ماذا يحدث داخل حزب العدالة والتنمية التركي؟
علي حسن

تصاعدت حدة الخلاف، والتصريحات والتصريحات المضادة بين قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مما يعكس لأزمة يعيشها الحزب بعد 13 عاما في الحكم. تجلت الأزمة وظهر أثرها خلال الانتخابات البرلمانية التركية في السابع من يونيه الماضي والتي خسر الحزب فيها حوالي 10% من الأصوات من كتلته الانتخابية.[i] تحاول الورقة البحث عن مظاهر تلك الخلافات والبحث في أسبابها، وكذا عن أثرها على نتائج الانتخابات، ونختتمها بسيناريوهات المستقبل القريب للوضع السياسي الراهن ولحزب العدالة والتنمية.

مظاهر الأزمة:

بدأت ملامح الأزمة تطفو على السطح مع أحداث غيزي بارك الشهيرة في ميدان تقسيم في مايو 2013 حيث رفض رئيس الوزراء التفاوض مع المتظاهرين ووصفهم بأقذع الألفاظ[ii]. ليخرج نائب رئيس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، وهو أيضا أحد مؤسسي الحزب ليتخذ موقفا مهدئا قائلا “إن تصريحات أردوغان فهمت في غير سياقها”، وكذا دعا رئيس الجمهورية إلى التهدئة ووجوب الحوار، في إشارة لأردوغان[iii]. فيخرج أردوغان بعدها ليرفض ادعاءات كلا منهما وينتقدهما علانية واصفهما بأنهما لا يعبران إلا عن أشخاصهما[iv]. تكررت الأزمة مرة ثانية وتصاعدت أثناء أحداث 30 يونيه في مصر ورد الفعل التركي من النظام الجديد. حيث سعى رئيس الوزراء أردوغان في ذلك الوقت باتخاذ موقف شديد الحدة والعداء ضد الأحداث، وما تلتها من ترتيبات سياسية جديدة إلى الآن. على عكس رئيس الجمهورية عبد الله غول والذي اتخذ موقفا أقل حدة ويميل إلى التهدئة والحوار[v]. مرة أخرى يظهر انقسام الحزب في تعامله مع أزمة التعامل مع حركة “فتح الله كولن” أو ما يعرف إعلاميا بالكيان الموازي. فالحزب تحالف مع الحركة وأفسح لها الطريق داخل مؤسسات الدولة، بل وداخل الحزب أيضا لسنوات عديدة[vi]. حين اتخذ أردوغان ومجموعته (معه في ذلك داوود أوغلو) موقف التصفية الكامل، اتخذ عبد الله غول وأيده في ذلك بعض قيادات الحزب موقفا أكثر ليونة ورفضا لحالة الهياج والانتقام والتصفية، بل اعتمد غول أثناء رئاسته للجمهورية على العديد منهم في دائرة المستشارين المقربين. وهو ما ظهر في تصريحات الطرفين بتوتر مكتوم بينهما وحالة من الترقب وتصيد الأخطاء.

