نيرة عبد الرحمن
مصر
تتعدد التحديات التي تواجه نظام التعليم في مصر على مستويات عدة مما يحد من عدم توافر “الحق في التعليم” بعناصره المختلفة، كما نص عليه التعليق 13 على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.[i] من ضمن هذه العناصر هي جودة التعليم ومدى تكيف المناهج مع احتياجات المتعلمين من معارف ومهارات.
لقد أكدت الخطة الاستراتيجية للتعليم قبل الجامعي 2014-2030 على “غياب الرؤية الشاملة فيتجديدالمناهج، والارتكان في عملية التحديث إلى مفهوم الاجتزاء الذي يقوم على خلط أجزاء من مناهج دولية غير متجانسة، وكذلك، انفصام المنهج وطرائق التعليم والتعلم عن الواقع الحالي للبيئة المدرسية، وبرامج تأهيل الكوادر التربوية المختلفة مع ضعف مشاركة المعلمين في المناقشات الخاصة بالمناهج والمهارات المطلوب تعلمها وضعف مساهمتهم في بناء المواد التعليمية المساعدة حتى داخل حجرات الدراسة“.
ستقوم هذه الورقة، بعد تفصيل أهم التحديات التي تواجه منهجية ومراحل وضع المنهج في مصر والتجارب الدولية، باقتراح بعض الاستراتيجيات لتطوير هذه العملية.
وتواجه عملية وضع المناهج في مصر تحديات مختلفة أهمها:
– عدم التركيز على المتعلم في النص الدستوري الذي يحدد الهدف من التعليم.
– عدم وجود نص قانوني محدد شارح لعملية وضع المناهج في مصر.
– عدم وضوح وظيفة ودور مركز تطوير المناهج في عملية تطوير المناهج وطريقة تعيين واختيار أعضائه.
– المركزية الشديدة في وضع المناهج وعدم اشراك الأطراف المعنية بما في ذلك المجالس النيابية.
– عدم تركيز المناهج على المتعلم بشكل مباشر وتعليمه ما يلزمه في حياته.
– عدم موائمة المناهج لتغيرات العصر ليس فقط من حيث التقنيات لكن الفلسفة وراء التعليم وأحدث ما توصلت اليه العلوم.
– عدم وجود تنسيق واضح بين واضعي المناهج والمدرسين وتدريبهم.
– جمود ونمطية أساليب التقييم.
– جمود المناهج وعدم قابليتها لمشاركة المتعلمين وتنمية مهارات النقد لديهم.
– عدم وجود تكافؤ في الفرص بين المدارس الخاصة والحكومية من حيث جودة المناهج.
المناهج في قلب العملية التعليمية
خلال العقود الأخيرة، ركزت التقارير والتوصيات الخاصة بالتعليم في مصر على المعايير الكمية مثل عدد الملتحقين بالمدارس وعدد المدارس المبنية في مقابل إهمال المعايير الكيفية. يعتبر توفير التعليم وتعميمه من أهم واجبات الدولة الملزمة بها دوليا لكن الأهم هو ماهية هذا التعليم وجودته وكيف يتم تقديمه ومن يقدمه وفي أي بيئة يُقدم. كل هذه الأسئلة تهتم بجودة التعليم، بالكيف ليس الكم. وذلك ما يسمي بالمنهج.
يقع المنهج الدراسي في قلب العملية التعليمية لما له من أهمية مباشرة في تكوين شخصية المتعلمين ولتجسيده أهداف التعليم العامة في هذه البلد. ويتضمن المنهج المحتوى العلمي في الكتب الدراسية بالإضافة إلى طرق التدريس وطريقة العرض وكيفية التقييم. تعتبر المناهج العامل الرئيسي الذي يعتمد عليه جوده العملية التعليمية. لذلك تهتم هذه الورقة بمعايير وضع المناهج وجودتها خاصة أن هناك اهتمام بهذه القضية على مستويات متعددة: يطالب الأهالي والطلبة في مصر بضرورة تطوير المناهج الدراسية، هناك اهتمام إعلامي وأكاديمي بمحتوي المناهج الدراسية لما لها من تأثير مباشر على صياغة وعي وشخصية الطلاب، وكما أوضحنا سابقا كانت جودة التعليم ثاني قضية تناقشية في استراتيجية التعليم قبل الجامعي الصادرة عن وزارة التربية والتعليم عام 2014.
معايير وضع المناهج طبقا للتجارب الدولية
طبقا لدراسة اليونسكو حول تقييم المناهج[ii]، يعتمد وضع المناهج على:
- القيم التي تحكم مجتمع ما.
- احتياجات ومطالب هذا المجتمع التي تتأثر بالسياسة التعليمية.
وبالتالي:
– كلما كانت العملية تشاركية تسمح للمعنيين بالتعبير عن آرائهم كلما كان المنهج معبرا عن قيم واحتياجات ومطالب المجتمع.
