الإعلام المذنب أم المفترى عليه؟ حول تعقيدات إصلاح الإعلام في فترات التحول الديمقراطي

(إضاءات من الخبرة التشيكية)

داليا يوسف

مصر

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [827.66 KB]

تزايد الحديث عن إصلاح الإعلام في أعقاب الثورة المصرية وكثرت الإشارة إلى فكرة الإصلاح الهيكلي للإعلام المملوك للدولة عبر تبني نموذج مؤسسة الخدمة العامة Public Service Broadcasting (PSB) خاصة ذلك الذي تمثل في هيئة الإذاعة البريطانية BBC وغيره من نماذج في دول استقرت فيها الأسس الديمقراطية، وفي سياق أوسع طرحت فكرة إنشاء مجلس وطني يضمن استقلال الإعلام (العام) فيحرر الأول من تدخل الدولة ويضبط عمل الإعلام الخاص الذي عادة ما يعتمد في عمله على قواعد السوق.. إلا أنه ومع مرور الوقت تبرز الحاجة إلى نظرة أعمق للسياق والملابسات التي تنشأ فيه هذه الهيئات وتتحرك فتقدم رؤى أكثر استجابة لتعقيدات المشهد المصري الذي يوحي بأن السياق السياسي والاجتماعي وبنى العمل الإعلامي قد لا توحي بأن حل معضلات إصلاح الإعلام يقتصر على إنشاء مؤسسة الخدمة العامة أو مجلس وطني يحل محل وزارة الإعلام، وتسمح التجربة التشيكية -في رأيي- بخوض غمار الأسئلة الأكثر تعقيدا فهي تحمل العديد من النجاحات والإخفاقات وتمتد عبر فترة طويلة من الوقت مرت فيها البلاد بتغيرات سياسية وإدارية واختبرت فيها مقولات عديدة وهو ما يعطي العديد من الدروس حول تشخيص المشكلات وعدم التعامل مع إصلاح الإعلام باعتباره مهمة محددة المدة أو أنها مقتصرة على عدد من الإجراءات المعدة سلفا، فالإعلام من أكثر النطاقات تأثرا بالسياق الذي يعمل فيه والهياكل المالية والإدارية التي يعمل بها تنعكس بشكل كبير على شكل ومضمون ما يقدمه.

تهدف هذه الورقة للاقتراب من التجربة التشيكية في إصلاح الإعلام عبر النظر لتفاصيل عملية التحول الديمقراطي بتعقيداتها وما صاحبها من تشابكات جماعات المصالح وتضارب عمل المؤسسات، وذلك لتحقيق مقاربة مع الحالة المصرية وتقديم توصيات تساهم في تقديم تصورات ورؤى أكثر وعيا وتحسبا لتداخل السياسي والتجاري والمهني في المشهد الإعلامي المصري.

تتبنى الورقة منهجا كيفيا لدراسة الحالة التشيكية في إعادة هيكلتها الإعلام بعد نجاح الثورة المخملية في 1989 واستخلاص الرؤى والتوصيات التي قد تفيد في إنضاج وتطوير سياسات وتجارب إصلاح الإعلام المصري وذلك عبر الاستفادة من عدد من النصوص والبيانات والخلفيات التاريخية واللقاءات المباشرة وحضور فعاليات ذات الصلة.

الأطر الإصلاحية وكواليس تشغيلها

استطاعت الثورة المخملية في عام 1989 تحويل المشهد الإعلامي عبر عدد من التغييرات الفارقة سواء على المستوى التشريعي أو المؤسسي أو على مستوى سياسات التشغيل والتوظيف

فبعد أن كان الإعلام مملوكا للدولة ويدار عبر أجهزتها السياسية والأمنية سمح بإصدار وتملك الصحف بل وامتد هذا الحق ليشمل المستثمرين الأجانب فباستثناء ” بعض الصحف المرتبطة بالحزب الشيوعي أو آخرين من ذوي الميول اليسارية، فإن أغلب الصحف التشيكية مملوكة لتكتلات غربية من ألمانيا، سويسرا أو هولندا”[1]

ورغم تأخر صدور المصادقة على القانون الخاص بالبث والقوانين المنظمة لعمل الإذاعة والتلفزيون التشيكيين (الرسميين)، إذ صدرت في أكتوبر 1991، إلا أنه واستنادا إلى هذه القوانين “تم تحويلهما لكيانين عامين مستقلين، كما تم فرض رسوم اشتراك فيهما على المواطنين مما مكن من عملية استقلالهما المالية، تم تحديد عدد ونوعية الذبذبات الهوائية التي سيحصل عليها القطاع العام والخاص بالبث الإذاعي والتلفزيوني، وتم تعيين أعضاء المجالس التي تتمثل مهمتها في إجراء عملية المراقبة والإدارة الرسمية لهذين القطاعين من قبل البرلمان”[2]

بل وامتدت محاولة إجراء عملية إعادة هيكلة عميقة (بدأت في 1989) إلى سياسات التعيين والتوظيف خاصة في المستويات العليا “فأجبر أغلب المتنفذين المحسوبين على النظام الشيوعي على ترك مناصبهم في التلفزيون خلال السنوات التي تلت الثورة مباشرة، وتم محاولة القضاء على النظام القديم عبر تفعيل البرلمان لقانون التطهير في 1991 يشمل الجهاز الحكومي ووفقا لأول مدير للتلفزيون فقد تركت هذه النخب السابقة جميعا مناصبها في أبريل 1992… كما لا يوجد دليل أن تلفزيون NOVA (أول قناة تشيكية أرضية خاصة) قد أدارتها نخبة تنتمي للنظام السابق”[3]

إلى هنا يبدو المشهد كقصة نجاح استخدمت فيها أدوات وإجراءات كلاسيكية لإحداث تحول من نظام إعلامي شمولي إلى نظام أكثر ديمقراطية وتعددية إلا أن الوقت والتجربة الممتدة عبر سنوات تسمح لنا بتأمل كيف لا تعمل خطط وإجراءات إصلاح الإعلام في الفراغ، وضرورة توفر ملامح إصلاح سياسي واقتصادي بالمفهوم الأشمل لإتمام تغييرات هيكلية عميقة في قطاع حساس وهام مثل الإعلام، ويمكن دراسة نوع وطبيعة العوائق التي حالت دون إتمام تغييرات أعمق عبر النظر إلى مساحات بعينها مثل: التقلبات السياسية/ اقتصاديات العمل الإعلامي (المنحى التجاري)/ التحديات المهنية، وبالطبع قد تداخل هذه المجالات للدرجة التي يصعب معها –أحيانا- التمييز فيما بينها.

