نادين عبد الله
سوريا
“فليس الخبز بالرغم من ندرته، ولا انتهاك حقوق الإنسان، التي لم يبق إنسان ليتصف بها، ولا حتى تجبر الحاكمين وفسادهم منقطع النظير، هو الذي كان الصاعق وراء تفجير بركان انتفاضة الكرامة والحرية في هذا البلد العربي الجميل. ولكنه الإفراط في الإهانة والإذلال والاحتقار، أي سحق الإنسان الذي شكل جوهر السياسة، بل الفعل السياسي الأصيل الوحيد لنظام حكم سوريا خلال ما يقارب نصف قرن”
برهان غليون
مقدمة:
اندلعت الثورات في المنطقة العربية في تونس ثم مصر، ثم انطلقت إلي اليمن والبحرين وليبيا، مؤكدة بذلك نهاية ما سمي”بالاستثناء العربي” ومعلنة فجر جديد تكلله ديمقراطيات وليدة، ولم تكن سوريا -رغم نظامها شديد القمعية- استثناءً، حيث شهدت هي الأخرى احتجاجات واسعة عمت أنحاء البلاد. وفي هذه الورقة سنحاول سرد وتحليل هذه الاحتجاجات عبر أربع نقاط أسياسية، بحيث نقدم في الأولى منها النظام السياسي السوري والوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وفي الثانية تقدم عرضا تحليليا لتتابع هذه الاحتجاجات علي المستوى الزمني وكيفية انتشارها علي المستوى الجغرافي، وفي النقطة الثالثة، نقدم تحليل رد الفعل النظامي إزاءها، وأخيرا نعرض أهم التحديات التي تعترض الاحتجاجات وتنذر بإمكانية إجهاضها ووقف تطورها في اتجاه ثورة ديمقراطية.
أولاً: النظام السياسي والوضع السوسيو- اقتصادي في سوريا:
النظام السياسي السوري، هو نظام مركب على شاكلة أنظمة الحزب الواحد، تتركز فيه السلطات بيد الرئيس، و هذا يعني أن هذا النظام ينتمي إلى حقبة الستينات من القرن الفائت، حيث كان يُعتقد أن مثل هذه الأنظمة تكون أقدر على توحيد المواطنين، وتعبئة طاقاتهم، لتحقيق الأهداف المجتمعية، وعلى رأسها التنمية والوحدة وتحرير الأرض. وفي النظام السوري -الذي يميل نحو “الشمولية”- توجد مؤسسات رسمية رئيسية مثل مجلس الوزراء ومجلس الشعب وحزب البعث وأجهزة أمنية وفرق وقوات خاصة ضمن القوات المسلحة تمثل العصب الرئيسي للنظام، ويسيطر على مفاصلها أشخاص ينحدرون من الخلفية الدينية والإقليمية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد، ويتمتعون بنفوذ كبير على كافة مستويات النظام السياسي، بما في ذلك على المسئولين في المؤسسات الرسمية.[1] وقد انعكس كل ذلك علي المعارضة السياسية وطريقة بلورتها في مواجهة النظام البعثي، والتي تعتبر انعكاسا لأزمة الثمانينات، حيث تم مواجهه نجاح الأخوان المسلمين في النقابات المهنية بلغة شديدة القمع من قبل النظام، بحيث تم اعتقال جميعهم والحكم بالإعدام لكل من انتمى إليهم، حتى أن حكم الإعدام كان يتم بأثر رجعي.