جاءت الانتخابات الرئاسية في 2014 لتعيد الخلافات إلى الواجهة مرة أخرى. وتعددت الانتقادات لسياسة أردوغان والتيار المؤيد له داخل الحزب من قبل تيارات أخرى أكثر برجماتية داخل الحزب، وعلى رأسهم بولنت أرنتش وعبد الله غول الذي أشيع بسعيه لتأسيس حزب جديد، ليخرج بعدها وينفي ذلك[vii]. اتخذ الخلاف منحى آخر قبيل الاستعداد للانتخابات البرلمانية لما لها من أهمية للحزب في توزيع الغنائم على الأعضاء، أيضا هي أول انتخابات يدخلها الحزب تحت قيادة رئيسه الجديد أحمد داوود أوغلو الذي يريد إظهار قدراته في إدارة الحزب. حيث طفى إلى السطح خلافا داخل التيار “الأردوغاني” في الحزب والمنتمي له أوغلو في صراع قوى على إدارة الحزب، ومن تكون له الكلمة العليا. ظهرت جليا عند استقالة رئيس المخابرات من منصبه وإعلانه الترشح على قوائم الحزب بدعم من أوغلو، والذي ووجه بانتقادات حادة وعلنية من رئيس الجمهورية أردوغان ورفضه لذلك. لتنتهي بتراجع رئيس المخابرات عن قراره والعودة لمنصبه الجديد[viii]. وكمؤشر أخير على صراعات الأجنحة داخل الحزب الحاكم بالتراشق اللفظي إلى حد السباب في الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بين اثنين من أهم أركان الحزب وهما “بولنت أرنتش” نائب رئيس الوزراء والمتحدث الرسمي، والثاني “مليح جوكتشاك” رئيس بلدية أنقرة[ix] وصلت لاتهامات بالفساد والتربح بالمنصب لكلا الطرفين[x].

جذور وأسباب الأزمة:

تتلخص أسباب الأزمة التي يواجهها الحزب من وجهة نظري في أربعة نقاط أساسية وهي:

1. التركيبة الداخلية للحزب: يعبر حزب العدالة والتنمية منذ النشأة وإلى الآن عن تحالف واسع، ويضم طيفا من التيارات المختلفة داخله. فالقطاع الأكبر من الحزب هو الخارج من عباءة تجربة “نجم الدين أربكان” بأحزابه الإسلامية المختلفة، رفضا منه لطريقة إدارة الحزب، وسيطرة بعض القيادات التاريخية على القرار داخله، وعدم قدرة الحزب على التواؤم مع طبيعة النظام والدولة التركية. مثَّل ذلك التيار الطبعة الأكثر برجماتية وانفتاحا داخل الحركة الإسلامية التركية. يضم الحزب أيضا في ثناياه أعضاء ينتمون لبعض الحركات الإسلامية الموجودة في المجتمع التركي والتي لا تشارك في الحياة السياسية بشكل مباشر كحركة فتح الله كولن والنقشبندية وغيرها[xi]. أيضا مثل قطاعا لا يستهان به في الحزب من البيروقراطية التركية والتكنوقراط، والذين انضموا للحزب في السنوات الأخيرة نتيجة بقاء الحزب مدة طويلة في السلطة، وكان الهدف الأساسي لانضمامهم هو الحصول على بعض المصالح الشخصية، أو تعبير عن بعض المصالح الاقتصادية، أو الوصول لمراكز النفوذ في الدولة.

2. الطبيعة الشخصية لأردوغان: أحد أسباب الأزمة الرئيسية داخل الحزب هو الطبيعة الشخصية لرئيس الوزراء ثم رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان. فرغم محاولات الحزب عند نشأته تجنب أخطاء الأحزاب التركية السابقة عليه في ارتباطها بشخصية مؤسسه، إلا أنه ومع مرور الوقت وبسبب قوة شخصية أردوغان وسعيه للاستحواذ على السلطة داخل الحزب، ساعده في ذلك شعبيته الكبيرة، وقدرته على مخاطبة الشعب التركي في بسط نفوذه داخل الحزب وداخل الكتلة البرلمانية[xii]. تزايد الأمر تدريجيا في السنوات الأخيرة، أصبح الحزب مقترنا بشخصه مما أثار حفيظة الأجنحة الأخرى داخل الحزب ولكن مع العجز عن اتخاذ موقف حاسم.

