حبيبة محسن
مصر
مقدمة:
خلال الثلاثين عاما الماضية، اجتاحت موجة من الإصلاحات ذات الصلة باللامركزية عدد كبير من دول العالم، وهذه الموجة قضت على الشكل التقليدي للدول شديدة المركزية، وأضافت نوعا من كفاءة الأداء الحكومي، كما غيرت كثيرا من شكل دراسة السياسة بالشكل التقليدي، بأن بدأت في دراسة الفاعلين السياسيين على المستوى المحلي كما على المستوى القومي أيضا. فمن المؤكد أن الكثير من الدول التي أخذت بهذه الإصلاحات، وسعت إلى تعزيز اللامركزية فيها، وجدت في هذه الأخيرة حلا جيدا لعدد متنوع من المشكلات ذات الصلة بالمرافق والخدمات العامة، مثل التعليم، أو الصحة وغيرها، عن طريق تحويلها إلى الحكومات المحلية. إضافة إلى ذلك، تضاعف حجم التحويلات المالية التي تمنحها الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية من أجل تنفيذ المشروعات والعناية بالخدمات العامة.
من ناحية أخرى، ترافق مع تحويل الخدمات العامة إلى الحكومات المحلية هنا إصلاحات أخرى على المستوى السياسي: فقد اعتمدت معظم هذه الدول أن يكون منصب المحافظ أو العمدة أو رئيس المدينة بالانتخاب، كما اعتمدت إصلاحات سياسية أخرى من شأنها أن تجعل هؤلاء المحافظين أو العمد أو رؤساء المدن والقرى مسئولين أمام ناخبيهم، وأن تجعل الناخبين في الدوائر المختلفة أكثر قدرة على محاسبة المسئولين التنفيذيين الذين تم انتخابهم (المحافظين والعمد وما إلى ذلك).
وهكذا، فإن هذا الانتقال الكبير في المسئوليات، والموارد المالية والسلطات من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية قد جعلت من دراسة السياسات المحلية وعلاقتها بالحكومة المركزية أمرا شديد الأهمية. خاصة وأن الدراسات تؤكد على أن تعزيز اللامركزية تدعم وترسخ الممارسة الديمقراطية، كما أنها تساهم أيضا في خلق التوزيع الأفضل لموارد الدولة، لأنها تحول هذه الموارد إلى الجهات التي لديها معلومات أو معرفة أكبر بالأولويات المحلية لكل محافظة أو مدينة أو ولاية، كما أنها تساهم في دفع المواطنين نحو المزيد من المشاركة السياسية على المستوى المحلي، أي المستوى الذي يمس حياته اليومية بشكل مباشر، مما يعزز شعوره بالمواطنة وبقدرته على إدارة الصراعات السياسية من خلال المؤسسات القائمة؛ في الوقت ذاته الذي تساهم فيه اللامركزية وزيادة الصلاحيات الممنوحة للمحليات –إذا تم استثمارها بشكل صحيح- في تخفيف العبء الكبير الواقع على الحكومة والبرلمان المركزيين في تقديم الخدمات للمواطنين، وبالتالي تحقق مستوى أفضل من المعيشة للمواطن وتزيد من رفاهته. فمن المؤكد أنه بدون تطبيق سليم لللامركزية، سيكون هناك عجز كبير عن تحقيق تنمية مستدامة على المستوى المحلي، خاصة مع عجز الحكومة و/أو اللبرلمان المركزيين عن الوفاء بكافة احتياجات المجتمع، سواء بسبب الازدياد المطرد في عدد السكان، أو سوء استغلال الموارد المتوفرة، طبيعية كانت أم بشرية. ([1])
ولكن في ذات الوقت، من الواجب لفت الانتباه إلى أنه إذا ما لم يتم تفعيل آليات الرقابة على الحكومات المحلية بشكل صحيح، أو إذا كان هناك غياب في الشفافية في تحويل الموارد والمسئوليات من الحكومة المركزية إلى المحليات، فقد يتسبب ذلك في عدد من المشكلات الأساسية، مثل: إثارة بعض المشكلات بين المحافظات المختلفة على عدالة توزيع الموارد، زيادة القبلية أو الوساطة والمحسوبية، وكذلك في غياب سياسات مالية جيدة، قد تتسبب نوعا من التضخم أو زيادة الأسعار على المستوى المحلي.
ولكن من الملاحظ أن مصر ظلت، إلى حد كبير، بعيدة تماما عن موجة الإصلاحات المرتبطة باللامركزية. فعلى الرغم من كون مصر من أقدم الدول أخذا بنظام الإدارة المحلية، والذي بدأ مع محمد على عام 1809؛ ومرور مصر منذ ذلك التاريخ بمراحل كثيرة من التطور إلا أن هذه التجربة لم ترقى أبدا إلى منح المحليات المستوى المطلوب من حرية العمل والحركة، فظلت مصر دوما أسيرة نظام شديد المركزية في إدارة الدولة، ربما أحيانا بالمخالفة للنصوص الدستورية والقانونية التي نصت على اعتماد “اللامركزية”.([2]) فعلى الرغم من النص على مبدأ “اللامركزية” في دستور 1971 مثلا، خاصة في التعديلات الأخيرة التي أضيفت له عام 2007، باستحداث فقرة تنص على أن “يكفل القانون دعم اللامركزية، وينظم وسائل تمكين الوحدات الإدارية من توفير المرافق والخدمات المحلية والنهوض بها وحسن إدارتها”([3]) إلا أنه في الممارسة العملية تم سلب المحليات أغلب صلاحياتها المهمة والمؤثرة، بحيث تحولت إلى مجرد كيانات مفرغة من مضمونها. هذا إلى جانب أن سيطرة الحكومة -بيد من حديد- على الإدارة المحلية، أدى إلى تعطيل العمل في المحليات، وبيروقراطيته الشديدة، وتدهور شديد في مستوى الخدمات العامة المقدمة للمواطن.
ولذلك تحاول هذه الورقة توضيح الأشكال المختلفة لتطبيق اللامركزية، ومدى بعد مصر عنه في الوقت الحالي، وإمكانية الاستفادة من هذه الأشكال لتطوير النظام القائم حاليا في مصر إلى لامركزية حقيقية. كذلك تحاول الورقة إلقاء تحليل سريع لمسودة الدستور المصري الجديد لعام 2012، وما إذا كانت تؤسس لنظام جديد في الحكم المحلي يليق بثورة الخامس من عشرين من يناير.