و مما لاشك فيه أن هذا الوضع هو نتيجة طبيعية لمواصلة العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية الساريين منذ عام 1963، والتي الذي نتج عنها تعطيل واضح لأحكام الدستور والقوانين المدنية. وقد تجاوزت سلطات الطوارئ صلاحياتها الاستثنائية في توقيف الأفراد احتياطيا إلى اعتقال المواطنين وتعذيبهم حتى الموت في كثير من الأحيان، واعتقال أعداد هائلة من المواطنين في السجون لأكثر من ثلاثة عقود دون مبرر، واعتقال الأطفال والقاصرين والمسنين على حد سواء. وفي هذا الإطار، أوضحت اللجنة السورية لحقوق الإنسان في بيان أصدرته بمناسبة مرور 48 عاما على فرض حالة الطوارئ في سوريا أن “السلطات الحاكمة تعدت وضع قيود على حرية الاجتماع والتنقل والمرور، إلى تحويل البلاد طوال العقود الثلاثة الأخيرة إلى سجن كبير لا يمكن مغادرته إلى الخارج في ظل قوائم لا يمكن حصرها للممنوعين من السفر”. وذكرت أن حالة الطوارئ المفروضة على سوريا منذ نحو خمسة عقود، أوصلت المجتمع إلى حالة من التردي والفساد والاستبداد.[2]
وعلي الصعيد الاقتصادي، فقد شهدت سورية – كما أكد الخبير في الشيءون السورية سلامة كيلا – تحولات اقتصادية عميقة خلال السنوات الماضية كانت أسرع من كل السنوات التي بُدأ فيها بـ «الإصلاح الاقتصادي» سنة 1986، وهو الأمر الذي أدى إلى النتائج ذاتها التي حدثت في تونس ومصر، فقد توسع دور قطاع العقارات والسياحة والبنوك داخليا، وتوسع الاستيراد نتيجة تراجع حاد في الإنتاج المحلي، وكانت نتيجة ذلك تهميش قطاع واسع من الطبقات الشعبية، سواء نتيجة البطالة التى ربما تصل إلى 30% من القوى العاملة، أو الإفقار نتيجة انخفاض الدخل مقابل ارتفاع مذهل فى أسعار السلع التى باتت عالمية (أو حتى أكثر من ذلك نتيجة احتكار فئة حاكمة). كما تمركزت الثروة فى قلة محيطة بالسلطة باتت وافرة الثراء والبذخ، وتحتكر كل المشاريع التى تدرّ الربح، وتسيطر على كل «الاقتصاد الأسود». فقد أفرز النظام السياسي ازدواجية السلطة والثروة، خاصة مع تحول كثير من المسئولين وأقاربهم إلى عالم الأعمال، وتكوين نظام هو الأقرب إلى “المافيا”، فقد أصبح هؤلاء المسئولون أمثلةً عليا في نشر المحسوبية والفساد على كافة مستويات الدولة، والهيمنة على مجمل الاقتصاد، الذي بات اقتصادا ريعيا.[3]
وإذا لمسنا أثر «الانفتاح» الاقتصادي غير المنضبط، والذي من جهة انعكس بشكل غير مسبوق علي ارتفاع أسعار العقارات ، ومن جهة أخرى ظهرت آثاره علي التحكم الاحتكاري في الاستيراد، حيث أفضى رفع أسعار المازوت والبنزين خلال السنتين الماضيتين إلى انهيار واضح في الزراعة، فقد تقلص إنتاج القمح إلى أقل من 2.1 مليون طن وكان 4.7 ملايين[4]، بحيث تحوّلت سورية إلى دولة تستورد القمح بعد أن كانت تصدّر أجود أنواعه[5]. والواقع أن التصدي لهذه المشكلات بدا وكأنه مستحيلاً في ظل تفشي الفساد (تقدر تكلفة الفساد والهدر سنويا ما بين مائتي مليار و250 مليار ليرة سورية)، وغياب أي إرادة سياسية لمواجهته، لاسيما وأن قيمة التهرب الضريبي وصلت في 2007 إلى نحو مائتي مليار ليرة، أي ما يزيد على عجز الموازنة.[6] وفي هذا الإطار ينبغي الإشارة إلي أن منظمة الشفافية الدولية صنفت سوريا في تقريرها السنوي لعام 2010، في ترتيب متقدم بين أكثر دول العالم فسادا وتراجعا في الشفافية المالية والاقتصادية. واحتلت سوريا من حيث الشفافية المرتبة الـ127 عالميا من أصل 180 دولة، والمرتبة الـ15 عربيا في قائمة المنظمة لعام 2010. وعكس تقرير المنظمة الأخير انتشار الفساد على نطاق واسع في سوريا في أحشاء معظم -إن لم يكن كل- مؤسسات ودوائر الدولة من الجمارك والشرطة وقطاعات رخص البناء والتهرب الضريبي وصولا إلى سلك القضاء، وتحوله من مشكلة سطحية إلى وباء مزمن يهدد اقتصاد الدولة.[7]
ومما لاشك فيه أن كل ذلك انعكس علي أداء الدولة، حيث شهدت سوريا انهيار التعليم والقطاع الصحي، وانهيار «القطاع العام» بعد نهب طويل له. والأهم من ذلك هو انعكاس هذه الأوضاع على الوضع الاجتماعي في البلاد، فتقول دراسات الحكومة إن متوسط الدخل هو 11 ألف ليرة سورية شهريا، بينما وعلى ضوء دراسة الحاجات الأساسية للمواطن لا بد من أن تكون 31 ألف ليرة سورية، أي ثلاثة أضعاف الراتب الحالي (وتشير إلى أن الحد الأدنى في دمشق لا بد أن يكون 40 ألف ليرة). هذا الوضع وحده يفسّر تراكم الاحتقان لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وإحساسها بالعجز عن العيش، وهى الحالة المثالية لكل انفجار اجتماعي يفضي إلى الثورة.[8]
وربما قد يكون هذا هو دافعنا للانتقال سريعًا إلي النقطة الثانية لدراسة وتحليل ديناميكيات الاحتجاجات السورية.