الفاعلون السياسيون الجدد والمؤسسات القائمة

مبدئيا، يطرح ANDREW K. MILTON -في تحليله للعلاقة بين النخب السياسية والإعلام في التشيك- فرضية عامة حول الميل الطبيعي لدى السياسيين لاستغلال مؤسسات الإعلام موضحا بأنه “لو فهم الفاعلون السياسيون أن هناك فرصة ولو متخيلة لاستغلال المؤسسات القائمة فإنهم سيسعون لتعظيم هذه الاستفادة وسيبقون على العلاقات المؤسسية القائمة في محاولة لتحسين فرص استغلال هذه المؤسسات، وهو ما لا يتوقف على توجه أيديولوجي بعينه، فالنسبة للفاعلين الجدد فإن عمليات الإصلاح تتميز أكثر بإعادة تشكيل الأهداف والتفضيلات أكثر من كونها تحويل الأهداف لصالح بنى وعمليات جديدة”[4]

وعليه وتحديدا في الحالة التشيكية فقد ظهر جليا أن الأمر لا يتوقف على صدور تشريعات منظمة وإنما على مدى ما تعكسه هذه التشريعات والمناخ السياسي العام من تمثيل يوازن بين القوى السياسية المختلفة وأصحاب المصالح الأصيلة من المواطنين، حتى لا ينفرد السياسيون وحدهم بتقديم تصورات يبدو معها قدرا من التغيير إلا أنها لا تعكس تغيير بنيوي عميق وذلك لرغبة هذه القوى الجديدة في الاستفادة من المؤسسات القائمة وعلى رأسها الإعلام.

ويمكن عبر تطبيق هذه الفرضية على التجربة التشيكية تقديم نظرة أكثر تفصيلية حول طبيعة تعقيدات محاولات إصلاح الإعلام، والوقوف عند محطات بعينها قدمها باحثين للتمييز بين مستويات التغيير المحدودة والموضوعية والشاملة:[5]

  • بعد تمرير قانون الإعلام في 1991، قامت الهيئة التشريعية التشيكية بتأسيس المجلس الوطني التشيكي CNC شركة عامة في أول يناير 1992، على أن تمول الشركة -بشكل أساسي من قيمة الاشتراكات وتعمل كمالك للتلفزيون الرسمي، كما أسس المجلس التشيكي للإذاعة والتلفزيون CBC ليعمل على تنظيم عمل الإعلام بما فيه الإعلام الخاص ولكن وبينما كان يشير النص الأصلي لاستدعاء المجلس التشيكي للإذاعة والتلفزيون CBC أمام البرلمان فقط حينما يثبت أن المجلس لا يعمل بشكل مسئول وفقا للتشريعات، كانت النسخة الجديدة (من القانون) تمكن البرلمان من استدعاء المجلس في أي وقت يتفق فيه الغالبية من النواب على ذلك (بالتصويت)
  • و من ثم فإن تعديل التشريع سمح بتحويل المجلس من كيان محترف مستقل إلى لجنة شبه برلمانية تتحكم فيها سياسات الأحزاب والمصالح الخاصة، وليس أدل على ذلك من الجدل الذي أحاط بترخيص أول قناة تشيكية (أرضية) خاصة.

قناة NOVA : المزاج السياسي/صراع الهيئات المنظمة/السوق

تتجاوز تجربة إنشاء قناة NOVA كونها ملمح من ملامح التغيير في التشيك إلى تحولها لحالة دالة على العيوب التي يمكن أن تكتنف عمليات الإصلاح وإعادة الهيكلة وكذلك على الآثار السلبية المترتبة على المشهد الإعلامي ككل، فوفقا لتوماش كلفانيا وخلال الإجراءات الخاصة بمنح الرخص “وعد المالك الجديد بأن NOVA  ستكون قناة نوعية تعنى ببث البرامج الثقافية والفنية، ومسلسلات درامية ذاتية الإنتاج وبرامج أطفال، وبث برامج متخصصة للأقليات القومية بالإضافة لنشرات إخبارية رصينة، ولكن عند التنفيذ لم يتم الالتزام بأي من تلك الشرط واتخذت القناة طابعا تجاريا بل وطورت بعض أشكال برامج التسلية التي كانت سائدة في العهد الشيوعي”.[6]

والسؤال الآن : كيف سمح بهذا التجاوز الذي كان له أثرا فارقا في عملية التحول الديمقراطي وإصلاح الإعلام؟

والإجابة -وفقا لعدد من المحللين- لا تبتعد كثيرا عن المشهد السياسي، بل لنكن أكثر دقة ونقول عن المشهد الانتخابي في التسعينيات.

  • الخسائر المترتبة على ارتباط إصلاح الإعلامي بالتقلبات السياسية

كانت حركة المنتدى المدني من معارضي النظام الشيوعي السابق تدعو إلى “إنشاء نظام متوازن للبث المزدوج الذي من شأنه أن يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال عن الدولة، وقد انعكس هذا المنظور في بث قانون عام 1991، لكن الخسارة الانتخابية لحركة المنتدى المدني في عام 1992، دفعت بالحزب المدني الديمقراطي ODS والعديد من قادته النيوليبراليين لسلطة الحكم، بما ساهم في تعديل قانون البث لصالح القطاع الخاص”[7]، وفي ضوء هذه الظروف برزت نتيجة أخرى مثيرة للاهتمام متمثلة في عدم وجود حدود لملكية الأجانب لوسائل الإعلام دون عقد مناقشات كافية في البرلمان.

  • التضارب بين المجالس والهيئات المختصة بضبط العمل الإعلامي

و يبدو أن الإطار التشريعي والتنظيمي لم يحل دون الاستغلال المتبادل بين السياسيين والقنوات الإعلامية خاصة مع تعارض وتضارب الهيئات المختصة فالمجلس التشيكي للإذاعة والتلفزيون CBC ولتنظيم العمل في الإعلام الخاص كان عليه أن يتعامل مع اللجنة البرلمانية للإعلام الجماهيري PCMM ( شكلت في أبريل 1993 تسجيل التوصيات حول تطورات الإعلام الجماهيري) المسيطر عليها من قبل “الحزب المدني الديمقراطي ODS”، ومن وجهة نظر المجلس الوطني للإذاعة والتلفزيون  CBC فإن هذه اللجنة البرلمانية مهتمة بتحجيم سيطرة المجلس على وضع سياسات الإذاعة والتلفزيون.

واستفاد أصحاب المصالح من هذا التضارب وساهموا في تعميقه، ففي مواجهة تحرك المجلس CBC لإعادة تنظيم عمل القنوات الخاصة، سعت قناة نوفا للحصول على دعم السياسيين، خاصة أولئك الذين كانوا من منتقدي قرار المجلس الخاص بشروط منح الرخصة لقناة نوفا بما سمح بمزيد من تداخل السياسي والإعلامي “وعلى سبيل المثال وفي يونيو 1994، قررت قناة نوفا عدم بث لقاء مع رئيس الوزراء كلاوس زعيم الحزب المدني الديمقراطي لأن بثه قد يدمره سياسيا، وفي 1995 تم السماح له بالظهور أسبوعيا لمدة عشرة دقائق لعرض وجهة نظره في القضايا المختلفة” [8]

من السياسي إلى التجاري: الآثار المترتبة على العمل الإعلامي

قدمت فكرة منح ترخيص مجانا لأول قناة أرضية دون التقيد بمعايير العطاء الأصلي وتغيير القانون “بحيث لا يكون محتوى البرامج جزء من شروط منح الترخيص وخضوع المسألة إلى قواعد السوق إلى حد كبير” [9] كمثال كلاسيكي على آثار التغيرات الدرامية لسياسات التحول الاقتصادي وربط البعض بينه وبين تغييرات في بيئة الفساد لينتقل من مجال الخدمات العامة والمبيعات للخدمات الإدارية للدولة.

