محمود بيومي
المغرب ,اليمن ,تونس ,مصر
أثار صعود الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي تساؤلات متعددة ومتضاربة أحياناً حول التغييرات المتوقعة في الحقل الديني. وتزامن هذا مع استقطاب علماني-إسلامي حاد في بعض دول الربيع، وبخاصة مصر وتونس وإلى حدما المغرب واليمن، واتهامات بمحاولة السيطرة على المؤسسات الدينية لتعزيز شرعية تيار الإسلام السياسي. ومن هنا تأتي أهمية دراسة وفهم قضية المؤسسات الدينية في دول الربيع العربي لفهم أفضل لطبيعة الخلاف الإسلامي-العلماني من جهة، ولفهم الوضعية الدستورية والقانونية لهذه المؤسسات، والوصول لاستنتاجات دقيقة حولها بعيداً عن الاتهامات المتبادلة لأفرقاء الصراع السياسي الحاد.
وفيما يلي أهم النقاط التي يمكن استقراءها من قراءة الوثائق الدستورية للدول الأربعة:
أولاً: المؤسسة الدينية الرسمية: خلت دستور تونس من النص بشكل صريح على أي مؤسسات دينية أو طريقة تشكيلها، أو ما يخصها، باستثناء الفصل (78) من الدستور التونسي والتي تنص على حق رئيس الدولة في تعيين مفتي الديار التونسية وإعفاءه بأوامر رئاسية. أما الدستور المصري (مادة 7) فقد تناول مؤسسة الأزهر بشكل منفصل، ونص على أنها هيئة علمية مستقلة، وهي المرجع الأساسي في ما يخص الدين الإسلامي. ويلاحظ في هذا الإطار أن الدستور المصري قد نص على مهام محددة للأزهر، وهي [مسئولية الدعوة – نشر علوم الدين واللغة العربية- عدم الاقتصار على البعد المحلي، وجعل مهمة الأزهر مهمة عالمية]. ويشي هذا بطبيعة الأزهر ومكانته في مصر، وهو الأمر الذي تجمع عليه القوى السياسية المصرية رغم تناحرها المحتدم. كما يبدو هذا نتيجة طبيعية للأوضاع في البلاد الثلاثة. ففي تونس تعرض جامع الزيتونة للتضييق والحصار طوال حكمي بورقيبة وبن علي بسبب التوجهات العلمانية للنظام، لا تتمتع اليمن بمؤسسة دينية كبيرة ومهمة، سبب الانقسام الديني بين السنة الشافعيين والشيعة العلويين، بالإضافة لطبيعة المذهب الزيدي الذي لا يتميز بتعدد الاتجاهات والمراجع، وتراث الدولة الاشتراكية في جنوب اليمن. وهو الأمر المختلف كثيراً في مصر، حيث تمتع الأزهر بمكانة محورية تقليدية، في كافة النظم سواء في عهد الملكية أو في عهد ثورة يوليو 1952، وحتى ثورة 25 يناير. ويبدو هذا واضحاً في المادة (7) من الدستور التي تنص على التزام الدولة بتوفير الاعتمادات المالية للأزهر، وعلى استقلال شيخ الأزهر، وعدم قابليته للعزل، وعلى انتخابه من قبل هيئة كبار علماء الأزهر، وهو الأمر المختلف عن تونس مثلاً، التي يعين ويعفي فيها الرئيس المفتي بأمر رئاسي. لكن الدستور التونسي (الفصل 6) احتوى على نص مختلف وهو أن الدولة “راعية للدين، كافلة لحرية الضمير والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية”، وهو نص جديد، ولكن قصد منه التأكيد على عدم التكفير والتخوين بعد عمليات الاغتيال ضد سياسيين معارضين، وأيضاً لإرضاء التيار الإسلامي، حيث لم يتم النص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع كما طالبت الإسلاميون التونسيون وبعض أجنحة حزب النهضة. أما الدستور المغربي فهو المتفرد بين الدساتير العربية بوظيفة الملك فيه، والذي يعد (الفصل 41) هو “أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية”. ونص الدستور أيضاً على رئاسة الملك للمجلس الأعلى الذي له حق حصري في إصدار الفتاوي، على ان يحدد القانون كيفية تشكيله وعمله واختصاصاته. وهذه الخصوصية المغربية الفريدة تنبع من التلازم الكبير بين الشرعيتين الدستورية والدينية في المغرب، وموقع المؤسسة الملكية فيها. فماتزال المغرب وحدها في العالم العربي الدولة التي يحمل فيها رأس الدولة لقباً دينيا “أمير المؤمنين- باستثناء السعودية التي يحمل ملكها لقب “خادم الحرمين الشريفين- وبالتالي شرعية الملك ليست فقط دستورية/قانونية بل نابعة من كونه أميراً للمؤمنين ومكلفاً بحماية الدين. ومن هنا التداخل الكبير بين الملك والمجلس الأعلى -المؤسسة الدينية الرسمية المشابهة لدار الإفتاء في الدول الأخرى- حيث يعد الملك هنا رأس مؤسسة الفتوى الرسمية -رغم انه ليس رجل دين- والتي تضم وزير الأوقاف والشئون الإسلامية وعدد كبير من علماء الدين. وفي الحالة اليمنية، فإن الدستور اليمني لم يتناول أي مادة خاصة بالمؤسسات الدينية الرسمية، لكن وثيقة الحوار الوطني تناولتها بشكل أكثر تفصيلاً. حيث نصت في (ص165،166) على إنشاء دار إفتاء مستقلة تختص بقضايا الإفتاء، والاجابة على ما يعرض عليها من مسائل دينية، وتطوير الفتوى، وتدعيم وحدة الصف بين المسلمين. كما نصت الوثيقة على أن تتشكل الدار من علماء جميع المذاهب -مراعاة للتعددية المذهبية في اليمن- مع تمثيل ملائم للمرأة. وانشأت الوثيقة مجمع للبحوث الإسلامية تتبع دار الإفتاء لتحقيق أهداف دار الإفتاء.
