عملية السلام في كولومبيا ودور المجتمع المدني
أدريانا رويزريستريبو



Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [459.68 KB]

في كولومبيا يستطيع العجائز فقط تذكر الوقت الذي نعمت فيه البلاد بالاستقرار أما باقي السكان فعليهم اللجوء لخيالهم أو قراءة التاريخ والأدب أو زيارة دول أخرى للتعرف على الشعور المصاحب للتحرك من مكان لآخر في سلام. عاش معظم الفاعلين بالمجتمع المدني في خوف بشكل يومي ومر بعضهم بالعديد من الأحداث المأساوية بينما اضطر البعض الآخر للتأقلم على الفجائع التي كانت تصيب المقربين لهم بشكل مستمر.

استمر الصراع المسلح في كولومبيا خمسين عاما اضطر خلالها العاملون بالمجتمع المدني الانحياز لطرف دون آخر نتيجة لمواقف موروثة جعلت من الحياد خيارا شديد الصعوبة خاصة في ظل تتابع أحداث العنف التي دفعت هؤلاء الفاعلين للدفاع عن التيار السياسي الذي يؤيدونه سواء اليسار أو اليمين. أحدث هذا الاستقطاب تغييرا في الشخصية الكولومبية التي عرف عنها الود والتسامح. جدير بالذكر أن عدد الكولومبيين الذين انضموا بالفعل للصراع المسلح محدود نسبيا ومعظمهم لجأ لهذا بدافع الانتقام أو الطموح أو الدفاع عن عقيدة أو الحاجة للمال وتنطبق الأخيرة بشكل خاص على مناطق الغابات والريف حيث يشكل العمل مع الجماعات المسلحة مصدرا ثابتا للدخل لدى العديد من السكان.

وضعت الحكومة الكولومبية الحالية خارطة طريق للمفاوضات مع القوات الثورية المسلحة الكولومبية (فارك) كما بدأت مفاوضات سلام منفصلة مع ميليشيات جيش التحرير القومي. لم تكن هذه المبادرة الأولى من نوعها وقد تم بالفعل توقيع عدد من اتفاقيات السلام الناجحة مع ميليشيات أخرى وكذلك الجماعات المسلحة اليمينية. استغرقت المفاوضات مع فارك أربعة سنوات وعقدت في العاصمة الكوبية هافانا. في يوم 24 أغسطس قدمت حكومة الرئيس خوان مانويل سانتوس وقيادة فارك للشعب الكولومبي “الاتفاقية العامة لإنهاء النزاع وإرساء سلام دائم” المكونة من 297 صفحة وطرحت الاتفاقية للاستفتاء الشعبي يوم ٢ أكتوبر[1]. لم يتح للشعب الكولومبى سوى شهر واحد لقراءة الاتفاقية وتحليلها والتوافق على رأي موحد كما أن الحصانة الدستورية التي كانت ستمنح للاتفاقية حال الموافقة عليها جعلت القرار أكثر صعوبة. في ظل هذا التشتت قام السياسيون بالتلاعب عاطفياً بالمجتمع المدني من خلال خطاب شديد التبسيط يلخص الأمر لأحد حلين: نعم أريد السلام أو كلا لا أريد السلام. بعض الخبراء السياسيين نصحوا المواطنين بعدم قراءة نص الاتفاقية والتصويت بـ”قلبهم”. انقسمت البلاد إلى قطبي لا ونعم. ظن مؤيدو “نعم” أنهم الأسمى أخلاقيا واتهموا الفريق الآخر بتأييد استمرار الحرب بينما برر فريق “لا” رفضهم للاتفاقية بأنها تدعم الإفلات من العقاب وشعروا هم الآخرون بالسمو الأخلاقي لدعمهم السلام الحقيقي المتمثل في المؤسسات. وإلى جانب هذا برز غرور القادة السياسيين سواء من منهم في السلطة أو خارجها. سعى الرئيس سانتوس وفارك للحصول على دعم للاتفاقية من جانب وظهر من الجانب الآخر الكثير من القوى التي انتقدت الاتفاقية على رأسها الرئيس السابق ألڤارو أوريبي المعارض الأشرس لسانتوس.

