أزمة تنظيم المجال الديني في البلدان العربية

(اليمن، مصر، تونس.. نموذجا)

نوران سيد أحمد



Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [510.87 KB]

مثلت ثورات الربيع العربي في أحد جوانبها تمردا على نمط العلاقة السائد بين المجتمع والدولة والذي استقر وقتا طويلا، كانت الكفة فيه تميل لصالح الدولة، على نحو أفقد المجتمع الكثير من قدراته الذاتية على التنظيم والحركة، إلا أنها في جانب آخر دفعت هذه الفواعل الاجتماعية لمحاولة التنظيم والنفاذ للمجال العام للتعبير عن ذاتها، ومصالحها، وقيمها. بيد أن عملية تنظيم المجال الديني والرقابة عليه تتنازعها كثير من الرؤى والتيارات، سواء ما يرتبط بالعلاقة مع السلطة النظامية في إطار الدولة القومية الحديثة من جهة، أو من حيث العلاقة بين هذا القطاع من المجال العام وبقية القطاعات الأخرى والروابط الاجتماعية (التقليدي منها والحداثي)، وهنا تظهر اتجاهات ونماذج مختلفة بين رؤى حدية وشديدة الفصل بين المجال الديني وفاعليه من جهة، وبين بقية المكونات السياسية والقانونية بالأساس، وبين اتجاهات تبدي قدرا أكبر من التسامح مع المكون الديني وفاعليه، وهنا تتفاوت درجة هذا التسامح وحدود تدخل السلطة في تنظيم المجال الديني وحركة فاعليه وفقا لهذا التسامح، بين نماذج تكون أكثر انفتاحا لإعطاء امتيازات للفاعلين الدينيين واعترافا بمكانتهم، وبين نماذج تكون الامتيازات فيها قاصرة على التقدير المعنوي والرمزي، ووصولا لكون هؤلاء الفاعلين ومنتجهم الديني وخطابهم عاملا محددا في البنية القانونية والسياسية، بدرجات أيضا.

وتسعى هذه الورقة للتعرض لأبرز الإشكاليات المحتمل أن تعترض أي محاولات مستقبلية لتنظيم المجال الديني في الدول الثلاث (مصر، تونس، اليمن)، سواء ما يرتبط بها بالبنية الاجتماعية والسياسية لهذه الدول، وتحديات السياق الحالي في هذه البلاد، مع محاولة -قدر الإمكان- مراعاة التمايز بين تجارب الدول الثلاث، وكذلك أوجه الشبه والتقارب.

القيود الهيكلية لتنظيم المجال الديني:

  • التجربة التاريخية لتحديث السلطة والمجتمع في الدول الثلاث:

لا يمكن بأي حال من الأحوال التأصيل لعملية تنظيم المجال الديني وحركة فاعليه دون التطرق لمجموعة من الأسس الجوهرية في هذا الصدد، والتي ترسم الخطوط العريضة لعملية التنظيم، أولى هذه الأسس المرتبطة بالسياق، هي المتعلقة بسؤال العلاقة بين الدولة والدين كجزء من سؤال الهوية الأكبر في هذه الدول (identity Crisis)، وهنا تتفاوت مسارات ومستويات طرح هذه الأزمة أو هذا السؤال في الثلاث دول العربية، بداية من الحالة التونسية والتي تشهد قدرا كبيرا من الجدية والحدية في طرح مسألة الدين وعلاقته بالدولة والعمل السياسي، وحدود الحركة المجتمعية، وهو ما يمكن إرجاعه في جزء كبير منه لطبيعة التجربة التحديثية للدولة الوطنية في تونس والتي انطلقت في أعقاب الاستقلال بقيادة الحبيب بورقية، حيث أن هذه العملية كانت بالأساس عملية متلازمة مع العلمانية والتنوير، وتُصرح عن هذا التلازم بلا مواربة، وتظهره في ضوء مقابلة بين (التراث-الحداثة) (التقدم-التأخر)، والانطلاق من افتراض بأن تراجع دور الدين أو دور الفاعلين الدينيين في العمل العام (الممثل الأبرز حينها جامع الزيتونة، وجمعية الأوقاف) سيكون له بالغ الأثر في المضي قدما في عملية التقدم والإنجاز، وهي العملية التي تمكنت من خلق نوع من التقاليد والثقافة العلمانية المجتمعية الحقيقية في تونس -على الرغم من وجود آراء ترى أن بورقيبة لم يكن يطرح في تجربته، العلمانية في صورتها اللائكية، بل كان أقرب لتقديم طرح حداثي، يحاول أن يؤول التراث الديني ونصوصه وفقا لهذا التصور الحداثي، التنويري لبورقيبة- ومن ثم فإن سؤال علاقة الدين بالدولة تحمله تيارات لها مقاربات فكرية حدية واضحة، وعلى نحو أعمق اجتماعيا.[1]