ثانياً: الزكاة: انفرد الدستور اليمني (مادة 21) بالتأكيد على دور الدولة في تحصيل الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية. وهو الأمر غير الموجود في الدول الثلاث الأخرى. وجاءت وثيقة الحوار الوطني لتؤكد على دور الدولة في تحصيل الزكاة (ص164-165)، والتي نصت على إنشاء هيئة مستقلة للزكاة، يكون من اهدافها تحصيل الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية بما يساهم في تحقيق التنمية الشاملة. وتضمنت الوثيقة ضرورة تحقيق الاتساق بين القانون والأحكام الشرعية للزكاة، وعدم خلط المال العام بأموال الزكاة، بالإضافة لتكوين مجلس إدارة لهيئة الزكاة من متخصصين في الإدارة والاقتصاد وممثلين عن القطاع الخاص.
ثالثاً: الأوقاف: وبينما خلا الدستوران التونسي والمغربي من أي مادة يخص الأوقاف، نص الدستور المصري التزام الدولة بتشجيع نظام الوقف في كافة المجالات (العلمية، الثقافية، الصحية، الاجتماعية) –وليس الدينية فقط التي لم يتم ذكرها صراحة في الدستور-، وضمان استقلاله. ويمكن ملاحظة أمرين في المادة (90) من الدستور المصري الخاصة بالأوقاف، أولهما أن الدستور ترك شروط تنظيم الوقف للقانون دون تحديد أو تفصيل. وثانيهما أن الدستور أطلق على الأوقاف لفظ “الوقف الخيري”، بما يعنيه من عدم اقتصاره على الأغراض الدينية فقط. أما في حالة تونس فيمكن إرجاع عدم ذكر الدستور لأي شيء يتعلق بالأوقاف للخلافات العميقة والاستقطاب الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس حول هذا الأمر، والمخاوف من “أسلمة الدولة”،[1] وطبيعة العملية التوافقية التي أنتجت الدستور والتي أدت لتحييد النقاط الخلافية بين الطرفين. أما الدستور اليمني فقد نص (مادة 22) على حرمة الأوقاف وضرورة تطويرها لخدمة “مقاصدها الشرعية”، أي للأغراض الدينية والشرعية بالأساس -على عكس الدستور المصري. وأكدت وثيقة الحوار الوطني على دور الأوقاف (ص163، 164)، حيث نصت على إنشاء هيئة مستقلة للأوقاف من المتخصصين في الإدارة والاقتصاد والمحاسبة والقانون والقطاع الخاص، تتولى الحفاظ على الوقف في اليمن، وصرفه بمصارفه الشرعية، وبما يساهم في تحقيق التنمية. كما يكون من مهامها بناء المساجد وإعمارها والانفاق على العاملين فيها.
رابعاً: دور العبادة: انفرد الدستور التونسي (الفصل 6) بالنص على ضمان الدولة لحياد المساجد ودور العبادة بعيداً عن الخلافات السياسية. كما أكد الدستور التزام الدولة بحماية “المقدسات” ومنع التعرض لها، ونشر قيم التسامح ومكافحة التكفير. اما وثيقة الحوار الوطني اليمني فقد نصت (نقطة 3، ص87- نقطة رقم 132، ص118)، على حظر استغلال دور العبادة لأغراض سياسية أو حزبية، أو التحريض على الكراهية والعنف. ونصت أيضاً (نقطة رقم 23، ص92)، على حظر استخدام الخطاب الديني في العمل السياسي، وتجريم التكفير واعتباره جريمة يعاقب عليها القانون.
– الخلاصة: يبدو واضحاً من أن الاستقطاب العلماني-الإسلامي في مصر وتونس تحديداً انعكس بشكل واضح على بنية الدستورين، فالدستور المصري الجديد ألغى المادة التي كانت تعطي الأزهر مرجعية في تفسير ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، وأعاد صياغة مادة الأوقاف في إشارة واضحة لطبيعة الخلافات الحادة التي اشتمل عليها دستور 2012 في عهد الإخوان المسلمين، أما الدستور التونسي فقد خرج بشكل واضح بعيداً عن أي صبغة دينية سواء فيما يخص المؤسسة الدينية الرسمية أو الأوقاف أو استخدم دور العبادة لأغراض سياسية، وهو ما يعكس من جهة طبيعة التوازن بين القوى المدنية والعلمانية، وطبيعة العملية التوافقية لوضع الدستور التونسي ذاته، وهو الأمر المفقود في الحالة المصرية. أما الدستور المغربي فقد جاء ليعكس بجلاء الخصوصية المغربية الفريدة في المجال الدينية، حيث تتداخل الشرعيتين الدينية والقانونية في إطار الملكية المغربية. أما اليمن فهي حالة فريدة في العديد من جوانبها سواء في دستورها أو وثيقة حوارها الوطني من حيث مأسستها لدور الدولة في الزكاة والأوقاف وهو ما يعد أمراً نادراً في العالم العربي –باستثناء المملكة العربية السعودية- بالإضافة للتنوع المذهبي فيها، والتجربة المرتقبة بإنشاء دار إفتاء موحدة بعد إقرار وثيقة الحوار الوطني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أحمد زكريا الباسوسي، خلاف محتدم: المحاور الخلافية لإعادة العمل بنظام الأوقاف في تونس، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، 15 ديسمبر 2013.