اللامركزية: كيف ولماذا ترتبط بتحقيق الرفاهية للمواطن؟
من خلال المقدمة السابقة، ربما ينبغي لنا تفصيل أهمية اللامركزية، وربطها بتحقيق مستوى أفضل للمعيشة (أو ما يعرف باسم الرفاهية) للمواطن عموما. من الضروري أولا أن نؤكد على أن اللامركزية هي بالأساس عملية إصلاح في بنية نظام الدولة، وبالتالي فهي تعكس رغبة لدى النظام القائم في إجراء تعديل حقيقي في سياساته وفي نظامه المالي والإداري، كما أنها لا تعني بأي حال من الأحوال “تقسيم” بعض المحافظات أو المدن وابتعادها عن سيادة الدولة لتصل إلى انفصال كامل لبعض الأقاليم عن الدولة المركزية. بل على العكس تماما، يمنح النظام اللا مركزي لمحافظاته وأقاليمه حرية أوسع في إدارة أموره الداخلية (المرتبطة بتقديم الخدمات العامة للمواطنين)، وتسيير الشئون الإدارية في منطقته، ولكن مع بقائه على تحت سلطة الحكومة المركزية، وخضوعه لرقابتها وتعاونه معها بصورة كاملة.
وربما كان الاعتقاد السائد لدى البعض في أن تطبيق نظام لا مركزي تعني “محاولة لتفسيم مصر”، أو “المساس بوحدة البلاد” هو ما عطل تطبيق نظام لا مركزي حقيقي في مصر، إلى جانب ــ بالطبع ــ الطبيعة السلطوية للنظام السابق، والتي كانت المركزية الشديدة في السلطة والثروة، إلى جانب فساد وترهل الجهاز الإداري للدولة، أحد علاماته المميزة والركائز التي استند عليها طوال فترة الثلاثين عاما الماضية.
ويمكنا إجمال مميزات تطبيق اللامركزية بشكل سليم في النقاط التالية:
- إزاحة العبء عن كاهل مؤسسات الدولة المركزية: فالدولة اليوم مطالبة ليس فقط بتوفير الأمن الداخلي لمواطنيها، وتأمين حدودها الخارجية، وفض المنازعات بين المواطنين بالطرق السلمية، أصبحت أيضا مطالبة بتوفير الكثير من السلع والخدمات العامة لمواطنيها، والتدخل في الاقتصاد، من أجل ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها. وهو ما يجعل هناك ضرورة ملحة لدى الدولة وأجهزتها لخلق نوع من “تقسيم العمل” بينها وبين الإدارات المحلية. ففي الكثير من الدول المتقدمة، وهذا هو الحال في الدنمارك على سبيل المثال، تترك مؤسسات الدولة (على المستوى المركزي) توفير الخدمات العامة تقريبا كلها (التعليم ـــ رعاية المسنين ــــ دور الحضانة ــــ المواصلات العامة والطرق ـــ توفير إعانات البطالة ـــ المعاشات ــــ الصحة..) إلى المستويات الأدنى (البلديات أو المحليات).
- الوحدات المحلية هي الأقدر على إدارة شئونها بصورة أكثر كفاءة وفعالية: وذلك لأن المحليات أو البلديات (خاصة المنتخبة مباشرة من الشعب) تعد هي المستوى الأكثر قربا للمواطن من صناع القرار أكثر من المستويات الأخرى المنتخبة على المستوى الوطني (رئيس الجمهورية مثلا أو النائب في البرلمان الوطني)، كما أنها هي المنوطة باتخاذ قرارات في أمور جميعها يمس حياته اليومية بشكل مباشر (التعليم ـــ الصحة ـــ المواصلات العامة وغيرها..). وبالتالي، فمن المنطقي أن نقول أن السكان المحليين أدرى بمشكلاتهم وطرق حلها، وهم الأقدر والأكفأ على إدارة شئونهم أو إدارة توفير الخدمات العامة بالشكل الآنسب للواقع المحلي. وهنا يقتصر دور المستوى المركزي من صناع القرار على الرقابة والإشراف على عمل المحليات فقط، لضمان جودة الخدمات المقدمة في كل من المناطق المختلفة من الدولة. وهو الحال على سبيل المثال في الكثير من الدول الأوروبية، خاصة الدول الاسكندنافية.
- الحكم المحلي كمؤشر أو معبر عن الديمقراطية: وذلك لأن إشراك المواطنين أو الاعتماد عليهم في إدارة شئونهم المحلية يساهم بصورة كبيرة في الإقرار بأحد أهم بمادئ الديمقراطية وهو حكم الشعب لنفسه. وكلما اقتربت مستويات صناعة القرار من المواطن، كلما عدُ ذلك علامة على مدى ديمقراطية النظام. ومن ناحية ثانية، فإن قرب مستويات صنع القرار من المواطن، خاصة فيما يمس حياته اليومية، وشعور المواطن بقدرته على التأثير في عملية صنع القرار يزيد من ثقة المواطن في النظام السياسي وفي مؤسسات الدولة عموما.
- كذلك، فمن المؤكد أن اللامركزية كنظام يساهم بصورة كبيرة في إدارة التنوع السياسي والاجتماعي والديني والعرقي/ الإثني، في إطار يؤكد على العيش المشترك، وعلى إدارة الصراعات السياسية بشكل سلمي عبر المؤسسات القائمة، وفي إطار من احترام لسيادة القانون.
- الحكم المحلي كوسيلة لبناء كوادر سياسية: فمن خلال دعم مشاركة المواطنين في العملية السياسية بشكل سلمي عبر المؤسسات المحلية الموجودة، يساهم ذلك في بناء كوادر سياسية مؤهلة لممارسة السياسة واتخاذ القرارات وذات كفاءة على المستوى المحلي، يمكنها من ثم أن تلعب دورا ناضجا ومؤثرا على الساحة السياسية على المستوى الوطني.
- تبسيط الإجراءات والقضاء على الروتين الحكومي: فمن المؤكد أن اللامركزية وتطبيقها بالشكل السليم يجعل من مستوى إدارة الخدمات العامة، و اتخاذ القرارات المرتبطة بحياتهم اليومية في المستوى المحلي، القريب لهم بشكل مباشر. ومن ثم تتنفي الحاجة إلى استحصال الموافقات على قرارات شديدة المحلية من الجهات المركزية الموجودة في العاصمة([4]).