ثانيًا: الاحتجاجات السورية: نذير ثورة في الأفق ؟
لم تكن الاحتجاجات السورية وليدة “الفراغ”، بل سبقتها محاولات للتغير من أهمها ما يسمى “بإعلان دمشق 2004” الذي ظهر في فترة شهدت تطورات إيجابية في سوريا (2001 – 2004 ) بعد تغيّر رأس النظام السياسي (حافظ الأسد). فقد أراد الابن في هذه الفترة تغيير صورته في الخارج و بالتالي، سمح بنوع من الحرية السياسية النسبية، فلم يتردد في السماح بقيام المنتديات السياسية، كما قامت جريدة الثورة الحكومية علي غير عادة بإعلان عفو الرئيس عن عدد من المعتقلين السياسيين، وسمح بتشكيل عدد من منظمات المجتمع المدني. ولذلك سميت تلك الفترة “بربيع دمشق”، والتي سرعان ما انتهيت بقرارات تعسفية وباعتقالات موسعة.
وقد حاولت المعارضة الاستفادة من هذا الهامش النسبي من الحريات التي أتاحت في هذه الفترة من أجل بلورة طريقة جديدة للعمل تقوم على بناء التحالفات السياسية الموسعة بين شتي القوى والأحزاب السياسية الموجودة، ومن هنا ولدت فكرة تأسيس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، والذي آمن بالتغيير الديمقراطي. وبالفعل تم الاتفاق علي الورقة ودار شخصان في كل سوريا لجمع التوقيعات اللازمة حتى لا تسرب امنيًا، خاصة في ضوء الضغوط والمراقبات الأمنية. وقد أيد الأخوان المسلمون هذا الإعلان.
وبعد إعلان “إعلان دمشق”، تم إعلان “إعلان دمشق- بيروت”، والذي كان يرمي إلي تحسين العلاقات السورية اللبنانية، خاصة بعد توترها بسبب مقتل الحريري. وقد تمكن مكتب الأمانة في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، في عقد المجلس الوطني الموسع للإعلان يوم السبت (1/12/2007) بحضور يقارب 163 شخصًا داخل سوريا، وتمكن من انتخاب مكتب المجلس (5 أعضاء) و انتخاب الأمانة العامة (مكونة من 17عضوا، وهي بمثابة سلطة تنفيذية)، وهو الأمر الذي اعتبر إنجازًا يذكر في ظل نظام قمعي كالنظام السوري.[9] وفي هذا السياق يمكن توجيه نقدين إلي إعلان دمشق :
- غياب الأوزان التفاوضية للقوى السياسية السورية، الأمر الذي جعل عملية التفاوض والحوار السياسي مسألة مرهقة ومعقدة.
- فقدان قيادة الإعلان لأية استراتيجية واضحة لخطة بديلة إذا ما فشلت في تحقيق أهدافها[10]، الأمر الذي نتج عنه اعتقال قيادات الإعلان وإجهاض محاولة التغيير التحالفية التي عبر عنها الإعلان، وبذلك يكون قد انتهى ربيع دمشق وماتت معه كل أمنيات التغيير السياسي منذ 2004، والتي لم يتم إحياؤها ثانيًا سوى في 2011 عبر الشباب السوري هذه المرة- وكما حدث في مصر وتونس- وليس من خلال الأحزاب السياسية، كما سنرى لاحقاٌ.