لكن الآثار المترتبة كما ذكرنا امتدت لتؤثر على المشهد الإعلامي ككل، حيث حققت القناة -التي منحت هذا الترخيص المجاني (قناة) NOVA- نجاحا تجاريا سريعا، وباتت تملك في بدايات الألفية 40% من السوق وبلغت أرباحها في بداية الانطلاق مائة مليون دولار.

و كان لنجاح NOVA TV التجاري أثره الخطير على التلفزيون التشيكي فقد تراجعت حصته من الجمهور تقريبا إلى 25 في المئة وحدث انخفاض حاد في إيرادات الإعلانات في وبدأ عددا متزايدا من المشاهدين تهرب من دفع رسوم البث العام، واستجابة لهذا الوضع، غير “التلفزيون التشيكي البرمجة والسياسات الإعلانية في محاولة للتنافس بصورة أكثر فعالية مما أدى ببعض الخبراء إلى القول بأن وسائل الإعلام التشيكية تخلت عن مسؤوليتها عن توفير الخدمات العامة” [10]بما في ذلك عرض المواد الترفيهية التي تنتمي للحقبة الشيوعية.

الصحافة التشيكية : المهنة والتحديات المزدوجة

لم تقتصر آثار التغييرات السياسية والاقتصادية على الإعلام المرئي والمسموع بل امتدت للصحافة التي عانت من تحديات عديدة، فبينما أمد سقوط الشيوعية الصحافة التشيكية بفرصة للدخول لاقتصاد السوق، إلا أن تصدع النظام الشيوعي السريع ترك الصحافة التشيكية مشلولة. إذ كانت الصحافة تعمل في المجتمع الشيوعي كذراع لآلة الدولة الدعائية من ناحية التوظيف والتمويل، ولأن الطبيعة عدو للفراغ فقد سارعت التكتلات الأجنبية لشغل الفراغ وخاصة من ألمانيا وسويسرا وهولندا.

أما مهنيا، فلقد كانت الصحافة التشيكية “معزولة عن الصحافة الديمقراطية من نواحي عديدة، وغير متدربة وفقا للصحافة الرأسمالية وقواعدها التنافسية”.[11]

البيروقراطية التشيكية والـinfotainmant العالمي

امتدت التحديات لتشمل أبعاد هيكلية مثل التاريخ البيروقراطي للمؤسسات والإدارات الحكومية في التشيك، فتقول “توماش كلفانيا” أنه في بلد كان المواطن فيه خاضع وكانت الإحصائيات الأساسية غالبا ما لا تتاح وكانت المعلومات الموجودة عادة ما يتمتع حراسها بعناد كبير، لم يكن من المتوقع الترحيب بالصحفيين والمحررين الاستقصائيين، وذلك بالرغم من أن الدستور يكفل حرية الصحافة نظريا”.[12]

بل وساهم السياق العالمي في زيادة ارتباك الصحافة التشيكية، فقد تغيرت معايير عمل الصحافة الغربية نفسها مع بداية الألفية الجديدة لتقدم المعلومات والأخبار والتحليلات بشكل أكثر ليونة وتلونا ويزدهر ما يعرف بالـinfotanimant وقد تفسر هذه التعقيدات داخليا وعالميا ما ذكره المستشار الصحفي المخضرم Jaroslav Veis عن انتشار صحافة التسلية والصحافة الفضائحية على النمط الغربي دون طابعها الاستقصائي. [13]

ومن المفارقات التي رافقت التغييرات في بيئة العمل الصحفي أنه مع عدم وجود جيل من الصحفيين متمكن من أدوات العمل الإعلامي المستقل فقد تم التوسع في إقالة وأحيانا عدم إعادة توظيف الكتاب والصحفيين ممن نشطوا في العهد الشيوعي وذلك استنادا لفكرة أنهم غير قادرين على مواجهة المعايير الجديدة، ولهذا فقد وظف أشخاص صغار في السن وبدون سابق خبرة بعضهم نجح في الاستمرار وبعضهم لم ينجح، واختلف بشأن تقييم هذه الخطوات فالبعض رآها ضرورية وآخرين رأوا أن التوسع فيها ربما ساهم في تراجع المستوى الاحترافي والمهني للصحافة التشيكية،[14] لكن المفارقة الأكثر درامية تكمن في أنه حتى مع التوسع في هذه الإجراءات التطهيرية فإن بعض الأشخاص ممن تعاونوا خلال فترة الشيوعية، استغلوا المعلومات والاتصالات السابقة، وحققوا نجاحا في المجتمع الناشئ المبني على السوق الحرة والديمقراطية[15]وانطبق ذلك على مجال الإعلام الخاص والاستثمارات التجارية.

التعقيدات الذاتية في مشهد ما بعد الثورة : خصائص الصحفيين الجدد ومجتمع المعارضة

و على المستوى الأعمق والأقل سطوعا ظهرت درجة من الرقابة الذاتية فحتى الصحفيون الجدد كانوا مثقلين ببعض الأساليب التي وصفت بالآتية من العهد الشيوعي ” ففي الفترة من 94-97 لم تكون هناك الكثير من المقالات الناقدة للحكومة ( باستثناء صحيفة برافو ذات التوجه اليساري وبعض المطبوعات الصغيرة) فقد كان معظم الصحفيين يتمنون نجاح الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك اعتقدوا أنه من الخطأ انتقاد حكومة “الحزب المدني الديمقراطي” لأنهم اعتبروه بمثابة الحامل الشرعي للإصلاحات ولذلك تغاضوا عن أخطاء سياسي الحزب في محاولة للمساهمة في عملية التحول” [16] كما تورط بعض الصحفيين أكثر وتصرفوا في أحيان كثيرة كسياسيين فاعلين بدلا من لعب دور المراقب المحايد.