وهو ما لا يتوافر في الحالة المصرية والتي لم ترتبط فيها تجربة التحديث في مرحلتيها البارزتين في عهدي محمد علي وجمال عبد الناصر بتقاليد علمانية واضحة وحدية على هذا النحو، بل الثابت أن الفاعلين الدينين (الأزهر الشريف وأوقافه) كما في وقت محمد علي كانوا متداخلين ومستوعبين -وإن كان بشكل قهري وقاصر- في الدولة والمشروع التحديثي والمؤسسات الحديثة التي بُنيت في تلك الفترة كما هو الحال في القضاء، مجالس الشورى والأعيان، المؤسسات الطبية، التشريع، ومن ثم لم يكن مطروحا بأية حال مقابلة (العلمانية والدينية) في تلك المرحلة، بقدر ما كان التركيز الأكبر على اعتبارات وظيفية بحتة متعلقة بإحكام عملية التنظيم والضبط الاجتماعيين على المجال الديني والقائمين عليه (الأزهر)، وهو ما استمر في مراحل تالية وصولا لعهد عبد الناصر، حيث أن مشروع دولة الاستقلال بدوره لم يطرح هذه المقابلة بأي حال من الأحوال، بل أنه كان أقرب لمحاولة تبني آراء أو توجهات توفيقية بين التراث والحداثة (الدين والتقدم)، والاستمرار في المنحى الوظيفي الذي لا يطرح سؤال الدين من منطلقات فكرية وفلسفية بقدر ما يطرحه في سياق وظيفي (توظيف الدين داخليا وخارجيا) ومدى إضراره بالسلطة أو نفعه لها، واتخاذ الخطوات والإجراءات اللازمة لذلك مثل تحجيم الأزهر واستقلاليته، كجزء من استراتيجية تأمم المجال العام كله، وليس مقصود بها على وجه التحديد الدين كمحل للعداء (علاقة الدين بالدولة)،[2] ومن ثم كانت السلطة صاحبة يد عليا في تشكيل الخطاب الديني الرئيسي حينها، وعليه فهي حالة تغيب عنها ما يمكن تسميته بالتقاليد والثقافة التنويرية العلمانية كما في الحالة التونسية. ومن ثم لا يوجد تيار علماني حقيقي وقوي يطرح مثل هذا الطرح الحدي في مقابل تيارات أخرى لديها تصورات محافظة وتقليدية عن العلاقة بين الدين والدولة في الحالة المصرية، وإنما الوضع أقرب لتوليفات ومساحات مختلفة فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة.