وقد تطورت الاحتجاجات في سوريا وفقًا لمرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى بدأت في بداية فبراير، وهي مرحلة الإرهاصات الاحتجاجية التي تمثلت بالأساس في احتجاجات تضامنية مع الثورة التونسية ثم المصرية ثم الليبية، والتي تم قمعها بشكل واضح، ثم تطور الأمر، وبدأ علي شفا انفجار حقيقي منذ منتصف مارس مع ظهور دعوات علي الفيسبوك تنادي بضرورة الخروج إلي الشارع والاحتجاج، ومنذ هذه اللحظة توسعت الاحتجاجات وانتشرت جغرافيًا، كما سنوضح في الجزء القادم من الدراسة.
- المرحلة الأولى: إرهاصات احتجاجية في ضوء أصداء إقليمية ثورية:
شهدت هذه المرحلة والتي بدأت في أوائل شهر فبراير 2011، الإرهاصات الأولى للاحتجاجات السورية، والتي تم التعبير عنها من خلال وقفات احتجاجية تضامنية مع الثورات التونسية والمصرية والليبية، والتي سنذكرها بشيء من التفصيل في هذه الجزئية. والحقيقة أن هذه الوقفات سبقتها دعوة في 14 يناير 2011، وبعد إطاحة الثورة التونسية – التي انطلقت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010- بالرئيس زين العابدين بن علي، دعوة من قبل جماعة الإخوان المسلمين المعارضة المحظورة في سوريا للنظام في دمشق إلى ما أسمته الاتعاظ بالتجربة التونسية والعودة إلى صف الشعب، وهددت فيها الجماعة بعد سقوط بن علي بيومين بالعصيان المدني للمطالبة بحقوق الشعب السوري. وقد سبقت هذه الدعوة دعوة أخرى في 15 فبراير 2011، دعا فيها المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا عصام العطار إلى ضرورة تحقيق ما وصفه “بالتغيير السلمي البصير” في البلاد، وجاءت هذه الدعوة في رسالة وجهها العطار إلى الرئيس السوري بشار الأسد.[11]
أما الوقفات التضامنية الاحتجاجية في سورية، فنسردها وفقًا لتسلسلها الزمني:
- 3 فبراير 2011: مع تصاعد الاحتجاجات في مصر المطالبة بتنحي الرئيس حسني مبارك نظم سوريون في دمشق اعتصاما “وصف بالخجول” تأييدا للثورة المصرية، ونظم الاعتصام الأول بالشموع أمام مقر السفارة المصرية، بينما نظم الثاني عند باب توما في دمشق القديمة.
- 5 فبراير 2011: بالتزامن مع هذه الوقفات التضامنية، أعلنت دعوة علنية علي موقع فيسبوك للاحتجاج على ما أسماه النشطاء تسلطا وفسادا، ليكون “أول أيام غضب الشعب السوري والعصيان المدني في كل المدن”، غير أن المخاوف من الرد الأمني حالت دون تلبية الدعوات[12]: ومع أن الموقع مَحجوب رسميًا في سوريا فقد استطاع العديد من الشباب التنسيق والاتفاق على بدأ المُظاهرات في 5 فبراير 2011، وقد بلغت أعداد المُشتركين في بعض هذه المَجموعات التنظيمية 2,000 شخص. وكان من المقرر أن تبدأ الاحتجاجات في 5 فبراير، باحتجاج كبير أمام مبنى مجلس الشعب في العاصمة السورية دمشق، بالإضافة إلى احتجاجات أخرى مُخطط لها في ساحة سعد الله الجابري في حلب (وهي أشهر ساحات المدينة) أثناء اليوم نفسه ابتداءً من الساعة السادسة إلى السابعة مساءً.
وبالرغم من هذا، فقد ظهرت في المُقابل حركات مُعارضة للمُظاهرات والمَسيرات الاحتجاجية، وبلغ عدد المُشتركين في بعض هذه المَجموعات المُعارضة على شبكة الفيسبوك الاجتماعية حوالي 2,500 شخص.