- توزيع أفضل للموارد من الناحية الاقتصادية: فعند تطبيق اللامركزية المالية، يصبح للمحليات القدرة على الإنفاق بصورة أفضل لإشباع الحاجات بصورة أفضل، لأنه لديها فكرة أوضح وأدق عن الحاجات المحلية التي يجب إشباعها والوسائل الأفضل لعمل ذلك.
المقومات الأساسية لتطبيق نظام لا مركزي ناجح:
وإجمالا أيضا، فهناك عدد من المقومات الأساسية التي تضمن تطبيق اللامركزية كنظام ناجح:
- تقسيم الدولة إلى عدد معلوم ومحدد من الكيانات الجغرافية والإدارية، مع مراعاة العوامل التاريخية والديموجرافية عند التقسيم.
- أن يكفل النظام المتبع قيام السكان المحليين باتخاذ قراراتهم ذات الطابع المحلي من خلال ممثليهم المنتخبين انتخابا حرا مباشرا، وأن يتم ذلك على المستوى المحلي.
- أن يكفل النظام المتبع تمكين المواطنين من إدارة مواردهم أيضا على المستوى المحلي.
- أن يبقى دور الحكومة المركزية عند وضع السياسات العامة، والرقابة والمتابعة للأداء المحلي، إلا في الحالات الاستثنائية.
وعلى الرغم من هذه المميزات المتعددة لتطبيق اللامركزية كنظام، إلا أن بعض الدراسات تؤكد على أنه إذا لم يتم اعتماد الآليات المناسبة لتطبيق نظام واضح ومحدد لللامركزية، فإن ذلك قد يتسبب في عدد من المشكلات الكبرى، ومنها عل سبيل المثال:
- النزاعات التوزيعية بين المحليات المختلفة الأكثر فقرا والأكثر غنى على توزيع الموارد فيما بينها.
- قد يتسبب تطبيق اللامركزية بشكل خاطئ في تكريس السلطوية على المستوى المحلي، خاصة في غياب آليات المحاسبة والرقابة اللازمة.
- أيضا من أبرز المشكلات التي قد يثيرها التطبيق الخاطئ لللامركزية مشكلة ازدياد الفساد والزبائنية السياسية على المستوى المحلي.
- كذلك، فإن تطبيق سياسات مالية خاطئة فيما يتعلق باللامركزية إلى إلى ارتفاع مستويات التضخم، وزيادة العجز في الميزانية، وأداء سيئ على مستوى الاقتصاد الكلي بشكل عام.
الأبعاد المحتلفة لللامركزية
وهناك ثلاثة أبعاد من اللامركزية، نجملها فيما يلي:
- اللا مركزية الإدارية: وتعني نقل إتباع عدد من السياسات العامة التي تنقل أداء المهام الإدارية وتقديم الخدمات العامة (مثل التعليم ــ الصحة ــ إسكان محدودي الدخل ــ التأمينات الاجتماعية والمعاشات وما شابه) من الحكومة المركزية إلى الوحدات المحلية، وتبعية الموظفين العاملين بالمحليات إلى المحليات وليس إلى الحكومة المركزية من ناحية التعيينات وتلقي الرواتب والمكافآت وما إلى ذلك. وتتوسع بعض الدول، ومنها الدنمارك على سبيل المثال، في تطبيق مفهوم اللامركزية الإدارية، حيث تقوم المحليات بتقديم كل الخدمات العامة تقريبا، مثل التعليم، والإنفاق الاجتماعي (من خلال إعانات البطالة والمعاشات والمساعدات الاجتماعية، ورعاية كبار السن، وكذلك إنشاء دور الحضانة، والمواصلات العامة وما إلى ذلك)، وكذلك الخدمة الصحية التي يقدمها كيان آخر أعلى من المحليات ولكنه أقل من الحكومة المركزية، وهو ما يعرف في النظام الدنماركي باسم “الأقاليم”. وكان السبب وراء ترك “الأقاليم” تقوم بهذه المهمة أن نقل صلاحيات تقديم هذه الخدمة الحيوية يجب أن يترك إلى المستوى الأقرب إلى المواطنين واحتياجاتهم المحلية، وفي نفس الوقت، كانت تكلفة بناء مستشفيات كبيرة مجهزة، وتحمل عبء إدارتها، أمرا يفوق قدرة المحليات أو البلديات الصغيرة. وبالتالي مُنح هذا الدور إلى “الأقاليم”.
- ولكن، لا يعد نقل صنع القرار فيما يخص هذه السياسات العامة في الموضوعات المختلفة من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية شرطا، فمن الممكن أن تحدد الحكومة المركزية السياسة الواجب إتباعها في مجال معين، وتترك للمحليات تنفيذ هذه الخطة في المناطق المختلفة، بدلا من أن تلجأ الحكومة المركزية إلى التنفيذ بنفسها كما هو الحال في مصر.
- اللا مركزية المالية: وتعني مجموعة السياسات المالية التي تهدف إلى زيادة الاستقلال المالي للوحدات المحلية. فمما سبقت الإشارة، قد تترك الحكومة المركزية للوحدات المحلية تنفيذ السياسات العامة، أو قد تترك لها أيضا حرية صنع القرار فيما يخص المجالات المختلفة من السياسات العامة (التعليم ــ الصحة ــ التأمينات الاجتماعية وما شابه ذلك). وهنا أيضا، قد تمنح الحكومة المركزية الوحدات المحلية تمويلا ثابتا من الموازنة العامة للدولة لتنفيذ هذه السياسات، أو قد تمنح الحكومة المركزية منحا للوحدات المحلية المختلفة من أجل تطبيق مشروعات تنموية محددة، أو ــ في بعض المحليات ــ تترك لها أيضا ــ كما هو الحال في بعض الدول الاسكندنافية ومنها الدنمارك على سبيل المثال ــ الحق في جمع الضرائب من المواطنين المحليين، من أجل توفير الموارد اللازمة لتمويل خططها وبرامجها.
- اللامركزية السياسية: وهي مجموعة النصوص القانونية والتعديلات في النظام الانتخابي التي يتم تبنيها من أجل فتح مساحات جديدة للتمثيل السياسي على المستوى المحلي. وتعني اللامركزية السياسية بعبارة أوضح نقل جانب من السلطة السياسية إلى ممثلين منتخبين ومؤسسات منتخبة على المستوى المحلي. ومن أبرز أمثلة ذلك، انتخاب رؤساء المدن أو العمد والمحافظين، والذين كانوا سابقا معينين، وتبني نظام المجالس التشريعية المحلية المنتخبة، واتخاذ تدابير دستورية وقانونية أخرى من أجل تدعيم وزيادة استقلالية القرار في المحليات([5]).