الحالة اليمنية ربما تكون أكثر تعقيدا، حيث أنها تتفرد عن الحالتين المصرية والتونسية في أن تجربة اليمن كانت غير متوازنة لحد كبير فيما يتعلق بالدين وعلاقة السلطة أو الدولة معه، فاليمن الحالي هو نتاج وحدة شطريه الجنوب والشمال، وكلا الشطرين شهد تجربة تاريخية متفاوتة، حيث أن الشطر الجنوبي كان أكثر تحديثا وتقدمية في طرحه الفكري والسياسي المسيطر (ماركسي بالأساس) ويحمل تصورا واضحا وقائما على الفصل والحدية بين الدولة والدين، في مقابل الشمال اليمني الذي غلب عليه سيطرة تصورات تقليدية عن علاقة الدين بالدولة، ممثلة في وجود نموذج الإمامة الحاكم، ووجود كثير من المراكز العلمية الدينية به، ومن ثم سيكون طرح سؤال علاقة الدين بالدولة صعب عند الإنفاذ ووحدة الطرح الإجرائي والسياسي فيما يتعلق بهذه العلاقة في الشطرين، إلى جانب أن نشأة الجمهورية في اليمن لم تأت بأي حال منفصلة عن الدين، بل أن محاولات تغيير النظام السياسي حينها والتي أنتجت الجمهورية اليمينية في تلك الفترة ما كانت إلا في إطار محاولات لتبني تفسيرات دينية أكثر إصلاحية، وبالتالي الدين كان متلازما لنشأة الكيان الجمهوري الجديد.

  • الطبيعة الاجتماعية والمؤسسية في الدول الثلاث:

ويُضاف إلي صعوبة وتعقيد الوضع في اليمن مقارنة بالحالتين المصرية والتونسية -التي تُعد البنية الاجتماعية فيها أكثر تحديثا وتشهد انتشار للروابط الحداثية فيها أكثر من نظيرتها اليمنية- طبيعة التركيبة الاجتماعية المعقدة في اليمن، والتي تشهد تداخل كبير بين المكون الديني، والمكون القبلي، والمكون الجهوي/ المناطقي، وحتى المكون المذهبي، بين قبائل تنتمي للمذهب الشافعي (سنة)، وقبائل تنتمي للمذهب الزيدي (شيعة) بالأساس، وهي مجموعات ذات وزن اجتماعي معتبر في الدولة، وهو التواجد القبلي الممتزج بالمذهب والذي تتفاوت درجته وتأثيره بين الشمال والجنوب من جهة، ومن جهة أخرى تختلف هذه المجموعات المذهبية في الطريقة التنظيمية لعلاقتها مع المؤسسة الدينية أو المراكز العلمية التي تنتمي لها، فالشوافع ربما يكون أقرب لتتبع مراكز علمية بعينها، والزيديين أو الشيعة أقرب لنمط العلاقة التبعية للمراجع الدينية (أشخاص) وهو نمط مختلف سيؤثر على نمط التنظيم النظامي للعلاقة بين الطرفين، وهو من جهة يُصعب تنظيم المجال الديني، في إطار قواعد متساوية وواحدة للجميع.

  • ميراث تنظيم المجال الديني السلطوي:

اتصالا بطبيعة التجارب التاريخية التي مرت بها الدول الثلاث تجدر الإشارة إلى أن محاولات التنظيم والضبط للمجال الديني من جانب الدولة أو السلطة الحديثة في هذه الدول عادة ما غلب عليها طابع السلطوية والأحادية في تنظيمه من جانبها، دون أية تفاهمات بينها وبين والفاعلين الدينين، وهو ما يمكن إرجاعه في جانب كبير منه لغياب عقد اجتماعي قوي وعميق وتوافقي بين الدولة والمجتمع ككل، ويستحق وصفه بأنه محاولات سيطرة سلطوية أكثر منها محاولات تنظيم، وفاعلي المجال الديني جزءا منه، وهي بدورها عوامل إلى جانب أنها أتت على استقلالية المؤسسات الدينية في هذه البلاد، فقد أنتجت حالة من عدم الاستقرار للقطاع الديني في هذه الدول، وتجدر الإشارة إلى أن تجربة التنظيم والضبط السلطوي من جانب الدولة للمجال الديني في الحالتين التونسية والمصرية خاصة في مراحلها المبكرة عادة ما كانت أيسر نسبيا، لاعتبارين أساسيين: أولهما أن الحالتين المصرية والتونسية تشهدان وجود مؤسسة دينية مركزية واحدة وتاريخية (الأزهر في مصر، الزيتونة في تونس)، ومن ثم سهولة الضبط والتنظيم، في حين أن الحالة اليمنية لا تعرف وجود مؤسسة مركزية بهذا الشكل، وإنما مجموعة من المراكز العملية المنتشرة في الأقاليم والبلاد، ومن ثم غياب عامل التركز فيها، الأمر الآخر الذي يسر من هذه العملية في المحيطين المصري والتونسي هو حقيقة أن الدولة في التجربتين أقوى إذا ما قورنت بمثيلتيها اليمنية، والتي تواجه أزمة حقيقة فيما يتعلق ببناء الدولة من الأساس ككيان مستقل، ويسمو على الاعتبارات والمكونات الاجتماعية الأدنى، إلى جانب الجمهورية الموحدة في اليمن منذ إعلانها وهي تواجه سؤالا يمثل تحديا كبيرا في تأسيس دولة قوية وطنية، ربما كانت هناك محاولات لتنظيم المجال الديني من خلال وزارة الأوقاف لكن بقت يدها في جزء كبير مغلولة وغير قادرة على النفاذ لكل المناطق.