تنبأت الصحافة واستطلاعات الرأي بفوز يسير لـ”نعم” بل أعلن الرئيس الكولومبي نهاية الحرب في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ودعا سكرتير عام الأمم المتحدة والعديد من الرؤساء والقادة لحضور مراسم توقيع الاتفاقية مع رئيس فارك في مدينة قرطاجنة. ارتدى جميع الحاضرين ملابس بيضاء بينما لونت الطائرات العسكرية السماء بألوان علم كولومبيا الأصفر والأزرق والأحمر. ثم صوت الشعب الكولومبي بـ”لا”. لم يجد الشعب ضمانات السلام والعدالة الكافية في الاتفاقية التي تبنتها الحكومة.

لم ينجح فريق” نعم” في إقناع الشعب بالاتفاقية على الرغم من تأكيده على أهمية تعويض الضحايا من خلال العدالة الانتقالية والكشف عن المجازر التي تم ارتكابها أثناء الصراع والتصالح والبدء من جديد وضمان مستقبل أفضل للمناطق الريفية. فقد نجح فريق “لا” في إقناع الشعب أنه ليس من العدل التسامح مع ميليشيا فارك وتمويل حزبها السياسي بل ومنحها مقاعد في البرلمان والعفو عن أعضائها وقادتها الذين نفذوا العديد من المجازر وعمليات الاختطاف (إنجريد بيتانكور ومئات آخرون) وجندوا الأطفال ومارسوا الإتجار بالبشر كل هذا مع تقييد حركة أعضاء الميلشيا فقط. كما لعبت الأزمة في فنزويلا الداعمة لفارك دورا رئسيا في رفض الشعب الكولومبي للاتفاقية حيث توشك الحكومة الفنزويلية بقيادة نيكولاس مادورو على فرض تعديلات ضريبية لتعويض انخفاض أسعار النفط وكذلك لتمويل عملية السلام الكولومبية.

لم يتعد الفارق بين “نعم” و”لا” 60 ألف صوت وأدي هذا الفارق الضئيل للكثير من التحليلات التي هدفت إلى تفسير النتيجة. في اعتقادي كان يمكن أن تكون النتيجة “نعم” لو تم إعطاء المجتمع المدني فترة أطول للتفكير والتدبر لكن لم تفعل مؤسسات الدولة ذلك وبالتالي لم تعط الفرصة للانتقال من المشاعر المعادية للاتفاقية لتفهم الاحتياج الماس لإحداث تغيير. لا يكفي شهر واحد لتبديل الآثار التي خلفها صراع دام أكثر من نصف قرن وإيجاد رغبة للتصالح مع طرف كان عدوا طوال هذه الفترة، فمنذ ثمان سنوات فقط خرج المجتمع المدني داخل كولومبيا وخارجها في تظاهرات تندد بميليشيا فارك وتنعت أعضائها بالإرهابيين وعصابات تجارة المخدرات[2]. كما لم يقتنع الشعب بخروج أعضاء فارك للترويج للسلام مستعينين في ذلك بالعديد من المشاهير.

فرض تغيرات سياسية على المجتمع المدني ليس بهذه السهولة فلا يمكن تسيير أو تعبئة الشعوب كالقطيع بل يجب إقناعهم بالأفكار الجديدة وإلهامهم بأمثلة للنجاح وكلاهما يتطلب وقت طويل وحوار مجتمعي ممتد. المجتمع المدني ليس واجهة أخرى للمجتمع الاستهلاكي بل له منطق مختلف تماما لا يمكن توجيهه بالإعلانات والعواطف فالرغبة في الحصول على شيء تختلف تماما عن محاولة فهم هذا الشيء. يحتاج الإنسان لأسباب ليقدم على خطوة معينة ولا يمكن أن يتم دفعه في اتجاه ما.