1- اللامركزية في مصر: لماذا ظلت حبرا على ورق؟
بالنظر إلى الواقع المصري قبل ثورة 25 يناير 2011، يمكن القول بأن واقع المحليات يبدو مختلفا تماما عما سبق ذكره في القسم السابق من الورقة. فعلى الرغم من أن بدء العمل بنظام الإدارة المحلية في مصر يرجع إلى أيام حكم محمد على (عام 1909 مع بدء الاعتراف بالشخصية الاعتبارية لمجالس البلديات وتحديد اختصاصاتها)، إلا أن نظام الإدارة والحكم المحلي في مصر ظل يعكس مركزية شديدة في السلطة في يد السلطة التنفيذية المركزية، مع الإبقاء على المجالس المحلية المنتخبة بلا صلاحيات حقيقية، إلى جانب الفساد المتفشي فيها.
وفي الفقرات التالية، سنحاول توضيح المشهد المصري وأين يقف من تطبيق اللامركزية بأنواعها الثلاثة؛ كما نحاول إلقاء الضوء على المواد المتعلقة بالمحليات في الدستور الجديد.
نظام الإدارة المحلية في مصر: أين نقف؟ هناك العديد من المشكلات السياسية في أداء المجالس المحلية في ظل النظام السابق، يمكن إجمالها جميعا في أمرين أساسيين، هما المركزية الشديدة التي تعاملت بها الحكومة المركزية مع المحليات، في بعض الأحيان بالمخالفة لأحكام القانون والدستور؛ والأمر الآخر وهو فساد الحياة السياسية بشكل عام، وانعكاس ذلك بصورة مباشرة على أداء المحليات.
2- المشكلة الأولى: الفساد العام في الحياة السياسية وانعكاسه على فساد المحليات
ضمن المظاهر العديدة الخرى لفساد الحياة السياسية في مصر في ظل حكم الرئيس المخلوع مبارك، وديكتاتوريتها، وهي أمور لا تخفى على أحد، لم تكن الانتخابات المحلية والأداء العام في المحافظات والمجالس المحلية الأخرى استثناءً. ومن مظاهر ذلك:
- جاءت الانتخابات للمجالس المحلية بغير القادرين على التعبير عن المشكلات المحلية، وارتبط أصحاب المصالح بمعظم الأعضاء، مما أثر على القرار المحلي، وأدى إلى تسلل العديد من موظفي الإدارات المحلية إلى عضوية تلك المجالس لتحقيق أهدافهم الشخصية. إلى حد دفع “زكريا عزمي”، رئيس ديوان رئيس الجمهورية سابقا، وأحد رموز النظام السابق، إلى الاعتراف تحت قبة البرلمان بأن الفساد في المحليات وصل “للركب”، وهو ما يعد دليلا على أن المجالس المحلية بؤرة أساسية من بؤر الفساد في المجتمع المصري. حيث أن أعضاء المجالس الشعبية البالغ عددهم 52 ألف عضو، جميعهم ـ أو معظمهم ـ من الحزب الوطني، حيث جاءوا نتاجا لعمليات التزوير، وذلك نظرا لأن المحليات، على الرغم من أن النظام السابق قد حولها إلى هياكل كرتونية منزوعة الصلاحيات، إلا أنها كانت تلعب دورا كأحد أهم روافد الحزب الوطني، وسيطرته على مفاصل الدولة. فأعضاء المجالس المحلية لم يقوموا بدورهم الرقابي في المحليات، نظرا لأنهم كانوا بنسبة تكاد تقارب الأغلبية المطلقة من أعضاء الحزب الوطني، وممن نجحوا بالتزوير أو بأعمال العنف و البلطجة.
- الفساد الكبير في أعمال المجالس المحلية، حيث رصد أحد تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات راقب على المحليات في الفترة من يوليو 2009 إلى يوليو 2010 حجما مهولا من المخالفات في المجالس المحلية بلغ حوالي 258 مليون جنيه، وتتضمن المخالفات تلاعبا في أعمال التوريدات، وسرقة صناديق الحسابات الخاصة، والاختلاسات، واستيلاء على محتويات المخازن والممتلكات الحكومية، بالإضافة إلى التعديات على أراضي الدولة. هذا دون ذكر للخدمات الأساسية المتدهورة، خاصة على المستويين الصحي والتعليمي، المقدمة للمواطنين؛ وتدني مستوى النظافة العامة في مختلف المحافظات.
- الأمر الذي سهل عمليات التزوير والفساد في الانتخابات المحلية في مصر، خاصة مع غياب الوعي السياسي الكافي لدى المواطنين المصريين تحت حكم مبارك، هو النظام الانتخابي المعقد لأعضاء المجالس المحلية. فالناخب مطالب بانتخاب 24 عضوا للمجالس المحلية من إجمالي مرشحين متعددين، قد يصل أحيانا إلى 100 مرشح. وهو ما كان يعقد الأمور كثيرا بالنسبة للناخبين. ويجعل من الصعوبة بمكان اختيار ممثلين حقيقيين عن المواطنين، خاصة في ظل غياب اهتمام الأحزاب السياسية بالانتخابات المحلية.
3- المشكلة الثانية: المركزية الشديدة للدولة المصرية
- فمن المعروف أنه على الرغم من أن مصر عملت بنظام المجالس البلدية أو المحلية منذ عهد محمد علي، ألا أن القيادات الممثلة فيها دائما ما كانت ممثلة ــ وبشكل مباشر ــ للحكومة أو السلطة المركزية. وازدادت هذه النزعة المركزية في أعقاب ثورة يوليو 1952. فلم يشغل مواقع المحافظين أو رؤساء المدن والأحياء والقرى في أغلب محافظات مصر سوى رجال ثورة يوليو، والغالبية العظمى منهم ــ بطبيعة الحال ــ من النخبة العسكرية، وحتى المدنيين ضمن هؤلاء كان يخضع ــ قبل أي اعتبار آخر ــ إلى معيار الولاء لنظام يوليو، وثقة النخبة العسكرية الحاكمة في هؤلاء القيادات.
- وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن شرا كله، بالنظر إلى الإنجازات العديدة لثورة يوليو ــ على المستوى القومي والمحلي أيضا ــ في مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية والخدمات العامة وغيرها، إلا أنه من أكبر المآخذ على هذه إدارة هذه المرحلة هو المركزية الشديدة والمفرطة، التي كانت تغفل الواقع المحلي والاحتياجات المحلية. فكانت المشاركة المجتمعية في صنع القرارات محدودة للغاية، وكانت كافة القرارات تتم بأوامر من الحكومة المركزية، كما كان الطابع العسكري مهيمن على المحليات ــ وهي مؤسسات مدنية بالطبيعة ــ فيمكن لنا القول بأن ذلك جعل من المحليات هيئات غير ديمقراطية ذات طابع آمر وليس تشاركي. وهو ما استمر عليه الحال حتى يومنا هذا، فموقع المحافظ على سبيل المثال يشغله في العموم شخص له خلفية شرطية أو عسكرية، في مقابل القليل جدا من المدنيين، وكذلك الحال بالنسبة لمواقع قيادية أخرى داخل المحافظة مثل سكرتيرها العام ورؤساء المدن والمرتكز وغيرها من المواقع. ([6])
- أدى غلبة الطابع العسكري على الوحدات المحلية إلى قتل الطموح لدى العاملين في الإدارة المحلية، بسبب غياب إمكانية ترقيهم إلى مناصب عليا أو قيادية داخل النظام المحلي. كما أن تقييم القيادات المحلية لم يعد تقييما للأداء بالمعنى المتعارف عليه، أو قياس مدى القبول الشعبي لهذا الأداء، بل أصبح مبنيا بصورة أكبر على انطباع القيادات الأعلى من الحكومة المركزية. وهو ما يعكس غياب اللامركزية السياسية بشكل غير مسبوق.
وما زاد من غياب اللامركزية السياسية هو عدم قدرة المجالس الشعبية المحلية على إصدار قرارات ملزمة للأجهزة التنفيذية المقابلة لها، ولا تستطيع بالتالي محاسبتها، بل أكثر ما تمتلكه هو إصدار توصيات أو مقترحات للأجهزة التنفيذية المقابلة لها. كما أنها لا تستطيع مخاطبة هذه الأخيرة مباشرة، بل يجب أن يتم ذلك من خلال المحافظة، والمحافظ هو الذي يتولى هذه المهمة، وهو ما أدى بالتالي إلى نزع أي سلطات حقيقية عن المجالس الشعبية المحلية.
- نتج عن ذلك أيضا غياب رؤية موحدة أو خطة متماسكة للتنمية المحلية، بسبب التغيير المتكرر للقيادات المحلية دون مراعاة للبعد المحلي أو غياب التقييم المجتمعي لأداء القيادات المحلية. وهو ما نتج عنه بطء وعشوائية التنمية في المجتمعات المحلية، إضافة إلى تفاقم المشكلات البيئية والخدمية في القرى. وهو ما يعكس الغياب الكامل لمفهوم اللامركزية الإدارية.
- غياب أي برامج تدريبية مدروسة وقادرة على بناء قدرات القيادات المحلية أو الموظفين في الوحدات المحلية، وفق منهجية واضحة، تدعم المشاركة المجتمعية في صناعة القرار أو حتى تحقق الحد الأدنى من كفاءة الأداء في توصيل الخدمات العامة.
- أما من الناحية القانونية والتشريعية، فالبناء الدستوري والقانوني للعلاقة بين الحكومة المركزية والمحليات ما زال سلطويا يتميز بهيمنة المركز على المحليات. فمركز صناعة القرار ــ بالمخالفة أحيانا لبعض الأحكام القانونية ــ متركز في يد رئيس الوزراء ومجلس الوزراء. فيشير قانون الإدارة المحلية الحالي إلى أن أسلوب العمل في المحليات هو عبارة عن “تفويض السلطة” وليس “نقلها” إلى المحليات. أي أن تفويض السلطة للمحليات قابل للإنهاء من جانب الحكومة المركزية في أي لحظة تختارها هي، ودون أن تعكس المسئوليات الملقاة على عاتق المحليات أي سلطات، أو أي قدرة على المشاركة في اتخاذ القرارات. وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى تزايد مفرط من الحكومة المركزية في الرقابة على المجالس المحلية، فأصبحت المحليات في نهاية الأمر مغلولة اليد في اتخاذ أي قرار يتعلق بتنمية مناطقها المحلية. كما أنها جعلت قرار حلها في يد السلطة التنفيذية المركزية، على الرغم من أن هذه الأخيرة منتخبة مباشرة من الشعب. من المهم الإشارة إلى أن هناك تداخل كبير وعدم وضوح في صلاحيات الحكومة المركزية مقارنة بالسلطات الممنوحة للمحليات.
ومن أمثلة ذلك الخلاف بين الحكومة المركزية ممثلة في وزارة التربية والتعليم (آنذاك تحت ولاية حسين كامل بهاء الدين) وبين المحليات على من له الحق في تحديد موعد بدء العام الدراسي في المدارس؛ ورغم أن القانون يعطي الحق في ذلك للمجالس المحلية للمحافظات، إلا أن الحكومة المركزية انتصرت في هذه المعركة، وتولت هي تحديد مواعيد بدء الدراسة.
ويتجلى أيضا غياب اللامركزية الإدارية في قانون 47 لسنة 1978 الخاص بالعاملين المدنيين بالدولة، والتي تجعل سلطة تأديب العاملين بالمحليات من اختصاص الوزراء المعنيين وليس من اختصاص المحافظ أو غيره من المسئولين بالوحدات المحلية. وبالتالي يعد المحافظ مفوضا من الوزارء في هذه الاختصاصات على الرغم من أن قانون الإدارة المحلية ينص على أن المحافظ هو الرئيس الأعلى لجميع العاملين المدنيين في نطاق المحافظة. وهو ما أفرز مشكلة حقيقية في ولاء مزدوج للعاملين في المحافظة والوزارات المركزية.