كما أن التركيبة الخاصة بالمعارضة التشيكية التي كانت أكثر انعزالا عن التيار الرئيسي من نظيرتها البولندية ساهم في ألا تنتج البيئة التشيكية” صحيفة نوعية مثل (غازيتا فيبورشيتا) رغم المشتركات التي تجمع بين تجربة هذه الصحيفة وصحف تشيكية مثل (ليدوفي نيوفيتي) و(ملادا فرونتا دنيس) حيث “تولدت إدارتهم من مجموعة من المعارضين السابقين الذين تمتعوا بتجارب في العمل الصحفي السري Samizdat”.[17]

Samizdat وحركة ميثاق 77: التجارب الفريدة المجهضة

وتلقى بيتروشكا شوستروفا الضوء على مسألة مثيرة للاهتمام وتميز التحول السياسي في التشيك إذ تعزي وقف الازدهار الباهر للصحافة البدائية السرية samizdat للثورة المخملية في عام 1989 حيث قامت هذه الصحافة رغم التحديات وصعوبة تداولها على المعلومة والتحليل واهتمت بالثقافة والأدب.. وما طرحته شوستروفا يتقاطع مع ما أثاره البرلماني ووزير الظل في حكومة الحزب الاجتماعي الديمقراطي التشيكي Lubomir Zaoralek [18]من أن السرعة والسهولة التي تم بها إسقاط النظام الشيوعي ووجود شخصية توافقية مثل فاتسلاف هافل أوهمت التشيكيين بأن استقرارا ما قد تم بشأن هوية الدولة وشخصيتها وأجهضت جهودا كانت قد بدأت مع حركة ميثاق.77

الإعلام والتحفيز على الانسحاب من المجال العام؟

هذه التجارب المدنية والتفاوضية الغير مكتملة إضافة إلى ظواهر فساد السياسيين واعتماد اقتصاديات السوق في عمل الإعلام (خاصة مع تأثر قنوات البث العام)، دفعت عدد من المراقبين ومنهم Vit Kleparnik رئيس مركز الأبحاث الناشئ CESTA [19]للقول بأن المواطنين قد انسحبوا من المجال العام وهي خاصية يرون أن لها سوابقها في التاريخ التشيكي.

لكن المدقق قد يرى بأن الانسحاب تم من المشهد الانتخابي عبر تناقص الإقبال على التصويت، إذ أدرك المواطنين فساد قطاعات من السياسيين و”أعربوا عن خيبة أملهم عبر تنظيم مسيرات واحتجاجات، كما أشير لنوع من رد الفعل لدى البعض في حنينه إلى الماضي الشيوعي الذي أخذ شكلين، الأول متمثلا في شعبية الذوق الفني والترفيهي المنتمي للحقبة الشيوعية، والثاني في الصعود السياسي (النسبي) للسياسيين الشيوعيين”.[20]

وباستمرار التركيز على الرائج والترفيهي.. قدم الإعلام نفسه كجزء من الضوضاء المعلوماتية بدلا من المساعدة في التغلب عليها، وترى شوستروفا أنه قد يكون من المتفهم الاعتماد الكثيف في التسعينيات “كردة فعل على عقود من الخنوع”، لكنها تعود وتؤكد بأن “الصحافة تحتاج لتجاوز جاذبية قوى السوق واعتبار نفسها.. ووظائفها هي مساعدة المواطنين على الإبحار في المجال العام وتوسيع الاختيارات بما يفوق السائد ويقدم البدائل”.[21]

وقد يوحي لنا ما ساقته شوستروفا بملمح هام يتعلق بالنظر للإعلام في جانب من جوانب عمله كمنتج عام ومساهم في المجتمع المدني، وربما هذا الإدراك لدى البعض ساهم فيما حدث من قبل بأن نظم المجتمع المدني التشيكي نفسه ضد الفساد في 2000/2001 احتجاجا على الاستغلال السياسي للتلفزيون العام، وذلك رغم انتقادات بعض السياسيين المؤثرين في إشارة لأن النشطاء المناهضين للاستغلال السياسي للإعلام غير منتخبين.

الحالة المصرية: مقاربة.. وتوصيات

الفاعلون السياسيون الجدد (المناخ السياسي)

تكتب هذه الورقة وقد وصل فاعلين سياسيين جدد إلى سلطة الحكم وبدأت مرحلة جديدة من مراحل التحول الديمقراطي في مصر بتغيير سياسي لافت وذلك بوصول أول رئيس مدني منتخب للحكم إضافة لكونه من كوادر حزب الحرية والعدالة وهو الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين (التيار الأعرق بين القوي الإسلامية على الساحة المصرية)، وقد احتفظ حزب الحرية والعدالة لنفسه بوزارة الإعلام، ويأتي هذا على خلفية تاريخ تنوع بين الإقصاء (قبل الثورة) والتوتر (بعد الثورة) بين القوى الإسلامية (على تعددها) وبين عدد كبير من القنوات والوسائل الإعلامية على رأسها تلك المملوكة للدولة.

وقد أشرنا سابقا -في إطار استعراض الخبرة التشيكية- إلى ANDREW K. MILTON وفرضيته القائلة بأن السياسيين سيبقون على العلاقات المؤسسية القائمة في محاولة لتحسين فرص استغلال هذه المؤسسات، وميلتون يلفت هنا إلى أن هذا لا يتوقف على توجه أيديولوجي بعينه ويستكمل بأن الميديا من ضمن تلك المؤسسات التي لا يستهدف الفائزون بالانتخابات إلى تغييرها، فالموارد التنظيمية المستخلصة من الفرص المؤسسية محايدة أيديولوجيا وسياسيا ومتاحة للاستغلال من قبل الفاعلين السياسيين الجدد بصرف النظر عن انتمائهم الحزبي.

و بما إن المشهد السياسي المصري لم يسمح بالاستفادة من بدايات المراحل الانتقالية والثورة التي كانت موجودة فقد مر الوقت دون أن يحدث إلا ما يعرف بنموذج “التغيير المحدود” في العمل الإعلامي الذي وصف بالملامح التالية: تستمر النظم القديمة لملكية الدولة لتعمل دون تغيير البنى والأشخاص بشكل لافت، ويتم اختيار فئات من النخب البيروقراطية التي تكونت في العهد السابق لتسيطر على الإعلام المرئي والمسموع مع إمكانية وجود رؤى أكثر تعددية وهو غالبا ما يتوقف على مدى سيطرة الفاعلين السياسيين ودرجة المنافسة بين النخب الحاكمة (وذلك لأن التغيير ليس في بنية العمل).[22]

وبالتالي فمن المهم التأكيد على أمرين:

  • عدم انفراد الفاعلين السياسيين الجدد بعملية إعادة هيكلة الإعلام وإصلاحه لأن هذا يفتح بابا لأن يكون الإعلام محفزا على مزيد من الصراعات بدلا من قيامه بدوره الرقابي والمجتمعي، والاعتماد في هذا الشأن على المتخصصين والمهنيين واستطلاع رؤى وميول ومواقف المستهدفين بالخدمة الإعلامية (على تنوع انتماءاتهم).
  • الإقلاع عن نموذج “التغيير المحدود” إلى نموذج أكثر عمقا وموضوعية، وذلك لأنه حتى ومع تحقق أي مكاسب سياسية آنية للفاعلين السياسيين الجدد فقد يخسرونها مع أي تقلبات ممكنة في المشهد السياسي المصري خاصة وأن التحولات وتلون بعض المنابر الإعلامية والعاملين فيها أمر له سوابقه، بينما يسمح نموذج التغيير العميق لصالح خدمة البث العام المنضبط بقواعد مهنية بالقيام بدور أكثر توازنا وإنصافا لكافة القوى السياسية والمجتمعية.