- 22 و23 فبراير 2011: اعتصم عشرات السوريين أمام السفارة الليبية بدمشق يومي 22 و23 فبراير/شباط تضامنا مع ضحايا المجزرة التي تنفذها القوات الليبية ضد المحتجين في طرابلس وبنغازي والعديد من المناطق الأخرى. [13]
وبانتهاء هذه الوقفة تكون قد انتهت مرحلة الاحتجاجات التضامنية السورية، وبدأت مرحلة الاحتجاجات المفعلة علي الأرض بعد أن تعرضت هذه الاحتجاجات التضامنية لقمع شرس من جانب النظام السياسي السوري.
- المرحلة الثانية: احتجاجات موسعة ونذير ثورة:
في كل الثورات التي شهدناها في الفترة الأخيرة في الوطن العربي، كنا دائمًا نشهد سببا مباشرا يكون هو مفجر الاحتجاج أو الثورة إذا ما تطور هذا الاحتجاج واتسع جغرافيًا وكميا- وهو الأمر المتعارف عليه في جميع الثورات. فإذا كان سبب تفجر الثورة في تونس هو احتراق بوعزيزي وفي مصر الانتخابات التشريعية المزورة بفجاجة، فإن سببين رئيسين فجرا الاحتجاجات السورية:
- في 17 فبراير 2011: انهال رجال من الشرطة بالضرب على الأخوين عماد وعلاء نسب، وهما ابنا مالك أحد المحلات في منطقة الحريقة في دمشق. أثارت هذه الحادثة سخط الناس في المكان الذين تجمعوا على الفور وخرجوا بمظاهرة لم يكن مخططًا لها من قبل، حيث قـُدّر عدد المتظاهرين بـ 4000 شخص رددوا خلالها: “الشعب السوري ما بينذل”. أدت هذه المظاهرة إلى مجيء وزير الداخلية السوري سعيد سمور الذي تحاور مع المحتجين وسألهم عن مطالبهم، ثم وعد بإجراء تحقيق بشأن ما حدث للشابين، وانفضت المظاهرة بعد 4 ساعات من ذلك. ولم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط شرارة الانتفاضة بهذه المعاملة المهينة التي اعتاد عليها أبناء النظام، فقد تحولت الإهانة المعممة من قبل أجهزة الأمن السورية إلى تقنية سلطوية هدفها بناء العلاقة بين أصحاب السلطة وأبناء الشعب كعلاقة سيد بعبد، مهما كان وضع الفرد ومكانته الاجتماعية والعلمية، [14] وهذا يعني أن التمرد علي هذه العلاقة المهينة هو بداية إعلان التمرد علي نظام سلطوي بني علاقته بمواطنيه بناءً علي هذا النمط “العلاقاتي” إن جاز التعبير.
- في 6 مارس 2011: اعتقال السلطات السورية عددا من الفتية (أقل من 15 عاما) في 6 مارس 2011 في مدينة درعا جنوبي سوريا وتعذيبهم بسبب كتابتهم شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” على عدد من الجدران في المدينة، كان هو السبب المباشر لاندلاع الاحتجاجات السورية. وبعد أيام على اعتقالهم ذهب الأهالي الضابط في الأمن السياسي وطالبوه بالإفراج عن أبنائهم، لكنه هددهم باعتقالهم واعتقال نسائهم. [15]
ومنذ هذه اللحظة يمكن أن نقول إن الاحتجاجات السورية أخذت طريقها في التبلور، بحيث أصبحت درعا ودمشق أهم مناطق اندلاعها. وقد كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس بسبب الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري الكثيف والدائم، فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كل سوري بالعجز والغلبة على الأمر وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام جبار، ورجال أمن وحكم عتاة، وهو الأمر الذي دفع برهان غليون إلي التأكيد: “هؤلاء الذين خرجوا في الأيام الأولى من الانتفاضة، وكانوا بالمئات فقط، خرجوا كشهداء، ولم يخرجوا كمتظاهرين”.[16]
وقد بدا التأثر بالثورة المصرية واضحًا في طريقة الدعوة للاحتجاج وأيضا في طريقة الحشد، حيث بدأت الدعوة في 15 مارس للاحتجاجات من خلال شباب علي موقع “فيسبوك” كما حدث في مصر، ويشير سلامة كيلا إلي أن هؤلاء الشباب غير مسيسين ولكنهم اطلعوا علي نمط جديد ومختلف للحياة من خلال الفضائيات وشبكة الإنترنت، وهو الأمر الذي دفعهم للاحتجاج علي الظلم والفساد الذي يعيشون في ظله تحت حكم عائلة الأسد.[17] وكما حدث في مصر، كان هناك أيام للحشد سميت بأسماء تشبه الأسماء المصرية ابتدء من جمعة الحشد في 18 مارس ثم جمعة الكرامة في 25 مارس ثم جمعة الشهداء في 1 أبريل، وفي أغلب الأحيان كان مكان انطلاق التظاهرات هو الجامع، حيث ينطلق المتظاهرون بعد صلاة الجمعة.