3. تحديات داخلية وخارجية: يواجه الحزب في السنوات الأخيرة تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة أدت لحالة الخلخلة وضعف الثقة في السياسات المتبعة للحزب. داخليا تتصدر أزمة الحزب والحركة أولى هذه التحديات، ومدى قدرة الحزب القضاء على أعضاءها داخل الحزب ومؤسسات الدولة، وهو الحليف القديم الداعم له في مراحل سابقة. ثانيا: يعاني الاقتصاد التركي في الأعوام الأخيرة من انخفاض في معدل النمو، ومتوسط دخل الفرد. وكذا انخفاض العملة التركية أمام الدولار واليورو بشكل كبير[xiii]. فهو الحزب الذي يخرس معارضيه ويبني تجربة نجاحه في الأساس على نجاحه في الملف الاقتصادي. ثالثا: ظهرت في الإعلام في الفترة الأخيرة العديد من فضائح الفساد الضخمة متعلقة بقيادات في الحزب، على رأسهم أردوغان وأحد أبنائه. رابعا: يواجه الحزب هذا العام تحديا تجديدا في نخبته والقيادات التاريخية داخله، وذلك بعدم قدرتهم على الترشح للانتخابات البرلمانية الأخيرة وفقا لقانون الحزب الذي يضع حدا أقصى ثلاث مرات متتالية فقط للترشح على قوائم الحزب في الانتخابات البرلمانية. وتعد تلك الانتخابات هي الرابعة التي يخوضها الحزب، حيث غاب عنها 68 من قيادات الحزب ومؤسسيه، منهم نائب رئيس الوزراء الحالي، ورئيس البرلمان الحالي، وعدد من الوزراء والقيادات المهمة داخل الحزب[xiv]. أخيرا وهو تحدي خارجي تسببت فيه التغيرات الضخمة في التي حدثت وما زالت في الشرق الأوسط (وتحديدا في الملف السوري الضاغط على السياسة، والاقتصاد والمجتمع في تركيا[xv]) وفقدان تركيا لمعظم حلفائها ورهاناتها السياسية في المنطقة، وتراجع الدور التركي عما كان عليه في السابق، وبالتالي فشل سياسة “تصفير المشاكل” التي جاء بها الحزب للسلطة.

4. خلل في بنية النظام السياسي التركي: يعاني النظام السياسي التركي من خلل في بنيته، وتداخل في الأدوار بين مؤسسات الحكم المختلفة وتحديدا مؤسسة الرئاسة ومؤسسة رئاسة الوزراء، وعدم وجود خط واضح يفصل ما بين أدوار ومهام كلا المؤسستين. وبالأخص إذا كان كلاهما ينتمي لنفس الحزب (واقعيا). فسلطات رئيس الجمهورية مرنة وفضفاضة تعتمد في الأساس على شخصية رئيس الجمهورية ورغبته في لعب دور أكبر في السياسة الداخلية والخارجية[xvi]. تفاقمت مظاهر الأزمة الهيكلية وازدادت حدتها بعد أن أصبح رئيس الجمهورية منتخبا من الشعب مباشرة وليس من البرلمان كما كان من قبل، ووصول شخصية قوية ونشطة لسدة الرئاسة كأردوغان في أغسطس 2014 وشعوره بمزيد من القوة كأول رئيس جمهورية يأتي بالانتخاب المباشر من الشعب وممثلا له. في نفس الوقت يضطلع خليفته في الحزب أحمد داود أوغلو لرئاسة الوزراء، وهو القادم من خارج القيادات التقليدية للحزب، والراغب في تغيير صورة أنه التابع لأردوغان والمنفذ لإرادته، مع سعيه للسيطرة على التيارات المختلفة داخل الحزب، وفي نفس الوقت الحفاظ على علاقة طيبة مع مؤسسة الرئاسة وتجنب الصدام مع أردوغان تفاديا لتفاقم الأزمة. انعكس ذلك على الحزب الحاكم، وعمن يكون له الكلمة العليا في السياسة التركية وبالتالي داخل الحزب.