المجالس والهيئات المختصة: بدايات الإصلاح لا نهاياته

استقرت التوصية بإلغاء وزارة الإعلام المصرية وهو أمر غير خاضع للنقاش أو التراجع عنه حتى إذا لم نكن قد نجحنا في تحقيقه إلى الآن، لكن مع استعراض الخبرة التشيكية نذهب إلى خطوة أبعد عبر استيعاب ضرورة وإنشاء مجلس وطني للإعلام يتجاوز عيوب ما أنشأته جمهورية التشيك باعتماده على البرلمان وفقط وإنما يتم تشكيل المجلس المختص ليصبح أكثر تمثيلا للقوى السياسية والمدنية المختلفة، وليتجاوز تضارب الهيئات والأطر التشريعية والإجرائية (كما هو الحال بين المجلس التشيكي CBC واللجنة البرلمانية PMCC) ويصبح أكثر قابلية لدمج المجتمع المدني والجماعة الإعلامية والنقابات، ومن المهم مزاوجة إنشاء هذا المجلس مع تفعيل لدور أجهزة رقابة مالية إدارية لتضمن شفافية عمليات إعادة الهيكلة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن التوازن بين المجالس التمثيلية والمنتخبة والقوى السياسية من جهة وبين قوى المجتمع المدني وجماعات الضغط من جهة أخرى هو ضمان عدم تحكم أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية، ويتم ذلك عبر دوائر معينة:

  • استرداد النقابة للمهني وتفعيل التنظيم الذاتي مع حرية إنشاء النقابات المستقلة للعاملين بالإعلام.
  • قيام المجتمع المدني بدوره في التوعية والضغط والتدريب ومراقبة مدى تبني وسائل الإعلام المختلفة والقائمين عليها لقيم المهنية والشفافية وعرض الأفكار والنتائج دوما على المواطنين عبر تقارير دورية ومناقشات مجتمعية.
  • الرقابة الشعبية على الإعلام سواء بالتواصل مع وسائل الإعلام السائد والاحتجاج على مخالفتها عبر المقاطعة -على سبيل المثال- أو عبر استخدام وسائل الإعلام الالكتروني للضغط على هذه المنابر لتقوم بدورها المتوقع منها.

سياسات التشغيل وإنتاج المحتوى

وبالرغم من أن الثورة المصرية قامت والمشهد الإعلامي المصري مختلف عن نظيره التشيكي (قبل الثورة المخملية) بحكم الحراك السياسي المصري الداخلي وثورة المعلومات عالميا إلا أن الإعلام المصري خاصة ذلك المملوك للدولة كان يعاني من مشاكل جوهرية (تشبه الحالة تشيكية) في سياسات التشغيل والتعيين وانعكست بشكل مباشر على المحتوى الإعلامي المقدم، وقد قدم الأستاذ لويس جريس[23] شهادة هامة عن سياسات التشغيل والتعيين في قطاعات الإنتاج تعكس العمق الزمني والإداري للأزمة فيشير إلى أنه ولمدة 23 عاما كان صفوت الشريف (وزير الإعلام الأسبق والأشهر في عهد مبارك) كانت الشخصيات الأمنية باتحاد الإذاعة والتلفزيون أصدقاء أو أقارب لصفوت الشريف، ومع ترقيهم يصبحوا مسئولين عن قطاعات هامة في اتحاد الإذاعة والتلفزيون ليتحكموا في المحتوى، كما أشار إلى أنه من يثبت ولائه من مذيعين ومنتجين ومخرجين “يتم تعيين أخوتهم وأقاربهم في اتحاد الإذاعة والتلفزيون”.

وبهذا نكون أمام شبكة معقدة ومتشظية من الأصدقاء والعائلة وممن ولائهم الرئيسي للوزير السابق صفوت الشريف وللنظام، والواقع أن مسألة تعيين الأقارب والتوريث تجاوزت مستوى الوزير ومحيطه وتخللت المستويات الوظيفية المختلفة وصار التضخم العددي وتفاوت (قلة) الكفاءة من سمات مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو).

وعن ارتباط الأمر بشكل مباشر بالمحتوى أضاف جريس أنه “لم يسمح لأحد بالتعيين أو التعاقد (خاصة من المنتجين) دون موافقة وزير الإعلام، وقد كانوا يحصلون على مقابل مادي كبير وعلى صلة قوية بالوزير، وبالتالي فإن اللجان المختصة بإنتاج محتوى قنوات التلفزيون المصري كانت على الورق فقط ولم تفعل بينما أصبح منتجي المحتوى الفعليين يختارون ما يعلمون أنه مرضي للوزير ويطيعون الأوامر بدلا من القيام بأية مبادرة، ويضيف جريس أن هذا الأمر ما زال قائما لأن “الأمور لم تتغير كثيرا بعد 25 يناير” (أجريت المقابلة بعد شهور من قيام الثورة).

وعليه فهناك ضرورة لفك تعقيدات شبكات المصالح الصغرى والكبرى التي ارتبطت بسياسات التشغيل، والالتزام بما يعرف بالتوصيف الوظيفي، التدريب المستمر، ورسم خطط تراعي البعد الاجتماعي في حالة إعادة التأهيل أو إنهاء الخدمة، وبما أن مثل هذه التوصيات قد تكررت عبر الأوراق ونصائح المستشارين المتعاقبين فيمكننا هنا التأكيد عليها على أن يتم رسم خطط محددة المدى والبدء بالقطاعات المثقلة بالديون والتي لا تحقق إنجازا ملموسا.

المحتوى بين نموذجي إعلام الدولة (النظام) / وإعلام الخدمة العامة

والحقيقة أن ثمة مشترك آخر على مستوى المحتوى، فرغم اختلاف تصنيف النظم السياسية بين الحكم الشيوعي في التشيك والنظام المصري قبل سقوطه إلا أن كلاهما استخدم الإعلام بصيغة تعاقدية غير معلنة، ففي التشيك كانت الطبقة الحاكمة توفر للمواطنين الخبز والترفية الخالي من أي رسائل ضد الحكومة. ومن آن لآخر يظهر نجوم أفلام محسوبة على النظام الشيوعي في منتديات أيديولوجية ليذكروا الشعب من هو القائد ولكن وبشكل عام لا يعدلون كل برنامج ليحمل رسالة أيديولوجيه (وكان ذلك بعد الانفجار الثقافي في عهد الستينيات وبعد الانتهاء النظري لأفكار غسل الأدمغة والسيطرة على العقول).