ويمكن تقسيم الاحتجاجات السورية لأربع “محطات أساسية” وفقًا لأيام الحشد الرئيسية التي تم تحديدها من قبل المحتجين في سوريا كما يلي:
المحطة الأولى: جمعة الغضب في 18 مارس 2011
بدأت الاحتجاجات السورية في 15 مارس 2011 من خلال دعوة على موقع فيسبوك أطلقها عدد من الشباب السوري تحت اسم مجموعة “الثورة السورية 2011″، وتلبية لهذه الدعوة تحرك المتظاهرون بعد صلاة الظهر من المسجد الأموي في دمشق وساروا إلى الشوارع الفرعية. ولم تلجأ قوات الأمن إلى العنف ضد المتظاهرين إلا أنها اعتقلت ستة منهم. ورفع المتظاهرون شعارات تنادي بالتغيير والحرية: “وينك يا سوري وينك” (أين أنت يا سوري) و”سلمية” و”الله سوريا وحرية وبس”. كما نجح عشرات الشبان في التظاهر في سوقي الحميدية والحريقة.[18]
ويوم الجمعة 18 مارس، بدأت الحركة الاحتجاجية في التوسع حيث انطلقت عدد من المظاهرات الاحتجاجية : الأولى من دمشق من المسجد الأموي، والثانية في حمص، والثالثة في بانياس والرابعة في درعا من المسجد العمري التي قـُتل فيها 4 مواطنين برصاص قوات الأمن وأصيب العشرات بجراح، حيث كان رد الفعل الأمني شديد عنف خاصة في ضوء وجود رجال أمن يرتدون زيا مدني في وسط المتظاهرين تولوا تفريقهم بالقوة.
في 20 مارس 2011: انطلقت مظاهرات حاشدة للرد علي وصول الوفد الحكومي لتقديم العزاء في القتلى الأربعة الذين سقطوا برصاص قوات الأمن في مظاهرات الجمعة في درعا. وسعت الحكومة السورية إلى تهدئة حالة السخط الشعبي بالإعلان عن عزمها على الإفراج بصورة فورية عن الخمسة عشر طفلا الذين كانت السلطات قد اعتقلتهم في درعا بعد أن كتبوا على الجدران شعارات تطالب بالحرية.
في 22 مارس 2011: تظاهر نحو ألف شخص في ساحة المسجد العمري في درعا الذي أصبح مركزا رئيسيا للمظاهرات ورددوا هتافات تندد بالنظام السوري وشكل المتظهرون طوقا بشريا لمنع دخول قوات الأمن وسط تواجد كبير لقوات الجيش. كما انطلق الآلاف في نوى في مسيرة تضامنية لما أصاب المحتجين في درعا أثناء الاشتباكات مع قوات الأمن[19].
المحطة الثانية: جمعة الكرامة في 25 مارس 2011:
أعلن الشباب عن ضرورة استكمال التظاهر، فيما سمي “جمعة الكرامة” في 25 مار 2011 عبر صفحة فيسبوك، والتي صل عدد موقعيها حتى صباح الجمعة أكثر من 50,000 شخص. ودعت الصفحة السوريين إلى التظاهر بعد صلاة الجمعة والمطالبة بـ “الحقوق الإنسانية” وبـ “الثورة حتى الحرية”.
وقد خرجت المظاهرات من ساحات الجوامع في دمشق ودرعا واللازقية، وواجها الأمن بشراسة واضحة لاسيما في درعا التي شهدت اعنف المواجهات. ففي دمشق: انطلقت المظاهرات بعد صلاة الجمعة من ساحة المسجد الأموي. في درعا انطلقت المظاهرات من ساحة الجامع العمري. وردد المحتشدون الشعارات المطالبة بالحرية مثل “حرية.. حرية” و”يا بثينة يا شعبان شعب درعا مش جوعان”، في إشارة إلى تصريحات مستشارة الرئيس السوري في اليوم السابق بشأن زيادة الرواتب ووعود بالإصلاح. في اللاذقية، خرج مئات المتظاهرين المطالبين بالحرية والإصلاح، وعندما حاولوا إحراق مقر حزب البعث أطلقت قوات الأمن الرصاص عليهم مما أدى لمقتل 3 وإصابة العشرات.