انعكاسات الانتخابات الأخيرة على الحزب:

يتكون البرلمان التركي من 550 عضوا موزعين على الدوائر المختلفة بناء على الكثافة السكانية لكل محافظة. تتنافس الأحزاب على هذا العدد من المقاعد وفقا لنظام القائمة النسبية، حيث يقدم كل حزب في كل محافظة قائمة بمرشحيه، ويتحدد عدد الفائزين من كل قائمة بناء على نسبة الأصوات التي تحصل عليها القائمة في تلك المحافظة. بالإضافة إلى حق المستقلين للترشح على أي من تلك المقاعد والمنافسة عليها. حيث تنافس في تلك الانتخابات 20 حزبا، بالإضافة إلى 165 مرشحا مستقلا على دوائر مختلفة[xvii]. أيضا يضع القانون التركي شرطا إضافيا على الأحزاب لدخول البرلمان، وهو الحصول على نسبة 10% على الأقل من الأصوات المشاركة في التصويت على مستوى تركيا[xviii]. وفي حال عدم اجتياز الحزب تلك العتبة الانتخابية، يتم توزيع عدد الأصوات الحاصل عليها على باقي الأحزاب في المحافظة بناء على النسبة الحاصل عليها كل حزب.

وقد مثلت الانتخابات البرلمانية الأخيرة لحزب العدالة والتنمية أهمية استثنائية عن الانتخابات السابقة التي خاضها الحزب[xix]. فبالإضافة إلى التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها وعلى رأسها فيما يخص الانتخابات، هو خوض الانتخابات في غياب لمعظم القيادات التاريخية. أيضا تأتي أهمية الانتخابات في رغبة الحزب تمرير دستور جديد للبلاد والتحول إلى النظام الرئاسي. وهو ما لا يستطيع تحقيقه الحزب إلا مع تجاوز عدد 330 مقعدا في البرلمان. بالإضافة إلى أن تلك الانتخابات تمثل تحديا لقدرة الحزب على التماسك والاستمرار في حالة ما إذا كان حقق نجاحا ملحوظا فيها.

سعى حزب العدالة والتنمية على استقطاب أصوات القسم المحافظ داخل الكتلة الكردية، وعلى الجانب الآخر سعى حزب “الشعوب الديمقراطي” على المشاركة في الانتخابات كممثل للأكراد ككل، بالتوازي مع تزايد الحس القومي داخل صفوف الأكراد بشكل عام في الفترة الأخيرة. أيضا رغم فقدان حزب العدالة والتنمية العديد من مؤيديه المعترضين على قضايا الفساد، وسلوك الحزب التسلطي في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى الكتلة المنتمية والمؤيدة لجماعة “فتح الله كولن”، إلا أن الحزب عوض ذلك الفاقد من خلال حالة الاستقطاب الإسلامي- العلماني الشديد الذي خلقه، وأن الانتخابات هي معركة وجود، وليست تنافسا انتخابيا، وأن جزءا كبيرا من اللعبة هي مؤامرة دولية على الإسلاميين “المعتدلين”، مستغلا في ذلك الأحداث في الشرق الأوسط. ظهر ذلك في خطابات الحزب، ودعايته الانتخابية بقوة. سعى أيضا الحزب من خلال الحرب التي يخوضها على الحركة في خلق خطاب المعركة، ووجوب التمترس وراء الدولة ووراء الحزب لإتمام ما بدأه.

لكن ورغم كل التحديات السابقة فقد ظلت أحزاب المعارضة التركية الكبرى تعاني هي الأخرى من مشاكل وتحديات، بالإضافة إلى عدم قدرتها على صياغة خطاب وبرنامج بديل للحزب الحاكم. وانحسر التنافس الأساسي فقط بين الحزب الحاكم وحزب “الشعوب الديمقراطي HDP” على الأصوات في المناطق الكردية، وتحديدا على الكتلة المحافظة فيها. وترجع أهمية ذلك الحزب الوليد في أن نظام “العتبة الانتخابية” لعب دورا إيجابيا لصالح حزب العدالة والتنمية منذ دخوله الحلبة السياسية، وأن نجاح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي كان له الأثر الأكبر بالسلب على حزب العدالة والتنمية.