– توافر القدر الكافي من المرونة والابتكار في المناهج والمعرفة والإمكانيات اللازمة للطفل/المتعلم لتنمية شخصيته وقدراته بشكل مستقل[iii].
فإذا كانت العملية التي تنشئ هذا المنهج تتسم بالمركزية الشديدة والتكتم، إذن كيف يمكنها ان توفر هذه المرونة والتركيز على الطفل في البيئات المختلفة في دولة ما؟.
تقترب فرنسا من الحالة المصرية في أنها دولة مركزية، فحتى عام 2013 لم يكن لديها جهة واحدة مسؤولة عن وضع المناهج الدراسية كما أنه لديها أكثر من 300 وثيقة تخص المناهج[iv]. الا أن في 2013، في إطار سياسة لتطوير نظام التعليم في فرنسا:
– تم إنشاء المجلس الأعلى للمناهج بهدف الحفاظ على شفافية واستقلالية وضع المناهج الدراسية.
– يختار الوزير رئيس المجلس ثم يقوم الأخير باختيار 18 عضوا يضمن فيهم تمثيل عادل بين الجنسين ويكون ضمن الأعضاء 6 أعضاء من المجالس النيابية، وأن يكون الباقي خبراء في شئون التعليم.
– يقوم المجلس بتحديد المبادئ الرئيسية للمناهج مع الأخذ بآراء اراء المتخصصين في كل المجالات ثم يتم عرض الوثائق على المجلس الأعلى للتعليم قبل أن يتم إقرارها من الوزير.[v]
أما بالنسبة لفنلندا التي تعتبرها الدول الأوروبية والولايات المتحدة أنها حققت معجزة في التعليم. لقد بدأت في السبعينيات عملية تطوير النظام التعليمي بهدف تحقيق العدالة بين كل الأفراد في المجتمع في الحصول على نفس فرصة التعليم. ومنذ أواخر الثمانينيات وخلال التسعينيات بدأت عملية تدريجية لتفعيل اللامركزية وإعطاء السلطات المحلية مزيد من السلطات والصلاحيات الخاصة بالتعليم.
وحاليا تقوم عملية وضع المناهج في فنلندا على الآتي:
– يقوم المجلس القومي للتعليم بإصدار وثيقة المنهج. تصدر هذه الوثيقة مستندة على مجموعة من النقاشات وورش العمل الموسعة على مستوى كل المحليات ولها ثلاث وظائف رئيسية: إدارية وفكرية وتربوية. توضح هذه الوثيقة الهدف الأساسي من التعليم في فنلندا كما أنها توضح المواد الدراسية لكل مرحلة عمرية مع تفصيل أهدافها وما يجب أن يصل إليه المتعلم بعد أن يتعرض لهذه المعارف. كما أنها تقسم عدد الساعات.
– للسلطات المحلية والمدارس أن تترجم هذه الوثيقة بالشكل الأنسب للبيئة المحلية من حيث الموضوعات وعدد الساعات وإدارة العملية التعليمية من خلال إصدار وثائق محلية للمنهج المعتمد على المستوي القومي.[vi]
– تملك المدارس الفنلندية بل والمدرسين الكثير من الاستقلالية في تحديد ما سيتم تدريسه وفقا لوثيقة المنهج المحلية والوثيقة الرسمية للمنهج على المستوى القومي.[vii]
– يهتم النظام التعليمي في فنلندا اهتماما خاصا بالمدرسين الذين يجب أن يكونوا على الأقل حاصلين على درجة الماجيستير ويحصلون على تدريبات مكثفة والرواتب العالية ولكن أيضا الكثير من الاستقلالية للتعامل داخل الفصول.