وقد دفع هذا الأتساع الذي شهدته الاحتجاجات المجموعة الدولية للأزمات لقراءة الوضع كالتالي: “سوريا تواجه ما سيصبح سريعا لحظة حاسمة لقيادتها حيث لا يوجد سوى خيارين، أحدهما يتضمن مبادرة فورية ومحفوفة بالمخاطر بشكل حتمي ربما تقنع الشعب السوري بأن النظام مستعد للقيام بتغيير كبير، والآخر ينطوي على قمع متصاعد يتضمن كل الفرص لأن يؤدي إلى نهاية دامية ومخزية”.
وفي الفترة من 27 مارس وحتى 30 مارس 2011، اشتدت المواجهات بين الأمن السوري والمحتجين خاصة في درعا حيث أطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لتفريق مئات المحتجين الذين نظموا اعتصاما، لاسيما وإن بعض الشبان تسلقوا حطام تمثال للرئيس السابق حافظ الأسد أسقطه المحتجون الجمعة ورفعوا لافتة تقول “الشعب يريد إسقاط النظام”. أما في مدينة اللاذقية، فقد انتشرت وحدات من الجيش السوري بعد إحراق مقرين لحزب البعث الحاكم في المدينة.وفي 30 مارس 2011، وعقب كلمة الرئيس السوري – التي سنشير إليها لاحقا- تظاهر مئات الأشخاص في المدينة اللاذقية مرددين هتافات تطالب بالحرية. [20]
المحطة الثالثة: جمعة الشهداء 1 أبريل 2011:
اندلعت للمرة الثالثة المظاهرات عقب صلاة الجمعة بعد دعوات علي موقع” فيسبوك” في أسموه “جمعة الشهداء”، حيث اندلعت المظاهرات في العاصمة دمشق، واللاذقية وبانياس، وقد استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي لتفريق متظاهرين في بلدة دوما القريبة من دمشق، وتضاربت الأنباء عن عدد القتلى هناك. كما خرج آلاف المتظاهرين من مدينة درعا وهم يرددون هتافات تطالب بالحرية وتؤكد أن دماء الشهداء ليست رخيصة. وفي 2 أبريل 2011: قرر المتظاهرون السوريون بمدينتي بانياس واللاذقية الاعتصام ليلا للمطالبة بالإصلاحات السياسية. [21]
المحطة الرابعة: جمعة الصمود في 8 أبريل 2011:
تجددت المظاهرات عقب صلاة الجمعة بعد دعوات علي موقع” فيسبوك” في أسموه” جمعة الصمود”، واتسعت هذه التظاهرات جغرافيًا بشكل واضح حيث شملت عددا من المدن : حمص ودرعا وداريا ودوما والمعضمية ومنطقة الصليبة في اللاذقية وبانياس ودير الزور[22]. والجديد في هذه المرحلة هو انتقال التظاهرات في المدن ذات الأغلبية الكردية كالقامشلي والدرباسية وعامودا بشمالي شرقي سوريا، حيث خرج في عامودا حوالي 3000 شخص يرفعون العلم السوري، وفي مدينة القامشلي خرج 10 آلاف شخص إلى الشوارع، وردد المتظاهرون شعارات أبرزها أن الحركة الكردية هي الممثل الشرعي للشعب الكردي، وأن العشائر لا تمثل الشعب الكردي، وهتافات تدحض الطائفية “الحرية، الشعب السوري واحد، الشهيد لا يموت”[23]. ورغم تأكيد المتظاهرين علي أنها تظاهرتهم سلمية، قوبلت هذه التظاهرات بقمع شرس من القوات الأمنية حيث أكدت مصادر مقتل 30 مدنيا في تظاهرات درعا فقط[24]. وجدير بالذكر أن هذه التظاهرات اندلعت – وللمرة الأولى منذ بداية الاحتجاجات- بعد إعلان درعا الإضراب العام في يوم الثلاثاء 5 أبريل حيث تم توزيع ومنشورات تحض سكان المدينة علي الإضراب[25]، ويعتبر هذا تطورا جديدا لم تشهده الاحتجاجات منذ اندلاعها.