كذلك، على المستوى المالي، لا تعتمد فقط المحافظات المختلفة بنسبة 80% على التمويل الحكومي، ولكن أيضا لا يستطيع المحافظ نقل أي مبلغ من بند إلى بند في موازنة المحافظة دون الرجوع إلى وزارة المالية، وهو ما يعكس الغياب شبه الكامل لمفهوم اللامركزية المالية.([7]) بل وتم سحب الصناديق الخاصة بالمحافظات لتكون تابعة لوزارة المالية بعدما كانت تابعة للمجالس المحلية. وبالتالي، لا تزال الوزارات المركزية هي القابضة على موارد وعملية صنع القرار فيما يخص تحديد الاحتاياجات المحلية، ووضع خطة التنمية، وتقرير الأولويات واعتماد الميزانيات للمحليات([8])، بل أنها تتولى –في بعض الأحيان- طرح بعض الأعمال للتنفيذ –مثل بناء وحدات صحية في المناطق الريفية وغيرها- بدون أي مشاركة محلية سواء على مستوى المحليات أو المحافظة أو المشاركة المجتمعية.([9])
هل يحقق الدستور الجديد اللامركزية في مصر؟
مع النقاش الكبير الدائر في مصر مؤخرا حول الدستور الجديد، يبدو أنه من المناسب لنا محاولة تقييم النصوص ذات الصلة بالإدارة المحلية والحكم المحلي الوارده فيه، وهل يحقق هذا الدستور اللامركزية بأبعادها الثلاثة سابقة الذكر (الإدارية والمالية والسياسية) كما يفترض به أم أنه يمثل استمرارا لتراث الدولة المصرية المفرط في المركزية.
خصص الدستور المصري الجديد فصلا كاملا منه، هو الفصل الرابع، لتناول نظام الإدارة المحلية، وبه المواد من 183 إلى 192. وتم تقسيم هذا الفصل إلى فرعين رئيسيين، هما التقسيم الإداري للدولة، والمجالس المحلية. ومن خلال القراءة الأولية لهذه المواد الدستورية، يلاحظ القارئ غيابا واضحا للرؤية في ذهن واضعي الدستور، فجاءت معظم البنود الخاصة بتنظيم العمل أو باختصاصات الوحدات المحلية أو المتصلة بكيفية اختيار رؤساء الأجهزة التنفيذية ملتبسة، ولا تعكس رؤية موحدة أو متماسكة لدى المشرع، حيث أنها غالبا ما كانت تلقي تنظيم الأمور الخلافية –على الرغم من جوهريتها- إلى القانون. وهو ما يفتح الباب بالطبع للالتفاف على تطبيق اللامركزية، أو تقييدها، او الارتداد إلى التراث العميق شديد المركزية الموروث لدى الدولة المصرية منذ قديم.
فمن ناحية أولى، نلاحظ غياب مصطلح “الحكم المحلي” الذي يعكس تمكين الوحدات المحلية المختلفة من إدارة أمورها بنفسها، وسلطتها في اتخاذ القرارات المحلية، أي النظر إلى اللامركزية كمفهوم بأبعادها الثلاثة، بشكل شبه كامل؛ واستبداله بمصطلح “الإدارة المحلية”، الذي يعكس بعدا واحدا من اللامركزية، وهو اللامركزية الإدارية. ويتأكد ذلك بصورة أكبر من خلال المادة 183 من الدستور، التي على الرغم من نصها صراحة على تقسيم الدولة إلى وحدات محلية تتمتع بالشخصية الاعتبارية، إلا أنها قصرت هذه الوحدات على كونها مجرد “وحدات إدارية”. كذلك، فعلى الرغم من النص الصريح أيضا في المادة ذاتها على “دعم اللامركزية، وتمكين الوحدات الإدارية من توفير المرافق والخدمات المحلية والنهوض بها وحسن إدارتها”، إلا أن المادة لم تنص على أية آليات واضحة تكفل بها ذلك، تاركة تحديد ذلك كله للقانون. وينطبق هذا التحليل أيضا على المادة 184 التالية لها.
من ناحية ثانية، هناك نقطة تقدم تحسب للدستور الجديد فيما يتعلق بضمان اللامركزية المالية بشكل محدود للوحدات المحلية، حيث كفل الدستور في المادة 185 منه دخول الضرائب والرسوم ذات الطابع المحلي الأصلية والإضافية إلى موارد الوحدات المحلية. ولكن لم يحدد آليات واضحة لذلك، تاركا هذه المهمة للقانون.
ظلت العلاقة بين الوحدات المحلية المختلفة وبين الحكومة المركزية في الدستور الجديد أيضا ملتبسة، حيث نصت المادة 186 على أن ينظم القانون تعاون الوحدات المحلية مع بعضها البعض أو مع الحكومة المركزية في الأعمال ذات النفع المشترك، دون أن تحدد أي آليات واضحة لذلك، أو حتى دون إشارة إلى طبيعة هذه العلاقة وحدود اختصاصات كل من أطرافها في نص المادة.
وينعكس هذا الارتباك الواضح وغياب الرؤية فيما يتعلق بهذا الموضوع على وجه الخصوص في المادة 187، التي تركت تحديد طريقة اختيار المحافظين ورؤساء الوحدات الإدارية الأخرى إلى القانون، وكذلك المادة 188 التي لم تحدد شرطا لانتخاب أعضاء المجالس المحلية سوى بأن يكون عمره يوم فتح الباب للترشح لانتخابات المجالس المحلية يزيد عن 21 عاما. وهو ما يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لصياغة قوانين قد تلتف على مفهوم اللامركزية، خاصة في بعدها السياسي، بالارتداد إلى ما كان الوضع عليه في ظل النظام السابق، خاصة في ظل عدم احتلال هذه القضايا لمساحة كبيرة في النقاش العام في الوقت الحالي. إضافة إلى ذلك، فكان من الواجب عدم النص على هذا السن في الدستور، خاصة مع غياب باقي الشروط المتعلقة بالترشح للانتخابات المحلية عن الدستور؛ ومع العلم بأن الاتجاهات العالمية، سواء في الدول الراسخة في الديمقراطية (مثل فرنسا) أو الدول التي حققت نجاحات مؤخرا في مجالي التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي (مثل البرازيل) تحاول تخفيض سن خوض الانتخابات المحلية. وهنا قد يطرح البعض تساؤلات حول الهدف الكامن من وراء النص بالتحديد على هذه النقطة في الدستور، وترك باقي شروط الترشح للتحديد في القانون. فهل هو نوع من التضييق أو الاستبعاد للقطاعات الشابة ــ وعدد كبير منها أقل من 20 عاما ــ التي كانت المحرك الأساسي لثورة 25 يناير؟
جاءت المواد 189، 190، 191، و192 جيدة من حيث المبدأ؛ فالمادة 191 على سبيل المثال تؤكد على اللامركزية في بعدها المالي، حيث تقرر حق المجالس المحلية في وضع موازنتها وحسابها الختامي. والمادة 192 تمنع حل المجالس المحلية عبر إجراءات إدارية. ولكن تثير المواد المذكورة في الوقت ذاته جملة من المشكلات: ففي الوقت الذي تنص فيه المادة 189 على أن المجلس المحلي يختص بالنظر في كل ما يهم الوحدة التي يمثلها، من حيث إنشاء وإدارة المرافق المحلية والعمال الاقتصادية والاجتماعية والصحية وغيرها. كما نص كما تنص المادة 191على أن قرارات المجلس المحلي الصادرة في حدود اختصاصه نهائية، ولا يجوز تدخل السلطة التنفيذية فيها إلا “لمنع تجاوز المجلس لهذه الحدود، أو الإضرار بالمصلحة العامة، أو بمصالح المجالس المحلية الأخرى”.