توصيات لتطوير عملية وضع المناهج في مصر
إن تطوير المناهج لا يمكن أن يحدث دون تحديث عملية وضع المناهج بحيث تكون أكثر تشاركية وتمثيلا للفئات الاجتماعية المختلفة،بمعنى أن العملية نفسها تكون واضحة وبها مراحل محددة تتم في شفافية وتشرك جميع الأطراف المعنية سواء الجهات التنفيذية من وزارة ومركز تطوير التعليم، أيضا الجهات المحلية والأفراد كالمدرسين والتلاميذ والأهالي. هذا بالإضافة إلى ضرورة النظر في طريقة تعيين العاملين في مركز تطوير التعليم والمعنيين بوضع المناهج في الوزارة حيث يتم تعيينهم وفق للكفاءة والخبرة في هذا المجال وليس الأقدمية وطريقة التعيين بدون قواعد واضحة كما هو الحال في معظم الجهات الحكومية. كما أنه يجب أن يكون هناك عدالة بين الجميع أمام حقهم في تعليم عال الجودة متأقلم مع ظروفهم وذلك لن يحدث إلا بتطوير المناهج وطرق التدريس في المدارس الحكومية ونظم التقييم والامتحانات التي تعتمد على الحفظ والتلقين فقط دون الحاجة إلى فهم وتنشيط قدرات الطالب النقدية. بالتالي يجب أن يكون المنهج مرن بحيث يتأقلم مع المجتمعات المختلفة الموجودة في مصر. فما يحتاجه الطالب في الواحات لن يكون مثل ما يحتاجه في الإسكندرية. الأهم ان تكون جودة التعليم على مستوى الجمهورية عالية وواحدة للجميع وأن تكون مركزة على تنمية شخصية الطالب أولا. لن يحدث ذلك دون تدريبات مكثفة للمعلمين وتطوير البيئة الدراسية داخل المدارس، بالتالي فإن تحديث عملية وضع المناهج في مصر لن تتطلب فقط المزيد من اللامركزية وإدخال عناصر كفء في العملية ولكن أيضا جهود من التنسيق مع الجهات المعنية بإعداد المعلمين من كليات التربية وأكاديمية المعلمين وأيضا المركز المختص بوضع الامتحانات. ليس ذلك فقط بل سيتطلب تعديلات في الميزانية، حيث سيتطلب ذلك تغيير في رواتب المعلمين والحصص الخاصة بالمحافظات المختلفة وكل ما يخص طباعة الكتب الجديدة. إن تطوير المناهج مطلوب ولكن إذا حدث دون منهجية معتمدة على التشاركية والتمثيل والكفاءة فلن يكون له أي صدى وسيتم إنتاج نفس أخطاء الماضي.
بالتالي تقترح هذه الورقة ثلاث توصيات أساسية:
- إجراء بعض الإصلاحات التشريعية سواء على مستوى الدستور أو القوانين بحيث يتم توضيح فلسفة التعليم في مصر وأن تركز على الطفل ومعارفه ومهاراته أكثر من الأهداف القومية الشاملة التي تلغي الفرد.
- أن يتم صياغة ميثاق جديد للمنهج قائم على التشاركية والتركيز على المتعلم ومرونة عملية التعليم.
- رفع كفاءة المدرسين ومكانتهم.
آليات تنفيذ التوصيات
قبل تفصيل آليات تنفيذ هذه التوصيات، يجب الإشارة إلى أنها تحتاج إلى مناقشة جادة بين الفاعلين المعنيين سواء من الجهات التنفيذية والتشريعية والمجتمع المدني بأركانه المختلفة من مؤسسات غير حكومية ونقابات وأفراد معنيين بقضية التعليم في مصر. بالإضافة إلى ضرورة توافر الإرادة السياسية الجادة من قبل متخذي القرار في مصر لتطوير التعليم وأن يكون مركزا على تطور الطلبة ومعارفهم ومهاراتهم.
أولا: إصلاحات تشريعية
ترتبط تحديات التعليم في مصر وخاصة عملية وضع المناهج بالخطوات التنفيذية ولكن أيضا بالفلسفة التي تتبناها الدولة حول التعليم والقوانين التي تحكم العملية التعليمية ككل في مصر. بالتالي لجعل عملية وضع المناهج أكثر تشاركية ومرونة وتمثيلا للفئات المجتمعية المختلفة يجب أن يكون هناك بعض الإصلاحات التشريعية:
- أن يتم مراجعة المواد الخاصة بالتعليم في الدستور وأن يكون تركيزها على المتعلم وعلى تنمية معارفه ومهاراته وقدراته على التفكير النقدي.
- أن يتم مراجعة قانون التعليم 1981 والتركيز أيضا على المتعلم به.
- أن يتم إضافة باب في قانون التعليم خاص بتوضيح عملية وضع المناهج في مصر، وأن تتسع العملية لمشاركة الفئات المجتمعية المختلفة ولا تقتصر فقط على العاملين في الوزارة.
- صياغة مادة توضح اختصاصات مركز تطوير التعليم وطرق التعيين بداخله، بحيث تكون قائمة على الكفاءة وأن تقوم عملية الاختيار بشفافية وعلانية وليس على التعيين من قبل الوزير فقط.
- صياغة مادة تؤكد على دور واضح للجهات التشريعية في عملية وضع المناهج.
- أن يتم مراجعة الدستور وقانون التعليم بحيث يضمن اللامركزية في العملية التعليمية، وأن يتم تمثيل الجهات المختلفة في المحافظات وعدم الاقتصار على القاهرة.