أشار الاستفتاء الشعبي في كولومبيا مثل نظيره البريطاني أن خلف ستار غرفة الاقتراع يعبر المصوتون عن مخاوفهم وانعدام الثقة في حكوماتهم وهذا وضع لا تغيره سوى قيادة قادرة على إقناع الشعب بأهمية التغيير. ما حدث أن الوقت الذي لم يتح للشعب الكولومبي أتيح له، أو بالأحرى فرض عليه، بعد الاستفتاء حيث بدأ الكولومبيون يفكرون ويتناقشون ويقررون ما إذا كانوا سيظلون في حالة انقسام أم سيتوحدون حول رأي واحد يدفع عملية السلام التي بدأت على أي حال للأمام.

قارن البعض هذه اللحظة بالربيع العربي لكنني غير واثق من دقة هذه المقارنة. لقد حظيت بالتعرف عن قرب على الحياة السياسية والاجتماعية في تونس ومصر ما بين 2009 و2012 وشهدت خلال هذه الفترة نشأة مجتمع مدني ميز نفسه عن المجتمع السياسي الذي حرم الشعب من العدالة الاجتماعية والديمقراطية وسيادة القانون وحرية التعبير أثناء حكم بن علي ومبارك. يختلف الأمر في كولومبيا فلا يطالب المجتمع المدني بالديمقراطية لأنها مطبقة بالفعل رغم الإصلاحات التي تتطلبها ولا ينفصل المجتمع المدني عن النخبة السياسية بل انقسم على نفسه وانحاز كل فريق لأحد المعسكرين. يرى بعض الخبراء أن الحكومة أخطأت بطرح الاتفاقية للاستفتاء الشعبي لأن هذا خلق حالة من الاستقطاب الحاد. وأنا أرى على العكس أن السؤال وليس الجواب هو ما قد ينتقل بالمجتمع المدني لحالة من النضح والقدرة على التعايش. الجهد المبذول حالياً لمحاولة الوصول لحل وسط بيت “نعم” و”لا” هو ما يجعلنا نتطور. كما أن الوصول لاتفاقية سلام في بلد مزقه الصراع لأكثر من نصف قرن هو في ذاته إنجاز يجعل الرئيس سانتوس جديراً بجائزة نوبل للسلام التي حصل عليها رغم أنه كان من الأفضل لو حدث هذا بعد إنهاء الاستقطاب وليس قبله. حينها لن يبدو الاحتفاء الدولي بالجهود التي بذلها الرئيس وسيلة للضغط في اتجاه “نعم” على عكس إرادة الشعب الكولومبي الذي قال للرئيس “لا”.

تتركز مهمة المجتمع السياسي في كولومبيا الآن حول إعادة النظر في الاتفاقية وإنهاء النزاع المسلح ويواجه المجتمع المدني تحدي الاستقلال عن المجتمع السياسي ليتمكن من توحيد الشعب حول رأي واحد ينبذ الانقسام بين “نعم” و”لا” ويدعم ما يخدم الكولومبيين في المقام الأول. على المجتمع المدني أن يعمل بالتوازي مع المجتمع السياسي لا أن يتحول لجزء منه. يحتاج الشعب الكولومبي وقت ليس بقصير للبدء من جديد والتأمل والنقاش وكذلك إعطاء الفرصة للقادة السياسيين للوصول إلى حلول وسط حتى لا تتكرر الأخطاء التي أدت منذ ستين عاماً لظهور فارك وجيش التحرير والميليشيات الأخرى.

لقد بدأ المجتمع المدني منذ الثالث من أكتوبر في العمل على الحفاظ على استقلاله والتوفيق بين الآراء المختلفة حول الاتفاقية بشكل ديمقراطي وبناء يسفر عن نضجه في الآونة الأخيرة وحرصه على تحقيق السلام في المقام الأول. هذه الصحوة التي يمر بها المجتمع المدني تنبئ بأننا أوشكنا على اللحاق بأشقائنا العرب وأن ربيعنا قد بدأ بالفعل.


[1] https://www.equaltimes.org/war-art-and-peace-about-the?lang=en#.WBZhuC197IU

[2] http://plataformacol.com/7-anos-despues/

 

Start typing and press Enter to search