  • مسار التنظيم المتوقع في ضوء هذه المتغيرات السابقة:

اختلاف التجربة على النحو السابق، يجعل الإشكالية فيما يتعلق بالمسار الذي تنتهجه عملية التنظيم للمجال الديني، ففي الحالة التونسية الوضع فيها أقرب لوجود مجموعة من التقاليد التاريخية والمؤسسية العلمانية التنويرية والتي استقرت لوقت في المجتمع والدولة، والتي تواجه معضلة أساسية ممثلة في ظهور فاعلين مجتمعين جدد لهم طبيعة دينية، أو يحملوا رؤية أكثر تصالحا، ومطالبة بدور وهامش أكبر لهم كمتدينين، وربما للدين كمكون في الحياة الاجتماعية والعامة، ومن ثم فإن محاولات التنظيم المتوقعة يفترض أن يكون أحد جوانبها هي التفكير في كيفية استيعاب هذا المتغير وهؤلاء الفاعلين الجدد، وكيفية إيجاد صيغة قد تكون أكثر تسامحا معهم ومع المكون الديني في المجال العام.

أما في الحالة المصرية فمحاولة التنظيم فيها قد تكون أكثر في اتجاه إيجاد الخطوط الفاصلة بين المجال الديني والخطاب الديني وبقية المكونات السياسية والاجتماعية، وهي الحدود الفاصلة التي تتزايد الحاجة لها، وربما الصعوبة في عملية تنظيمها في ضوء أن الدولة تستخدم خطاب مزدوج في هذا الإطار فهي تارة تخلط الخطاب الديني وتستغله كأداة في يدها، وفي الوقت ذاته تندد بأي محاولات على نفس النمط من جانب فاعلين آخرين.

والوضعية اليمنية يفترض أن عملية التنظيم فيها للمجال والخطاب الديني تأتي في إطار انتزاع هذا المجال وتحييده من المكونات الأخرى الاجتماعية والقبلية، وفي إطار أعم مرتبطة باستراتيجية بناء الدولة، وبروزها ككيان فوق كل الكيانات الأخرى (القبلي والديني منها)، وفي لب هذه العملية كيفي كفالة المساواة في هذه العملية التنظيمية لكل الفاعلين في ضوء التعدد المذهبي.