إلا أننا نلاحظ أمرين: أولا، غياب أي تحديد واضح للصلاحيات التي تدخل في نطاق المجالس المحلية عبر عبارات أقرب إلى الإنشاء؛ وثانيا، النص على الحدود المسموح للسلطة التنفيذية فيها بالتدخل في أعمال المجالس المحلية بعبارات مطاطة تفتح الباب على مصراعيه لتدخل السلطة التنفيذية في أعمال المحليات. وربما كان النص على أن الخلاف بين هذه الأطراف تحسمه جهة قضائية هي الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع بمجلس الدولة أمرا محمودا، ولكن من الصعب أيضا التعويل عليه وحده في ظل غموض والتباس النص الدستوري.
وهنا أيضا، تترك المادة 192، التي كان يفترض بها تحصين المجالس المحلية ــ بصفتها مجالس منتخبة مباشرة من الشعب ــ من تغول السلطة التنفيذية، إلا أن المادة تفتح أيضا الباب للارتداد إلى المركزية، حيث أنها تركت للقانون تحديد طريقة حل أي من المجالس المحلية وإعادة انتخابها([10]).
خلاصات وتوصيات:
تأسيسا على ما سبق، من المهم مراعاة عدد من المعايير عند إتباع نظام جديد في اللامركزية:
- فقد تكون الهياكل الموجودة حاليا في مصر أقرب إلى اللامركزية من الناحية الشكلية، ولكنها في الواقع مقيدة بفعل عدد من العوامل: فعلى سبيل المثال، لا بد أن يصحب تطبيق اللامركزية الإدارية تحسين في أوضاع ومستوى موظفي الدولة على مستوى المحليات، وذلك من خلال أن ترعى الدولة برامج لتدريب وتأهيل موظفي المحليات، وتسهيل الارتقاء بأدائهم خلال الممارسة بشكل مستمر، خاصة في الشئون المتعلقة بتقديم الخدمات العامة، وعندما يتعلق ذلك بنقل صلاحيات أو سلطات جديدة لهم. وهو ما يعزز من القدرات المؤسسية للوحدات المحلية بشكل كبير. وهو بطبيعة الحال ما لم يحدث في مصر حتى الآن.
- كذلك فإنه إذا تم إقرار اللامركزية الإدارية بدون دعم القدرات التنظيمية والارتقاء بأداء موظفي الوحدات المحلية، أو إذا تم نقل الصلاحيات من الحكومة المركزية إلى الوحدات المحلية دون توفير الموارد المالية أو البشرية الكافية لها، فقد يؤدي ذلك إلى إعاقة عمل المحليات وقدرتها على إدارة شئونها المحلية بنفسها ــ وهو الغرض الأساسي من اللامركزية ــ فتبقى طيلة الوقت أسيرة الاعتمادات المالية الواردة من الحكومة المركزية.
- وبالمثل، بالنسبة لتطبيق اللامركزية المالية يعتمد بشكل كبير على تصميم السياسات المالية التي تصيغ العلاقة بين المركز والمحليات. فإذا زادت نسبة الاعتمادات المالية المخصصة للمحليات من الموازنة العامة، والتي تحوّل للمحليات بشكل تلقائي، تعززت قدرة المحليات على إدارة شئونها وقدرتها على اتخاذ قراراتها المستقلة، لأنها تتلقى النسبة الأكبر من التمويل دون أن تتحمل تكاليف جمع هذه الموارد. أما إذا ارتبط تمويل الوحدات المحلية بأولويات الحكومة المركزية وحدها، فقد يجعل ذلك الوحدات المحلية أسيرة الحكومة المركزية، ويعيق قدرتها على إدارة شئونها وتقديم الخدمات العامة بشكل مباشر إلى مواطنيها. أما إذا تم ترك سلطة جمع الضرائب للوحدات المحلية ــ كما يحدث في بعض الدول مثل الدنمارك أو السويد مثلا ــ يتطلب ذلك وجود نوع من المحاسبة السياسية المحلية للمسئولين المحليين (العمد أو المحافظين أو غيرهم)، وهو ما يتطلب أيضا تطبيق لا مركزية سياسية.
- وهكذا، يصبح تطبيق اللامركزية السياسية، عبر ترك المواطنين المحليين يقررون في انتخابات حرة وديمقراطية اختيار ممثليهم عن كل وحداتهم المحلية، سواء في أجهزتها التفيذية (وعلى رأسها المحافظ أو عمد القرى والمدن المختلفة)، وأجهزتها التشريعية المسئولة عن الرقابة على عمل الأجهزة التنفيذية، أمرا أساسيا وشديد الأهمية في بناء نظام لا مركزي حقيقي، يسهل على الوحدات المحلية المختلفة إدارة شئونها وتنفيذ خططها التنموية وتقديم الخدمات العامة لمواطنيها على الوجه الأمثل والأكثر ملائمة لمتطلبات الواقع المحلي([11]). فيمكن للمواطنين مباشرة اختيار ممثليهم، ومشاركتهم في التخطيط والتنفيذ وأيضا مراقبة أدائهم ومحاسبتهم عليه.