أما التلفزيون المصري، فقد قدمت دراسة تحليل محتوى[24] وكان من بين ما تعرضت له تحليل دليل البرامج التي تعرض على قنوات التلفزيون المصري الرئيسية في الفترة (من 15 – 30 مايو 2010) ليتضح أن ما يقدم لا يتطابق إلى حد بعيد مع المحتوى المنتظر من تلفزيون الخدمة العامة والذي من المتوقع أن يكون مهموما بالقضايا الثقافية والمعلوماتية والتعليمية أكثر من غيرها والتركيز على برامج الثقافة والبيئة والعلوم والأطفال وعرض محتوى لا تتحمس له عادة القنوات التجارية الخاصة كما يتوقع من تلفزيون الخدمة العامة أن تضم استراتيجياته الاهتمام بالتعددية ليمثل الشرائح والقطاعات المختلفة من المصريين، ولكن دليل البرامج مرة أخرى لا يعكس هذا الأمر فلا توجد برامج تثير اهتمام أو عن الأقليات سواء الدينية أو الإثنية أو غيرهما، ولا توجد تغطية كافية للمحافظات مقارنة بالقاهرة الكبرى.. وانطبق الأمر نفسه على تحليل النشرة الإخبارية المسائية (الرئيسية) للفترة نفسها من (15 إلى 30 مايو 2010) فإن الأصوات المعارضة للحكومة كانت غائبة تماما، سواء كان هذا على المستوى الحزبي حيث كانت التقارير تبرز رجال ووزراء الحزب الوطني والحكومة بالأساس أو حتى على مستوى تقديم رؤية معارضة لما تقدمه الحكومة، كما ظهر ضعف تمثيل شديد للمحافظات المصرية المختلفة حيث تحظى العاصمة بالتركيز الأكبر، وينطبق الأمر نفسه على تمثيل النساء مقابل الرجال، وعلى الأقليات بشكل عام وتحيدا الأقلية الدينية الأبرز (الأقباط) حيث لم يقدم إلا تقرير عن جلسة محاكمة قضية نجع حمادي.

وتشير هذه الشهادات والوقائع إلى أهمية تفعيل لجان المحتوى المتخصصة والتي تتجاوز محاولة إرضاء المتنفذ سياسيا أو اقتصاديا، ويمكن ألا تقتصر لجان المحتوى -في رأيي- على الخبراء والأكاديميين، بل يمكن أن يعاد تشكيلها بصور أكثر تحررا من القواعد التقليدية فيتم الاستعانة بشباب من المدونين ومستخدمي الشبكات الاجتماعية مثلا أو الفئات الممثلة لقطاعات همشت كثيرا من أقليات دينية أو أبناء المحافظات الحدودية أو… سواء كان ذلك بشكل موسمي لتغطية ملفات بعينها أو بشكل دوري لتضمن أن يمثل المحتوى كافة الأطياف المجتمعية.

وعموما فإن الخبرة التشيكية تشير إلى أن ضمان استقلال الإعلام الوطني وتميز محتواه لا يقتصر على التخلص من سيطرة الدولة وإنما تتدخل فيه عوامل تجارية وإدارية أخرى، فالمواطنين التشيكيين وبعد تحويل التلفزيون لهيئة خدمة عامة تململوا من مسألة دفع رسوم الاشتراكات مع ظهور منافس تجاري جذاب مثل تلفزيون NOVA، بما دفع التلفزيون الوطني للرضوخ للضغوط الاقتصادية وتقديم مواد تختلف عن المأمول من تلفزيون الخدمة العامة (الوطني).

وعليه فإن خطط وتصورات استقلال الإعلام عن سيطرة الدولة يجب أن تيسره رؤى لاقتصاديات العمل الإعلامي، تعتمد رسوم الاشتراكات لكنها لا تقتصر عليها، وتضع ضوابط للمعلنين والرعاة الرسميين، وتضع نظم وطرق لتلقي المنح والتدريب المستمر.

وخطورة الاستسلام للنموذج التجاري وضحت عبر استعراض النموذج التشيكي ومحاولة مجابهته لا تعد رفاهية ولكنها تدخل في صميم الإصلاح المجتمعي ككل حيث الميزة الرئيسية لنموذج الخدمة العامة المستقلة أنها تتخلص من كل من سيطرة الاستبداد السياسي لإعلام الدولة وسيطرة أصحاب المصالح ممن يفرض تصوراتهم وأجنداتهم عبر قدرتهم على التمويل والإعلان حيث تكون نتيجة الاستسلام لهذه الضغوط هي تراجع تمثيل طبقات ومجموعات غير مرضي عنها في الحالة الأولى (إعلام الدولة) أو لا تملك في الحالة الثانية (رؤوس الأموال والفاعلين السياسيين) والاختلال الذي يسببه هذا الأمر بجانب عوامل أخرى من تمييز طبقي أو ثقافي قد يدفع هذه المجموعات إما لمزيد من الانعزال أو للعنف لتعلن عن وجودها، وكانت واحدة من أهم مميزات “ميادين التحرير” والتي تعد المحك الأول هو فكرة ظهور التعددية والتسامح معها، ومنذ قيام الثورة تناولت إسهامات عديدة كيف أن الهويات العمرية، النوعية، الاجتماعية، الجغرافية، والدينية… التي طالما تم قمعها أو تشويها في عصر مبارك قد سطعت وتم إعادة تجسديها وتمثيلها في ميدان التحرير، إلا أن أجواء المرحلة الانتقالية سريعا ما تصاعدت وبدأت الاستقطابات تعيد رسم الصورة لتدخل ملامح التعددية في إطار عملية معقدة من الصراع متعدد المستويات بدء من صراع المصالح بالمعنى الضيق للفرد وللجماعات الصغيرة ومرورا بصراعات النخبة وانتهاء بالصراع على هوية وشكل الدولة والنظام السياسي المنتظر، وهو أمر لم يتغير حتى الآن وسط تجاذبات المشهد السياسي الحالي وعدم التوافق بشأن أعمال اللجنة التأسيسية وكتابة دستور مصر.

ضبط عمل الإعلام الخاص

ولا تتعلق مسألة ضبط الأطر الإجرائية والتشريعية والمحتوى المقدم بالإعلام المملوك للدولة فقط ولكن أيضا بالإعلام الخاص، فقد أظهرت التجربة التشيكية كيف أن تضارب العمل بين المجلس التشيكي الوطني CBC المخول بضبط الإعلام الخاص واللجنة التابعة للبرلمان PCMM أسهم في حصول قناة نوفا على وضع مميز ساهم في زيادة أرباحها زيادة هائلة وأثر سلبا على المحتوى وعلى المشهد الإعلامي ككل.

