسية التي أصبح اسمها الجديد هو وزارة أوروبا والعلاقات الخارجية مما يضع الاهتمام الأول والرئيسي على مشروع الاتحاد الأوروبي.
إذا كان ماكرون هو التغيير فهو مجرد تغيير في الوجوه وفي الاستراتيجيات وليس في المضمون، فماكرون هو ابن النظام بمعنى أنه درس وعمل بنفس المؤسسات كجميع رجال ونساء السياسة، الفارق الوحيد هو أنه وجه جديد بسبب صغر سنه وعدم انخراطه بالسياسة أثناء عمله بأكبر البنوك. الأيام والاشهر المقبلة ستبين لنا إلى أي مدى سيفي ماكرون بوعوده بالتغيير. كما أن الانتخابات التشريعية هي بمثابة فرصة ثانية لليسار كي يتحد تحت راية واحدة بأمل أن يحصلوا على الأغلبية البرلمانية أو على الأقل يجبروا ماكرون على تكوين تحالفات وتكلات.
على ضوء ذلك ستشهد الانتخابات التشريعية إثارة مثل ما حدث خلال الانتخابات الرئاسية، فالأن يتوجب على ماكرون أن يكون القوائم التي سيرشحها لتمثل حركته السياسية وتدعم سياساته داخل البرلمان. فالنظام المؤسسي السياسي الفرنسي يحتم على الرئيس الحصول على الأغلبية البرلمانية كي يستطيع أن يعين رئيس وزراء مستعد لتنفيذ سياسات الرئيس بطريقة غير رسمية، فماكرون هو رئيس الدولة ورئيس الوزراء هو رئيس الحكومة وإذا كان الاثنين من نفس التيار السياسي ففعليا رئيس الجمهورية هو من يتخذ القرارات. السؤال يبقى هل إدوارد فيليب سيدعم مرشحين حركة ماكرون خلال الانتخابات التشريعية أم سيدعم مرشحين حزبه اليمني الجمهوري؟
يجب النظر عن كسب لنتيجة تلك الانتخابات وأثرها على الأحزاب التقليدية الفرنسية من حزب اليمين الجمهوري والحزب الاشتراكي. فنجد أن الحزب الاشتراكي قد تفكك أكثر مما سبق بسبب تأثير موجة ماكرون التي دعمت التيار الوسطي اليميني داخل الحزب الاشتراكي واستبعدت التيار اليساري. أما حزب اليمين الجمهوري قد حافظ على وحدته برغم تصارع التيارات بداخله. فنجد تيارا يمينيا محافظا لا يرى أي تطابق بين برنامج الحزب وبين برنامج ماكرون، وتيار أخر أكثر وسطية يرى بعض النقاط المشتركة في برنامج ماكرون الاقتصادي والاجتماعي ويدعم فكرة الترشح للانتخابات التشريعية تحت جناح ماكرون.
ما يحدث الأن في الحياة السياسية الفرنسية من تكتلات وتكوين حكومة مختلطة غير تقليدية يعتبر اختبار أي تجربة لاستراتيجية حكم جديدة على النظام السياسي الفرنسي للجمهورية الخامسة. فنظام التكتلات والتحالفات للحكم داخل البرلمان وداخل الحكومة ليس بجديد ففي ألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية يقوم نظام الحكم على تطبيق سياسات توافقية ووسطية قد تميل أحيانا لليمين أو لليسار ولكن ليس بطريقة راديكالية. لذا من المثير لأي محلل سياسي أن يشهد تلك التجربة السياسية الفرنسية عن كثب والتنبؤ بنتائجها ومدى التغيير الذي ستنتجه على الحياة والفكر السياسي في فرنسا.
يشهد لاستطلاعات الرأي في فرنسا بعد جولتي الانتخابات بأنها تنبأت بمرشحي الجولة الثانية وبفوز ماكرون في النهاية برغم مفاجأة تلك الانتخابات، ولم تخيب الظن كما حدث بانتخابات أمريكا وعدم تنبؤها بانتخاب دونالد ترامب. ليس من السهل التكهن بنتيجة تصويت الناخبين الفرنسيين نظرا لأنهم أكثر إدراكا باتجاهاتهم السياسية والأيدولوجية، ولكن من وجهة نظر العلوم السياسية فاستطلاعات الرأي لها دور في التأثير على نتيجة التصويت. يرجع ذلك إلى أن كلما تعرض الناخب لسيناريو محدد يصور له حدث ما أو فوز مرشح ما فيصبح ذلك الحدث حقيقة بسبب تصديق الناخب أن هذا هو ما سيكون. لذلك فكلما تنبأت استطلاعات الرأي ووسائل التواصل الاجتماعي أن ماكرون سيفوز فيصبح ذهن الناخب مستعدا لهذا الحدث وقد يساهم في تحقيقه.
وأخيرا، سنشهد لاحقا هذا العام انتخابات تشريعية في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا ستمثل امتحانا لمدى ثقل الحركات القومية في تلك البلاد: ففي بريطانيا تهدف رئيسة الحكومة تيريزا ماي أن تحصل على الدعم الشعبي للاستمرار في عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي Brexit. وشهدت ألمانيا صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” (Alternative für Deutschland) الإسلاموفوبي واليميني المتطرف وشهدت محاولات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل احتواء الموقف بعد أن شهدت انخفاضا ضئيلا في شعبيتها بسبب سياسات استقبال اللاجئين. وإذا نظرنا إلى إيطاليا، فالاقتصاد الهش وعدم الاستقرار السياسي الذي أدى لرفض التعديل الدستوري واستقالة ماتيو رنزي قد يؤدي الناخبين إلى اختيار مرشحين قوميين أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي. لذلك فنتيجة انتخابات فرنسا قد تمثل عاملا رمزيا حيويا لدعم أو لمحاربة الموجة القومية في القارة الأوروبية وقد تؤدي إلى تغيير في نتائج انتخابات البلدان المجاورة.
[1]هذا الجزء تمت كتابته ونشره قبل الانتخابات.
[3] فرانس 24، الشرطة الفرنسية توقف مقربين اثنين من مارين لوبان بشأن اتهامات بوظائف وهمية، 22 فبراير 2017، https://goo.gl/vnQHRx
[4] Ibid
[5] الجزيرة نت، فيون ينفي اتهامات بالفساد ومحاباة زوجته، بتاريخ 27 يناير 2017، https://goo.gl/1W60m7
[6] Ibid
[7] Ibid
[8] Ibid
[9] Kim Willsher, Trotskyist and Farage friend among 11 taking part in French election debate, the guardian, 4 April 2017, https://goo.gl/dW8PGq