 

 

  • إدارة التنوع في المجال الديني:

وارتباطا بالنقطة السابقة في إطار ما يمكن تسميته مستجدات السياق العام والاجتماعي في هذه الدول، والتي من المتوقع أن تعيق ضبط المجال الديني، هي حقيقة أن المجال الديني يشهد حالة من التعددية غير المسبوقة إذا ما قورن بما كان الحال عليه في بدايات عملية التنظيم لهذا المجال في إطار الدولة الوطنية، دون أن يعني هذا أن الدولة بالضرورة قد تراجعت عن خطابها وافتراضاتها السلطوية والشمولية عن تنظيم المجال الديني وأحادية الفاعلين فيه، ومحاولة حصرهم في كيان واحد يتم التعامل معه من جانب الدولة أو السلطة، وهو ما تشهده الحالة المصرية بامتياز في ضوء وجود كثير من الفاعلين الدينين (الإخوان، السلفيين، الصوفيين، الدعوة والتبليغ،….إلخ)، وهو ما يُصعب على الدولة مهمة ضبط المجال الديني، في ضوء حقيقة تراجع قدرة الدولة على ضبط المجال العام بنفس القدر سابقا، وكذلك بما يطرحه هؤلاء الفاعلين من خطاب ديني أكثر تشددا ومحافظة ومختلف عن الخطاب الوظيفي والتوفيقي الذي تتبناه الدولة في مصر، فيما يتعلق بتصورات العلاقة بين الدولة والدين، وكذلك فيما يتعلق بقنوات اتصال هؤلاء الفاعلين ودوائر تأثيرهم وحركتهم والتي تتبارى مع الدولة، ولها جمهورها أيضا، وهو ما يقترب من الحالة في تونس والتي بدورها تشهد أيضا تعددا في الفاعلين العاملين في المجال الديني، وإن كانوا بحكم التجربة التونسية وتقاليد الدولة العلمانية فيها أكثر انفتاحا في خطابهم وتصوراتهم عن العلاقة بين الدولة والدين.

  • هل تستطيع المؤسسات الدينية التاريخية أن تُشكل الظهير الفكري لعملية التنظيم للمجال الديني؟

أحد الإشكاليات المرتبطة بتنظيم المجال الديني هي تنامي الحالة الإسلامية الراديكالية، أو المتطرفة في جانب آخر، وهنا يظهر تحدي رئيسي أمام هذه التجارب في إطار محاولات تنظيم المجال العام على نحو استيعابي وديمقراطي، وتوافقي لحد كبير، وفي الوقت ذاته مكافحة الأفكار المتطرفة، وهنا تتبدي إشكالية أخرى وهي محدودية الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية التقليدية التاريخية مثل الأزهر، والزيتونة كظهير فكري أساسي لهذه المحاولات -لا يعني ذلك انتفاء الفاعلين المنتمين لمدارس فقهية وفكرية أخرى- حيث تسود نظرة وقناعة كبيرة لدي المواطنين والمؤمنين بغياب استقلالية هذه المؤسسات عن السلطة والنظام السياسي، ومن جهة أخرى بسبب طبيعة الظرف واللحظة التاريخية (الثورات/ الحراك السياسي والاجتماعي) والتي بدورها تعكس تمرد قطاع من المواطنين على المنظومة القيمية القديمة وفي مقدمتها المؤسسات الدينية، على النحو الذي يتطلب وجود بديل قادر على أن يطرح أساس فكري مقنع للمواطنين وفي الوقت ذاته وجود تنظيم إداري قادر على الحفاظ على تنوع الفاعلين في المجال الديني ومدارسهم في ضوء قواعد لا تسمح بوجود تطرف ديني وفكري، وهي مهمة جد صعبة، وهنا تتقاطع الأبعاد المحلية مع الأبعاد الإقليمية فيما يتعلق بتنظيم المجال الديني، حيث أن المجال الديني في دولتين على الأقل من الدول الثلاث (مصر، اليمن) بهما قدر من التنوع المذهبي من حيث وجود سنة وشيعة، وهي عملية مرتبطة بكيفية إدماج هذه المجموعة في المجال الديني (خاصة الحالة المصرية)، حيث تتواجد حالة من الإنكار لوجودهم في السياق المصري على المستوى الرسمي، والشعبي، والديني ممثلا في اعتراض عدد من الفاعلين الدينين على وجودهم وظهورهم في المجال العام والديني، أو ممارستهم لشعائرهم، وهو أمر يتعقد في ضوء تحالفات النظام المصري مع قوى إقليمية مثل السعودية والتي لن تبدي تسامحا فيما يتعلق بهذا الصدد، والتي هي أحد أقطاب التنافس المذهبي في المنطقة مع إيران، كذلك الحال في الحالة اليمنية والتي تشهد وضيعة أكثر تعقيدا في ضوء الانتماء المذهبي لجزء كبير من السكان للمذهب الشيعي، ووجود حالة من الاقتتال الداخلي تترافق مع وجود اتهامات إقليمية لإيران للضلوع خلفها (الحوثيين)، وهي كلها تخصم من ديمقراطية هذا القطاع الديني، وترسخ قيم المواطنة فيه.