تلك النتائج غير المتوقعة للانتخابات فرضت واقعا جديدا في الحياة السياسية التركية، وعلى سياسات ومشروعات حزب العدالة والتنمية. فبذلك انتهت آمال أردوغان في التحول إلى النظام الرئاسي وإقرار دستور جديد تحت رئاسته، عوضا عن عدم قدرة حزب العدالة والتنمية على تشكيل حكومة من لون واحد، والالتزام بالدخول في ائتلاف مع أحد الأحزاب الأخرى. وهو ما سينعكس على العديد من الملفات الداخلية للحزب. بالإضافة سينعكس ذلك الوضع بشكل كبير على دور تركيا في السياسة الخارجية، والذي ربما يشهد تراجعا، وانخفاضا لنبرة الحدة والعداء من جانب قادتها. وتفتح أيضا النتائج الخيارات والبدائل على مصراعيها.

سيناريوهات المستقبل:

يواجه الحزب العديد من السيناريوهات التي ربما نشهد بوادرها في الفترة القادمة، وتنقسم لقسمين رئيسيين: أولا: سيناريوهات الوضع السياسي لما بعد الانتخابات. ثانيا: سيناريوهات مستقبل الحزب.

أولا: سيناريوهات الوضع السياسي

السيناريو الأول، تحالف حزب الـ(AKP) مع حزب الـ(MHP): إن أكثر السيناريوهات منطقية هو التحالف مع حزب الـ(MHP). فخلال بعض الأزمات الحساسة التي واجهها حزب الـ(AKP)، ظهرت حالة من التناغم والتلاقي بين الحزبين. ومن أهم تلك الأزمات التي ظهر فيها دعم حزب الـ(MHP) لحزب الـ(AKP) هو أحداث “غيزي بارك” الشهيرة، ووقوفه ضدها. وبالتبعية سوف يؤدي هذا التحالف إلى تجميد عملية التسوية في الملف الكردي. وبالتوازي، الحديث عن التحول إلى النظام الرئاسي سيغيب عن النقاش السياسي لفترة. وسيزداد دور وتأثير الجناح القومي داخل حزب الـ(AKP) ليلعب دورا أكثر أهمية عن باقي مكونات الحزب. وفيما يتعلق بالحرب القائمة بين الحركة وحزب الـ(AKP) فإن الحزب لن يجد صعوبة في تلقي دعم من الـ(MHP)، وذلك لأن سلوك الحركة ضد “دولت باهتشلي” لم تكن إيجابية، وكان بينهما بعض السجالات.

ويتوقع عند تشكيل تلك الحكومة الائتلافية (والتي تمثل أكثر الحكومات الائتلافية انسجاما من ضمن البدائل الأخرى) أن تتبع سياسة خارجية أكثر هدوءا وبعدا عن الصدام. وربما تشهد العلاقة مع كل من سوريا ومصر وإسرائيل تهدئة، وشبه تطبيع مع تركيا في تلك الحالة. أيضا هذا التحالف لن يكون له أثرا سلبيا على الناخبين لكلا الحزبين في أي انتخابات قادمة، لعدم اتساع الفجوة بينهما.

السيناريو الثاني، التحالف بين الـ(AKP) والـ(CHP): على الرغم من الخلاف الشديد بين الحزبين، فإن الباب يظل مفتوحا لعقد مثل هذا التحالف. ولكن هذا التحالف غير قابل للاستمرار، ومعرض للانهيار في أي لحظة بسبب موقف حزب الـ(CHP) من الأحداث في مصر، وعلاقة الحزب بنظام الأسد في سوريا. في النهاية مثل هذا التحالف لا يتوقع له الاستمرار لمدة طويلة بأي حال من الأحوال.