وتأسيسا على هذه المبادئ العامة، من الممكن لنا صياغة بعض التوصيات الأكثر عملية بخصوص القانون الجديد للمحليات. فعلى الرغم من القصور في النص الدستوري فيما يتعلق بالنص بشكل محدد وواضح على صلاحيات الوحدات المحلية في الدستور الجديد، ووجود بعض المواد التي قد تفتح الباب أمام الارتداد على فكرة اللامركزية بأبعادها الثلاثة (السياسية والمالية والإدارية) والعودة مرة أخرى إلى التراث شديد المركزية المترسخ في ذهنية الدولة المصرية؛ إلا أنه من الممكن تلافي القصور الموجود في النص الدستوري من خلال صياغة قانون جيد للمحليات، يركز على:
- تحديد دقيق لصلاحيات المجالس المحلية ونطاق اختصاصاتها، وكذلك للأجهزة التنفيذية المحلية (المحافظين ورؤساء الأحياء والمدن وغيرها) في مقابل صلاحيات الحكومة المركزية، وبما لا يسمح لها بالارتداد على فكرة اللامركزية في الممارسة كما كان الحال في ظل النظام السابق.
- ضمان عدم تدخل الحكومة المركزية لحل المجالس المحلية المنتخبة، وضمان حلها فقط من خلال أحكام القضاء؛ تعزيزا لاستقلايتها أمام السلطة المركزية.
- تحديد شروط الترشح لانتخابات المجالس المحلية بما يضمن تحقيق المشاركة الفعالة والمتوازنة من كافة قطاعات المجتمع في هذه المجالس، مع إمكانية تبني إجراءات تفضيلية لتعزيز مشاركة القطاعات الأضعف في المجتمع، مثل النساء، والشباب، والأقليات، والفئات الفقيرة والمهمشة. فعلى سبيل المثال: تسمح معظم الدول الديمقراطية بالترشح لعضوية المجالس المحلية بدءا من سن 21 عاما، بل وفي الكثير من الديمقراطيات العريقة، التي بدأت تتبنى اتجاها بتخفيض هذا السن إلى 18 عاما. كما تخصص بعض الأحزاب السياسية أيضا في الدول الديمقراطية (سواء العريقة أو تلك التي ما زالت في مرحلة النمو) مراكز معينة للنساء على قوائمهم الانتخابية لعضوية المجالي المحلية؛ بمعنى أن يتم عمل قوائم انتخابية تبادلية بين الرجال والنساء (فيكون رأس القائمة رجل، وتليه إمرأة في المركز الثاني، ثم رجل في المركز الثالث، وإمرأة في الرابع.. وهكذا).
- خلق آليات جديدة من أجل دعم المشاركة المجتمعية (وهنا يمكن استلهام تجارب بعض الدول النامية المتميزة في هذا المجال، مثل التجربة البرازيلية في مجال التخطيط التشارك participatory planningوالموازنة التشاركيةparticipatory budgeting. كما يمكن أيضا الاستعانة بمنظمات المجتمع المدني وغيرها من آليات الرقابة الشعبية من أجل الحد من الفساد المنتشر في المحليات. كما يمكن أيضا خلق آليات من الرقابة المتبادلة بين مجلسي الشعب والشورى على أداء المحليات، ومن ناحية أخرى قيام المجالس الشعبية المحلية أيضا بالرقابة على أعضاء البرلمان المنتخبين عن كل من دوائرها، خاصة فيما يخص أدائهم في البرلمان المتعلق بالخدمات والمرافق العامة في الدوائر التي تم انتخابهم عنها. وهو ما يعزز مفهوم اللامركزية السياسية.
- أن ينص القانون على عدالة توزيع الموارد بشكل متوازن بين المحافظات والوحدات المحلية المختلفة، بمعنى أن يتم النص بشكل واضح على آلية لإعادة توزيع الموارد من المحافظات الأكثر غنى إلى المحافظات الأكثر فقرا، كأن يتم مثلا النص-كما هو الحال في الدنمارك مثلا ــ على أن تدفع المحافظات الأكثر غنى نسبة معينة من دخلها للمساهمة في تنمية المحافظات الأخرى الأكثر فقرا. وذلك تحقيقا لللامركزية المالية.
- أحد الأمور الأساسية التي يجب أن ينص عليها قانون جيد للحكم المحلي في مصر هو النص صراحة على انتخاب المحافظين ورؤساء المدن والأحياء والقرى، باعتبارها أكبر معزز لمفهوم اللامركزية في شفها السياسي؛ كما أنها تقضي على التكلس السائد على مستوى المؤسسات من ناحية التعامل مع المحليات باعتبارها كيانات كرتونية لا صلاحيات حقيقية لها.
[1]() د. سامي الطوخي، “اللامركزية المجتمعية: مدخل للتمكين والتنمية المحلية المستدامة”، في د. مصطفى كامل السيد (محرر)، الإدارة المحلية في مصر: الواقع وآفاق المستقبل، القاهرة، مؤسسة شركاء في التنمية.
[2]() وذلك من خلال القانون 22 لسنة 1809، الذي اعترف بالشخصية الاعتبارية لمجالس البلديات، ومنحها الحق في إدارة وتصريف أمورها بنفسها. لمزيد من التفاصيل، راجع: محمد رضا رجب، “نظام الإدارة المحلية في مصر: الواقع وآفاق المستقبل”،
[3])) جزء من المادة 161 من دستور 1971 لجمهورية مصر العربية، بعد تعديلات عام 2007
[4]() محمد رضا رجب،”نظام الإدارة المحلية في مصر: الواقع وآفاق المستقبل”، في د. مصطفى كامل السيد (محرر)، الإدارة المحلية في مصر: الواقع وآفاق المستقبل، القاهرة، مؤسسة شركاء في التنمية.
[5]() Tulia G. Falleti,” A Sequential Theory of Decentralization: Latin American Cases in Comparative Perspective”, in The American Political Science Review, Vol. 99, No. 3 (Aug., 2005), pp. 327-346, available on the link: http://www.jstor.org/stable/30038943 HYPERLINK “http://www.jstor.org/stable/30038943”
[7]() السابق
[8]() حبيبة محسن ورانيا زاده، المحليات في الدستور المصري، القاهرة، منتدى البدائل العربي للدرسات، متوفر على الرابط الإلكتروني التالي: http://www.afaegypt.org/index.php?option=com_k2&view=item&id =153: %D8%A 7%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8% A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA&Itemid=141 HYPERLINK “http://www.afaegypt.org/index.php?option=com_k2&view=item&id%20=153:%20%D8%25A%207%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%25%20A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA&Itemid=141”
[10])) للرجوع إلى المواد التفصيلية من الدستور المصري الجديد 2012، برجاء زيارة الرابط التالي:
http://egelections-2011.appspot.com/Referendum2012/dostor_masr_final.pdf HYPERLINK “http://egelections-2011.appspot.com/Referendum2012/dostor_masr_final.pdf”