  • المساواة والشمولية في تنظيم المجال الديني:

ارتباطا بالنظر للمجال الديني كأحد المجالات التي يمكن أن تسهم في ترسيخ قيم المواطنة، إشكالية الانفصال في تنظيم المجال الديني في مصر بين المسلمين والمسيحيين، من حيث عدم وحدة الجهة الإدارية المنظمة وكذلك القواعد المنظمة له، وهو أمر مصحوب بقدر كبير من عدم المساواة والتمييز فيما يتعلق بالمعاملة بين الطرفين (خاصة في النواحي المرتبطة ببناء دور العبادة والمؤسسات التابعة لهذه المؤسسات، وكذلك فيما يتعلق بمضمون الخطاب الديني الذي تقدمه هذه المؤسسات والتابعين لها، وهي تعكس انفصال في الخطوط التنظيمية العريضة المقرة من جانب الدولة بين الطرفين، كما هو الحال في شروط العزبي باشا، وما لحقها،[3] وهنا يظهر تحدي وجود قواعد تنظيمية في المجال الديني أكثر مساواة وتخاطب المجموعتين بنفس القدر والشروط. وهكذا تبدو إشكالية أخرى، وهي المرتبطة بعملية التنظيم للمجال الديني في بعض جوانبه والتي تخضع للإرادة الأمنية، على الجانبين (المسلم والمسيحي) خاصة فيما يتعلق ببناء دور عبادة للأخير، والتدخل باختيار القائمين على الخطاب الديني خاصة في الجانب المسلم (الحالة السلفية مثالا)، وهو تحدي استعادة مدنية المجال الديني في هذا السياق، والذي كان يخضع لحالة من التفاهمات والمساومات مع النظام الأمني في الفترة السابقة، وهنا يظهر أحد أوجه الاختلاف بين السياقات الثلاثة بين تجربة مثل الحالة المصرية التي كانت تشهد حالة من المساومات مع الأمن، في حين أن الحالة التونسية كانت القبضة الأمنية فيها أكثر تشددا، وأقل قابلية للتفاهمات مع الفاعلين الجدد الصاعدين في المجال الديني. أما اليمن فالمشكلة الأكبر فيها هي المواجهات بين الدولة والمجموعات المتشددة والمتطرفة، وبالتالي قدر المساومات مع الأمن ليس بهذا الوضوح في ضوء أزمة الدولة والأجهزة الأمنية بها، والتي تعاني من انقسام حقيقي في الدولة والمجتمع، لاعتبارات القبلية والتي بدورها تتداخل مع المكون الديني، وكذلك وجود حالة من الصراع السياسي في اليمن غير مسبوق، ومن ثم ليست الإشكالية الرئيسية في وجود قبضة أمنية كما هو حال مصر وتونس تتدخل في إدارة المجال العام بكل قطاعاته، حيث أن السيادة ليست لليد الأمنية، ولكن لمكونات أخرى تدير النظام الاجتماعي في هذه الدولة كالقبلية، مع التأكيد على إشكالية وحدوية ومساواة القواعد المطبقة على هؤلاء المجموعات الدينية المذهبية المختلفة في الحالة اليمنية (الشيعة، السنة).