السيناريو الثالث، التحالف بين الـ(AKP) والـ(HDP): على الرغم من إمكانية إنشاء مثل هذا التحالف سياسيا بين الحزبين، لكن بسبب بناء حزب الـ(HDP) استراتيجيته الانتخابية على جلب الأصوات المعادية لأردوغان من الأقاليم الغربية، والخوف من خسارتها، بالإضافة إلى خوف حزب الـ(AKP) من خسارة جزء من كتلته الانتخابية والتي تنظر بعين الريبة والعداء للـ(HDP). لذلك فإن مثل هذا التحالف احتماليته ضعيفة. ولكن هذا التحالف من جانب سينعكس إيجابيا على حزب الـ(HDP)، ليصبح حزبا ضمن الأحزاب التركية التقليدية، وليس فقط حزبا يمثل الكتلة الكردية. بالإضافة إلى انعكاس ذلك إيجابيا على مسار التسوية السلمية للملف الكردي. لذلك لا ينظر حزب الـ(AKP) لمثل هذا التحالف كأول ترجيح له لتكوين حكومة ائتلافية.

السيناريو الرابع، التحالف بين الـ(CHP) والـ(MHP) والـ(HDP): حسابيا (وفقا لعدد المقاعد) يمكن الدخول في مثل هذا التحالف، والتوحد على العداء لأردوغان وحزب الـ(AKP) وإقصاءهما من السلطة. ولكن عمليا من الصعب الدخول في مثل ذلك التحالف. وفي هذه الحالة سينعكس ذلك سلبيا على التسوية السلمية للمسألة الكردية، وعدم إمكانية الاستمرار فيها. لأن السبب الأساسي للأزمة الكردية هما حزبي الـ(CHP) والـ(MHP)، بسبب نظرتهم السلبية للمجتمع الكردي. حتى وفي حالة الدخول في هذا التحالف، أو تحالف الـ(CHP) مع الـ(MHP)، مع تلقي دعم الـ(HDP) من الخارج، فإنه لا يتوقع أن يستمر طويلا. حيث بعد فترة قصيرة من عدم الاستقرار سيلجأوا إلى انتخابات مبكرة، ما يفتح الباب إلى عودة حزب الـ(AKP) مرة أخرى بشكل أقوى مما كان. وهو ما تعلمه تلك الأحزاب جيدا. لذلك لا يفضل أي من تلك الأحزاب الثلاثة الدخول في مثل هذا التحالف. وعلى الرغم من ذلك فبسبب وجود تيار ضاغط في المجتمع، وعلى رأسهم حركة فتح الله كولن، ومجموعة “دوغان” الإعلامية، فيظل احتماليته واردة. وربما لن يجدوا في هذه الحالة أفضل من أكمل الدين إحسان أوغلو مرشحهم السابق للرئاسة، والعضو حاليا في البرلمان كاسم على رأس هذا التحالف ليكون رئيسا للوزراء. وفي هذه الحالة حزب الـ(AKP) سيتحول إلى تيار معارض قوي في الساحة السياسية.

السيناريو الخامس: عدم قدرة أي من الأحزاب بناء أي من التحالفات السابقة لمدة أقصاها 45 يوما. وهو ما يجبر الرئيس لإعلان انتخابات مبكرة. وما الانتخابات المبكرة إلا وسيلة لترحيل المشكلة وأمل كل حزب في الحصول على المزيد من الأصوات، التي ربما لن تشهد تغيرا كبيرا دون التغير في شروط المعادلة السياسية (كتخفيض العتبة الانتخابية إلى 5% بدلا من 10%) أو ارتكاب حماقات من قبل أحد الأحزاب يدفع كتلته التصويتية لتغيير وجهتها.