وقد تناول الباحثون نظريا ما تم وأشاروا إلى الدور الهام الذي تقوم به النخب الاقتصادية والسياسية والصراع بينهما، ومع ذلك فسيكون من المفيد في التحليل تجاوز النظر للنخب السياسية والاقتصادية باعتبارها مجموعة متجانسة، بينما الواقع أن هناك من الصراعات والتعقيدات ما هو داخل الطبقة الاقتصادية والسياسية الواحدة، فتلفزيون NOVA، على سبيل المثال، ضغط لضمان عدم خسارة ميزته في الاحتكار للسوق الإعلان التلفزيوني مع ظهور قناة تلفزيونية جديدة بينما عارض ممثلو صناعة الإعلان الذين دعوا لمزيد من المنافسة في سوق التلفزيون[25].. إذن فالأمر معقد، ومن المثير للاهتمام أن العديد من المستشارين الأجانب الذين تم الاستعانة بهم لوضع خطط إعادة هيكلة الإعلام وأطره التشغيلية والتشريعية” حذروا من الحماس الشديد في تطبيق قواعد السوق الحر في قطاع التلفزيون”، فالنظم الإعلامية في الديمقراطيات الغربية المستقرة نفسها عانت من سلبيات تحكم رؤوس الأموال وتقاطع المصالح بين رجال المال والسياسة وخبرت آثارها.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن نمط الملكية يشكل محددا أساسيا في جودة واستقلال العمل الإعلامي، فقد أوضحت السيدة كاثرين فينر (نائب رئيس تحرير صحيفة الجارديان)[26] أن نمط ملكية جريدة الجارديان كوقفية Scot Trust هو الذي سمح بأن تثير الجريدة على وجه التحديد ودون غيرها من وسائل الإعلام فضيحة تنصت جريدة ماردوخ قبل عامين من تناولها بشكل واسع وأن الجارديان قد حاربت كثيرا لإثبات صحة ما ذهبت إليه وهو ما أثبتته الأيام.

وللاشتباك مع الحالة المصرية تعرض الناشر/هشام قاسم في الجلسة نفسها للطبيعة الهشة لأنماط ملكية وسائل الإعلام في مصر، وأشار إلى وجود أزمة في كل من يعرف بالنموذج المملوك للدولة (القومي) والخاص، فالأول أثقل بالفساد المالي والإداري والأعداد الغفيرة من العاملين، والثاني يتحكم فيه المالك ولا تديره مجالس تحرير وإدارات حقيقية بقدر ما تعتمد في تكوينها على المجاملات الشكلية، وعبر قاسم عن صدمته فيما أشار له المهندس نجيب ساويرس[27] حينما قال بأنه لم يكن يتدخل في السياسة التحريرية لقناة أون تي في المملوكة له ولكنه سيضطر للتدخل نظرا للتهديدات التي تتعرض لها مصالحه!.

هنا تظهر ضرورة إعادة النظر في الجهة المنظمة لعمل القنوات الخاصة وهي في الحالة المصرية هيئة الاستثمار والتي تبدو كجهة تمنح تراخيص البث وتوقفها وغالبا ما يتم ذلك تأثرا بالمناخ السياسي بما يخضعها لتأثير المتنفذين في الدولة وأصحاب المصالح، ويمكن إنشاء مجلس متخصص لتنظيم البث لا تشكله جهة واحدة مثل البرلمان أو المجالس التشريعية (على أهمية دورها) وإنما هيئة تشمل برلمانيين وأكاديميين ونقابيين ومتخصصين، على أن يجدد اختيار أعضائها بشكل دوري وفي مدى زمني قصير لا يسمح بنشأة شبكة مصالح ويفتح الباب لفساد مالي وإداري.

تشريعات وإجراءات في مواجهة الفساد والاحتكار

وفي السياق نفسه تبرز الحاجة لوجود أطر تشريعية وتنظيمية تمنع وتجرم الفساد داخل المؤسسة الإعلامية وبينها وبين غيرها من جهات، وقد أظهرت قضية مثل فضيحة تنصت جريدة ماردوخ خطورة الفساد ما بين المؤسسات من تواطؤ حدث بين بعض العاملين في شرطة اسكوتلانديارد والقائمين على صحيفة ماردوخ NoW، وفي الحالة المصرية ليس هناك ما يمنع أيضا من هذه التداخلات وإن أخذت شكلا مختلفا، وهناك مثال حي أثاره الصحفي الاقتصادي أسامة غيث [28] تحدث فيه عن “أن الجهاز المصرفي بمصر يعوق النمو داخل المجتمع، مشددا أنه يمكن الإصلاح بشرط أن يحدث تطهير كامل بالبنوك وفى البنك المركزي، خاصة أن نهب أموال تلك البنوك كان من خلال تشكيل عصابي بما فيهم “كتيبة الإعلام”، كما أطلق عليهم، والتي كانت تتستر على هذا الفساد، كاشفا أن كانت هناك رواتب تخصص لهم تتراوح بين 150 إلى 200 ألف جنيه تحت بند مستشارين إعلاميين، مشيرا إلى أنه سوف يتقدم ببلاغ للنائب العام للتحقيق مع زملائه بمؤسسة الأهرام الذين كانوا يحصلون على تلك الرواتب، خاصة أن لديه كشوفا بأسمائهم”. والمثال، إذا ما تم التحقق منه، صارخ على ما يمكن أن ينتج عن تحالفات المصالح بين المؤسسات الإعلامية وغيرها من قطاعات حساسة هذا إذا ما استمر الأمر دون قواعد ملزمة وطرق للمحاسبة.

كما يفتقد وجود أطر تشريعية تمنع الاحتكار في تملك الوسائل الإعلامية، ونحن وفي الحالة المصرية وإن كنا لم نصل لتغول مؤسسة أو إمبراطورية إعلامية بعينها نتيجة لظروف اقتصادية وتاريخ نشأة وتطور الصحافة والإعلام في مصر، فليس لدينا من القواعد القانونية والإجرائية ولا من الأعراف المؤسسية ما يحول دون ذلك، وفي هذا الإطار قدم تقرير اليونسكو (الصادر يونيو 2011) [29] إشارة هامة لعدم وجود ما يمنع أو يحد من احتكار وسائل الإعلام في مصر: “لا تتوافر قواعد محددة بشأن معدلات تركيز ملكية وسائل الإعلام في “جمهورية مصر العربية” سواء على مستوى القطاعات أو فيما بين القطاعات، وفي واقع الأمر، تفتقر “جمهورية مصر العربية” في المطلق إلى قوانين وتشريعات تقضي بمكافحة ممارسات الاحتكار”، وبالرغم من إشارة التقرير إلى أنه في الواقع العملي تخضع كافة المحطات الرئيسية لملكية أطراف مختلفة إلا أنه عاد ونبه إلى أن من الضروري التصدي لظاهرة التركيز أو التكتل في ملكية وسائل الإعلام قبل نشوءها، نظرا لأنه عادة ما يتعذر تفكيك تكتل الإمبراطوريات الإعلامية بعد إرساء دعائمها، خاصة ما تنامي ما يعرف بالمال السياسي وملكية بعض رجال الأعمال لأكثر من قناة تلفزيونية، لتبدو إجراءات وقوانين منع الاحتكار حتمية في هذا السياق المقلق.

وعموما فإن الخبرة التشيكية توحي بأن الإصلاح قد يتم عبر خطط محددة الأجل، ولكن نجاحه يتوقف على استمرار العمل بآليات مرنة تشمل المراقبة والتطوير لأحداث توازن ومحاربة أي محاولات استغلال.