  • النظام السياسي والخطاب الديني:

الإشكالية الأخرى المرتبطة بتنظيم المجال الديني هي قضية حيادية المجال والخطاب الدينيين، حيث أن المجال الديني في أحد الرؤى ليس مجالا دولتيا وليس مجالا مدنيا، وهو تحدي أساسي في ضوء طبيعة النظام السياسي في التجارب الثلاث المنظورة، حيث أن المتعارف عليه أن مصر واليمن تعاني من إشكالية أن الخطاب الديني أحد أدوات شرعية السلطة في هذه الدول، فنجد أنه على سبيل المثال في الحالة اليمينية تنعدم هذه المسافة، حيث أن الدولة من السبعينيات وهي تمضي قدما في جمع الزكاة من المواطنين، وبالنظر لمهام وزارة الأوقاف فيها (الممثل عن الدولة لإدارة الأوقاف والمجال الديني) نجد أن لها وظيفة دينية، كما في البنود التي تقول بـ”مسئولية الوزارة عن توعية المرأة توعية إسلامية لقيام بدورها الأسري والمجتمعي، وتوعية الشعب بمبادئ الدين الإسلامي”،[4] وهي وضعية شبيهة بعض الشيء بالحالة المصرية، أي أن المعركة في تونس بالأساس لمنع مثل هذه المقاربة من التواجد في المجال العام والدستوري، والتشريعي كذلك، إلا أن الحالة المصرية والتونسية تشهد محاولات لفك الاشتباك بين الديني والسياسي، وتنظيم العلاقة بينهما، مع التأكيد على اختلاف الدرجة في هذا الاشتباك بين التجربتين. ربما الوضع أكثر اختلافا في السياق التونسي لاعتبار التقاليد العلمانية القوية في الدولة والمجتمع، وإن كانت الإشكالية هي في وجود متغير اجتماعي جديد (القوى الدينية والسياسية الجديدة)  يمزج في خطابه بين السياسي والديني، ووجود مخاوف من الانقضاض على التراث التنويري والعلماني للدولة والمجتمع، وتداخل الدين مع المؤسسات في الدولة والمجتمع -إلا أن هذا الجدل أو التخوف يقلل منه بوادر حسن النية من جميع الأطراف على النحو الذي تبدى في عدم محاولة تمرير مواد في الدستور التونسي تكتسي صبغة دينية سواء فيما يخص المؤسسة الدينية، أو الأوقاف، أو استخدام دور العبادة لأغراض سياسية- [5]ومن ثم النظام السياسي هناك لا يملك مثل هذه التوليفة الموجودة في الحالتين المصرية واليمنية.

تحديات تنظيم المجال الديني بعد الثورات:

  • الإسلام السياسي والمجال الديني:

أحد العوامل التي يجب الالتفات هي طبيعة الفاعلين في المجال الديني، وهي بدورها عاملا يزيد المشهد تعقيدا، حيث أن كثير من الفاعلين الناشطين في القطاعات الدينية لهذه الدول يحملون أجندة سياسية، يختلط فيها الديني بالسياسي على نحو كبير إذا ما قورن بالتوليفة التي تتبناها الدولة مثلا في الحالة المصرية، وهم فاعلي الإسلام السياسي، وتختلف لحد كبير مع تقاليد الدولة التونسية العلمانية والتي يعكس دستورها لعام 1959 ذلك من خلال التعامل مع الدين باعتباره جزءا من الثقافة والتقاليد (Tradition)، ومن ثم ظهور فاعلين لاحقا يوظفون الدين في العمل السياسي والعام على نحو متعارض مع هذه التقاليد، وهو وضع لا يختلف عن الحالة اليمنية والتي تشهد وجود فاعلين يحملون في خطابهم وتوجهاتهم الفكرية هذه التوليفة السياسية الدينية -لاعتبارات التداخل بين المكون القبلي والديني على النحو السالف الإشارة له وخاصة في الشطر الشمالي (نظام الإمامة)- وليس قصرا فقط على فاعلي الإسلام السياسي، وهو متغير بحاجة في جانب كبير منه لوضع هؤلاء الفاعلين في الحسبان فيما يتعلق بكيفية ضبط تواجدهم في المجال الديني على نحو لا يتعارض مع الديمقراطية، لكن في الوقت ذاته لا يضر بالسلم والأمن المجتمعي، خاصة أن وجود هذه الكيانات مستقر في سياق التجارب الثلاث، وهو ما يعني أن المسئولية لا تقع على عاتق الدولة وحدها في هذا الصدد، وإنما على هذه التيارات بالمثل لضبط خطابها.