أما فيما يتعلق بحزب العدالة والتنمية، فإن الحزب يشهد انقساما داخليا حادا بين قادته التاريخيين، بالإضافة لحالة الازدواجية بين سيطرة أردوغان غير الرسمية، ورئاسة داوود أوغلو الرسمية للحزب. هذا الوضع لا يمكن أن ينتهي إلا بأحد السيناريوهات التالية:

أولا: قيام القيادة الرسمية للحزب على إنهاء حالة الانقسام والخروج من عباءة أردوغان، وتصفية بعض القيادات التاريخية، والتي كانت سببا في انخفاض أسهم الحزب في الانتخابات، بسبب خلافاتهم الداخلية. تلك الإجراءات إن لم تتم على يد داوود أوغلو الذي لا ينتظر منه القدرة على ذلك، فلربما تتم على يد قيادة جديدة للحزب ربما تبرز في الفترة القادمة. مع كف أردوغان عن التدخل في شئون الحزب ومهام رئاسة الوزراء في نفس الوقت.

ثانيا: هو أن يأخذ الحزب شكل حزب “الوطن الأم” والذي ظهر في الثمانينيات بزعامة “تورغوت أوزال”. فبعد نجاحه في انتخابات الرئاسة عمل على أن يخلفه في رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء شخص يستطيع التحكم به، ونقل النفوذ لمؤسسة الرئاسة مثل “مسعود يلماظ” وصارت الأمور على هذا الشكل إلى أن توفي “أوزال” وبدأت الانشقاقات داخل الحزب إلى أن انتهى دوره في الحياة السياسية. وهذا السيناريو لا يعني إلا انتهاء تجربة العدالة والتنمية، والبدء في مرحلة جديدة من الحياة السياسية التركية، وهنا وجود أردوغان وليس غيابه من المشهد هو ما سيعجل بذلك.

ثالثا: أن يشهد الحزب ارتفاع حدة الخلافات، وقيام عدد من القيادات التاريخية للحزب والذين فقدوا القدرة على الترشح في البرلمان، بالإضافة للرافضين لهيمنة أردوغان على مقدرات الحزب والحياة السياسية بشكل عام بالانشقاق عن الحزب وتشكيل حزب جديد يتبنى توجها ورؤية مختلفة.

رابعا: في حالة ظهور انشقاقات حادة تهدد بانهيار الحزب بشكل تام، وعدم القدرة على حسم الخلافات الداخلية، فلربما يستقيل أردوغان من الرئاسة، ويقوم بتأسيس حزب جديد ينتقل له أعضاء الحزب القديم تحت قيادته، ويعيد تماسكه مرة أخرى. وهو خيار ليس مستبعدا. حيث طُرح أيضا من قبل تورغوت أوزال قبل موته. ثم تواترت أنباء في الفترة الأخيرة لنفس السيناريو في حالة فشل كل الحلول السابقة.

خلاصة: شهدت تركيا خلال الثلاثة عشر عاما الماضية من حكم العدالة والتنمية العديد من النجاحات والإنجازات في ملفات عديدة. فبدون شك تركيا قبل حزب العدالة والتنمية ليس كتركيا الآن، رغم العديد من الإخفاقات في السنوات الأخيرة على أكثر من مستوى. أيضا ما ينبغي التوقف عنده كثيرا هو قدرة النظام السياسي التركي على دمج تيار متجذر في المجتمع له مريديه، ظل مستبعدا لسنوات عديدة، أثر وتأثر بالنظام السياسي. فكما أن الطبعة الأولى من التجربة “الأربكانية” تختلف بشكل كبير عن حزب العدالة والتنمية بصيغته الحالية، فإن النظام السياسي بمكوناته وقواعد اللعبة فيه أيضا اختلفت وتغيرت على يد الحزب. وهو إن دل فإنما يدل على مرونة النظام وحيويته. فرغم “خفوت” تجربة العدالة والتنمية، والمشاكل العديدة التي يواجهها الحزب داخليا وخارجيا، فإن انهيار الحزب واختفاءه من الحياة السياسية لا يعني انتهاء التجربة، وإنما دخولها في طور جديد. تلك الحيوية والمرونة هي في النهاية تصب في مصلحة المجتمع وتعكس حيويته، بل وقدرته على أن يفرز من يمثله في الحياة السياسية.


</

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [674.37 KB]

Start typing and press Enter to search