وأخيرا.. يبدو أن الموقف من الإعلام أثناء المراحل الانتقالية والتحول الديمقراطي لا يزال يتميز بدرجة من ازدواجية المواقف: ما بين التسابق إليه والتمركز حوله لإعلان المواقف وترتيب المصالح في ظل ضعف الدولة من جهة، ثم العودة واتهامه بإثارة الرأي العام وإشعال المواقف من جهة أخرى، فهل الإعلام مذنب أم مفترى عليه؟ هل سطوة الإعلام هي من صنع أيدينا؟ هل نشبه في هذا البطل الأسطورة بجماليون وهل نصنع من الإعلام بطلة أسطورته جلاتيا؟ هل تضخم دور الإعلام في صالحنا؟ هل هو في صالح العمل الإعلامي نفسه؟

هذه الأسئلة وغيرها قد واجهتنا كثيرا مؤخرا، ولكن الاستعراض الذي تم في هذه الورقة للخبرة التشيكية ثم المقاربة من الحالة المصرية يوحي بأن الإعلام لا يعمل في الفراغ أو بخصائص ذاتية التشغيل ولكنه ينصلح ويتطور بصورة أكثر عمقا واستدامة إذا ما تم في إطار عملية إصلاح سياسي واقتصادي مستمرة، على أن تسترد الجماعة الإعلامية دورها المهني والتنظيمي، ويتوازن أداء المجالس والهيئات المختصة دون تضارب ودون استسلام للتقلبات السياسية والضغوط التجارية ويضمن هذا التوازن أطر قانونية وإجرائية حاسمة وشفافة، ووقتها يمكن التوقف عن النظر للإعلام باعتباره كبش فداء للاخفاق في بناء الديمقراطية أو كضالع في إفشال التحول السياسي والمجتمعي المرجو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Jakubowicz, Karol (2008a) “Finding the right place on the map: Prospects for Public Service Broadcasting in Post-Communist Countries.” In Finding the Right Place on the Map. Central and Eastern European Media Change in a Global Perspective, 101-124. Karol Jakubowicz and Miklos Sukosd, eds. Bristol: Intellect.

[2] توماش كلفانيا، وسائل الإعلام التشيكية خلال فترة التحول، الثورة التشيكية وتجربة التحول : مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[3] Petr Pavlik and Peter Shields ,Toward an Explanation of Television Broadcast Restructuring in the Czech Republic , European Journal of Communication December 1999 14: 487-524

[4] Milton, Andrew K. 2001. “Bound but Not Gagged: Media Reform in Democratic Transitions.” Comparative Political Studies 34(5): 493.

[5] Petr Pavlik and Peter Shields ,Toward an Explanation of Television Broadcast Restructuring in the Czech Republic , European Journal of Communication December 1999 14: 487-524

[6] توماش كلفانيا، وسائل الإعلام التشيكية خلال فترة التحول، الثورة التشيكية وتجربة التحول : مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[7] Petr Pavlik and Peter Shields ,Toward an Explanation of Television Broadcast Restructuring in the Czech Republic , European Journal of Communication December 1999 14: 487-524

[8]ibid

[9] L. Lizal, E. Kozenda (2001), The Paradox of Czech Crusaders: Will They Ever Learn the Corruption

Lesson? (Corruption and Anticorruption in the Czech Republic). CERGE-EI WP No. 171, April 2001.

[10] Petr Pavlik and Peter Shields ,Toward an Explanation of Television Broadcast Restructuring in the Czech Republic , European Journal of Communication December 1999 14: 487-524

[11] Jakubowicz, Karol (2008a) “Finding the right place on the map: Prospects for Public Service Broadcasting in Post-Communist Countries.” In Finding the Right Place on the Map. Central and Eastern European Media Change in a Global Perspective, 101-124. Karol Jakubowicz and Miklos Sukosd, eds. Bristol: Intellect.

[12] توماش كلفانيا، وسائل الإعلام التشيكية خلال فترة التحول، الثورة التشيكية وتجربة التحول : مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[13] مقابلة مع المستشار الصحفي Jaroslav Veis في إطار رحلة بحثية إلى براج – جمهورية التشيك (24 – 30 يونيو 2012) نظمها كل من معهد EUROPEUM للسياسية الأوروبية ومنتدى بدائل العربي للدراسات

[14] ibid

[15] توماش كلفانيا، وسائل الإعلام التشيكية خلال فترة التحول، الثورة التشيكية وتجربة التحول : مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[16] بيتروشكا شوستروفا، تغيير وجوه الإعلام التشيكية، الثورة التشيكية وتجربة التحول: مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[17] توماش كلفانيا، وسائل الإعلام التشيكية خلال فترة التحول، الثورة التشيكية وتجربة التحول: مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[18]  مقابلة مع البرلماني ووزير الظل في حكومة الحزب الاجتماعي الديمقراطي التشيكي Lubomir Zaoralek في إطار رحلة بحثية إلى براج – جمهورية التشيك (24 – 30 يونيو 2012) نظمها كل من معهد EUROPEUM للسياسية الأوروبية ومنتدى بدائل العربي للدراسات.

[19] مقابلة مع Vit Kleparnik رئيس مركز الأبحاث الناشئ CESTA في إطار رحلة بحثية إلى براج – جمهورية التشيك (24 – 30 يونيو 2012) نظمها كل من معهد EUROPEUM للسياسية الأوروبية ومنتدى بدائل العربي للدراسات.

[20] بيتروشكا شوستروفا، تغيير وجوه الإعلام التشيكية، الثورة التشيكية وتجربة التحول : مجموعة مؤلفين – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع. 2012

[21] ibid

[22] Petr Pavlik and Peter Shields ,Toward an Explanation of Television Broadcast Restructuring in the Czech Republic , European Journal of Communication December 1999 14: 487-524

[23] Rasha A. Abdulla, Ph.D., Dalia Yousef , PUBLIC SERVICE BROADCASTING EGYPT COUNTRY REPORT , Consortium Institute Panos Paris Mediterranean Observatory of Communication

[24] ibid

[25] Petr Pavlik and Peter Shields ,Toward an Explanation of Television Broadcast Restructuring in the Czech Republic , European Journal of Communication December 1999 14: 487-524

[26]  ندوة حول الإعلام في المراحل الانتقالية نظمته مؤسسة الأهرام بالاشتراك مع مكتب اليونسكو بالقاهرة في 13 نوفمبر 2011

[27] رجل الأعمال المصري ومالك قناة  ONTVفي حوار له مع الإعلامية لميس الحديدي عرض على قناة CBC المصرية

[28] غيث: سأقدم بلاغا ضد صحفيين شاركوا بفساد البنوك، الموقع الالكتروني”مركز صحفيون متحدون” (الاثنين 14 نوفمبر 2011)

[29]  تقرير اليونسكو (الصادر في يونيو 2011) بعنوان ” تقييم تطوير وسائل الإعلام في مصر”، استنادا إلى “مؤشرات تطوير الإعلام تفاصيل هامة عن خريطة العمل الإعلامي في مصر من الأطر والقوانين الحاكمة”.

Start typing and press Enter to search