  • السيولة الاجتماعية ما بعد الثورات:

جزء من إشكالية تنظيم المجال الديني في البلدان الثلاث هي حالة السيولة العالية الاجتماعية، والتي تجد ترجمة لها في أن المجال الديني كغيره من قطاعات المجال العام بعد موجات الحراك التي شهدتها هذه الدول، لم يقتصر انفتاحه على الفاعلين الجدد -النظاميين- وإنما امتد انفتاحه كذلك للمواطنين العاديين والجماهير ودخولهم على خط الأحداث، حيث أنه في الحالة المصرية على سبيل المثال أضحي المواطنون يقومون بشكل طوعي وفردي بنوع من عملية الفلترة للمجال الديني بنفسهم، كأن يقصوا بعض العناصر المنتمية للإخوان أو القوى الفاعلة في المجال الديني في صراعها مع الدولة من قنوات الاتصال التقليدية كالمساجد،[6] وهو ما يصاحبه ترحيب أو على الأقل غض طرف من جانب الدولة، وخطورة مثل هذه الممارسات فيما تحمله على المدى البعيد من خضوع الدولة للمواءمات مرة أخرى في تنظيم هذا المجال وإخضاعه للرقابة والتنظيم، وربما للحسابات الشخصية وهما مصدر الخطورة على المدى الطويل، وكذلك الخصم من جانب الدولة، وهي مجهودات في النهاية تتنافي مع التنظيم النظامي لهذا المجال، وهي محاولات جد بدائية.

وتبقي عملية تنظيم المجال الديني، رهينة تفاعلات السياق السياسي الكلي، ورهينة التفاعلات المجتمعية التي تموج بها الدول الثلاث، نحو تخليق صيغ أفضل من التنظيم للمجال الديني، والعلاقة بين الدولة والمكونات الدينية، يُرجى أن تكون على نحو أكثر توافقية وسلمية بين الفاعلين المعنيين بالمجال والشأن الدينين، كجزء من عملية اجتماعية أكبر يغلب عليها التوافق، الدمقرطة، والمسئولية المتبادلة حول حدود الحركة والتنظيم للمجال الديني بين السلطة والفاعلين المعنيين.

[1] احميده النفير، “التجربة العلمانية وعلاقة الدين بالدولة في تونس”، مؤمنون بلا حدود، فبراير 2013، http://is.gd/kBeBUx

[2] سكوت هيبارد، ترجمة: الأمير سامح كريم، “السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية”، عالم المعرفة، يونيه 2014، ص 93-97.

[3] سمير مرقس، “القوانين المتعلقة بحرية العبادة: بناء الكنائس نموذجا”، منتدى البدائل العربي للدراسات، 2012، ص-ص 14-23.

[4] محمد سيف حيدر، “إصلاح المؤسسات الدينية في اليمن: البحث النظري”، ورقة مقدمة لمشروع إصلاح المؤسسات في المنطقة العربية، أغسطس 2014، تونس.

[5] محمود بيومي، محمد العجاتي، “المؤسسات الدينية في الوثائق الدستورية لدول الربيع العربي (مصر، تونس، المغرب، اليمن)”، منتدى البدائل العربي للدراسات، أبريل 2014، ص 4-5

[6]لمن المنابر اليوم: تحليل سياسة الدولة في إدارة المساجد”، http://is.gd/mCMc0x

Start typing and press Enter to search