ثانيا: صياغة ميثاق جديد للمنهج قائم على التشاركية والتركيز على المتعلم ومرونة عملية التعليم
يعتبر ميثاق المنهج هو المرجع الذي يعود اليه مؤلفو الكتب الدراسية لصياغتها وكتابتها. يتضمن هذا الميثاق فلسفة التعليم في كل مرحلة تعليمية وأهم اهدافه وأهم المهارات والنتائج التي يجب أن يكون عليها المتعلم بعد أن يتم دراسة هذه المواد. يحدد أيضا هذا الميثاق طرق التدريس وساعات الدراسة المطلوبة. يجب أن يتم صياغة هذا الميثاق بحيث يكون شديد الوضوح ومرن ليسمح لمؤلفي الكتب أن يبدعوا وأن يكون هناك طرق مختلفة لترجمة هذه الإرشادات بطرق مختلفة. لقد تم إصدار ميثاق للمنهج في مصر لكن كما وضحنا تم صياغته بدون مشاركة مجتمعية ولم يغير بشكل جذري المناهج التعليمية وكيفية تدريسها كما تقترح هذه الورقة. بالتالي نقترح الآتي:
- تغيير طريقة تعيين العاملين في مركز تطوير المناهج بحيث يكون ممثلا للجهات المعنية المختلفة من الوزارة، الجهات التشريعية، المحافظات والمجتمع المدني والمتخصصين في قضايا التعليم.
- تشكيل لجنة من مركز تطوير المناهج دورها أن تقوم بصياغة ميثاق جديد للمنهج للمرحلة الابتدائية كبداية وأن تكون العملية قائمة على ورش عمل مع الجهات والأفراد المعنيين في مناطق مختلفة من الجمهورية.
- تكون إحدى أدوار هذه اللجنة هو إعادة النظر في طرق التقويم بحيث تجعل العملية التعليمية ليس فقط معتمدة على الحصول على درجات.
- يتم عرض هذا الميثاق على الوزارة ثم يتم اعتماده بعد مناقشة مجتمعية جادة ومناقشة البرلمان والتصويت عليه.
- يتم نشر ميثاق المنهج وفتح مسابقة للكتاب ودور النشر لكتابة وطباعة الكتب المدرسية.
- يتم انشاء لجنة لتقييم الكتب المقدمة خلال هذه المسابقة ومدى التزامها بالوثيقة ويتم اعتماد أكثر من كتاب واحد للمادة الواحدة ويكون للمدرس والمدرسة الحق في اختيار الكتاب المناسب لهم.
ثالثا: رفع كفاءة المدرسين ومكانتهم
لن تفلح محاولات تطوير المناهج دون إصلاح وتطوير عملية وضعها ودون رفع كفاءة المدرسين وتدريبهم على هذه المناهج. لذلك نقترح الآتي:
- تطوير مناهج كليات التربية وأكاديمية المعلمين بشكل مواز لتطوير المناهج الدراسية، وأن تتوافق مع ما سيتم تحديده في الميثاق الجديد للمنهج.
- تحفيز المدرسين على رفع كفاءتهم من خلال إعطاءهم المزيد من التدريب على طرق التعلم التشاركية والاستقلالية داخل الفصول.
- · العمل على زيادة رواتب المدرسين.
- العمل على تحسين مكانة وصورة المدرسين في المجتمع من خلال رفع كفاءتهم وأن يتم تعيينهم بعد أن يكونوا مروا بتدريبات واختبارات مختلفة تؤكد على قدرتهم على التعامل مع الأطفال والمراهقين بشكل علمي.
إن عملية تطوير منهجية وضع المناهج وتطبيقها عملية صعبة وطويلة المدى لكنها ضرورية في ظل ما يمر به النظام التعليمي المصري من تحديات. يجب أن تتوافر الإرادة السياسية والاجتماعية لتحقيق هذا التطوير وأن يكون معتمد على التشاركية والتمثيل والكفاءة. فالتطوير لن يتطلب فقط تغيير في القوانين والسياسات إنما أيضا تعديلات في الميزانية.
[i]ورقة شارحة – الحق في التعليم، ص. 9 والنص الأصلي للتعليق رقم 13 على العهد الدولي http://is.gd/D8dJQr
[ii]Christian Depover, “Conception et pilotage des reformes du curriculum”, UNESCO, mars 2006.
[iii]Christian Depover, ibid.
[iv] Roger-François Gauthier, Maryline Coquidé et Dominique Raulin, « France : l’avancée du Socle commun et les
questions posées », Revue internationale d’éducation de Sèvres [En ligne], 56 | avril 2011,
[v] Installation du conseil superieur des programmes, dossier de presentation, Ministere Education Nationale, octobre 2013
[vi]Finnish Education in a nutshell, Ministry of Education in Finland, in: http://is.gd/sl9HGO
[vii] Erja Vitikka, Leena Krokfors & Elisa Hurmerinta, “The Finnish national core curriculum: structure and
development”, Niemi, Toom & Kallioniemi (Eds.), Miracle of Education, University of Helsinki, 2012