في 10 أبريل 2011: شهدت مدينة درعا انتشارًا مكثفًا لقوات الأمن السورية، وانتشار الدبابات السورية ليلاً في بانياس بهدف منع تفجر المزيد من الاحتجاجات. وفي 11 أبريل 2011، أطلقت قوات الأمن النار عشوائيا ولساعات على حي رأس النبع السكني حيث مسجد الرحمن الذي كان بؤرة احتجاجات ضد النظام، فقُتِل أربعة وجرح 17. وقد شهدت مدينتا درعا وبانياس أحداثا ومواجهات دامية بين المحتجين وقوات الأمن، وقد مهدت هذه الأحداث الدامية إلي الدعوة في 12 أبريل 2011 لما عرف باسم “ثلاثاء الوفاء” بحيث ذكر نص الدعوة الذي نشر على صفحة الفيسبوك : “سنخرج وفاء لكل الشهداء والمعتقلين ووفاء لمطالبنا السلمية التي انطلقت منذ اليوم الأول للثورة، سنخرج بعد السادسة مساء في كل المناطق والمحافظات السورية لنقول إننا مستمرون ولا مجال للعودة للوراء”. وأضافت الدعوة “سنعلن وفاءنا لدرعا وبانياس ودوما والمعضمية واللاذقية وكل المدن السورية اليوم سنقول دم الشهداء ما بيروح هباء”. وقد كان هذه الاحتجاجات التي خرجت من إعلان الوفاء للدماء الشهداء بمثابة الشاحن والدافع اندلاع مظاهرات أكثر قوة وجرأة في يوم جمعة الصمود في 15 أبريل.[26]
المحطة الخامسة: جمعة الصمود (أيضا) في 15 أبريل 2011:
شهدت عدة مدن وقرى سورية مظاهرات حاشدة عقب صلاة الجمعة شارك فيها الآلاف مرددين شعارات تطالب بالديمقراطية وبالحرية إثر دعوات “فيسبوكية” دعت لهذه الاحتجاجات. ففي دمشق، هتف المئات بالحرية أمام مسجد السلام في حي برزة، وشارك آلاف في مظاهرات في مدينة درعا ، كما خرجت مظاهرة حاشدة في مدينة دير الزور. وذكرت مواقع ناشطين سوريين على شبكة الإنترنت أن حمص وأدلب واللاذقية وطرطوس وجبلة والقامشلي وحماة والكسوة شهدت أيضًا مظاهرات كبيرة.
في 18 أبريل 2011، وفي أول مرة منذ اندلاع الاحتجاجات السورية، بدأ الآلاف من السوريين اعتصاما بمدينة حمص للمطالبة بإسقاط النظام عقب تشييع جنازة القتلى. وشيع الآلاف جنازة ثمانية محتجين قتلتهم قوات الأمن بالرصاص أثناء الليل، وردد المشيعون “زنقة زنقة دار دار هنطيح بك يا بشار”. وأطلقت قوات الأمن النار على المتظاهرين وأصابت عددا منهم، ورفضت المستشفيات استقبالهم بأوامر من الأمن.
وفي 21 أبريل 2011، ورغم صدور مرسوم بإنهاء العمل علي قانون الطوارئ، انطلقت مظاهرات عدة في كثير من المدن السورية، كما واصل الآلاف من المعتصمين اعتصامهم فيما باتت تعرف بساحة الكرامة في درعا، حيث رددوا شعارات تطالب بإسقاط النظام.[27]
المحطة السادسة: الجمعة العظيمة في 22 أبريل 2011:
عمت المظاهرات المدن السورية يوم الجمعة إثر دعوات علي فيسبوك بالتظاهر والاحتجاج بعد صلاة الجمعة، وقد شهدت هذا اليوم أوسع احتجاجات منذ اندلاع الاحتجاجات السورية من حيث الكم والانتشار الجغرافي، حيث شارك فيها عشرات الآلاف، شملت كلا من درعا ودمشق وحمص وبانياس والقامشلي والسلمية والكسوة، حيث رفعت لافتات تطلب إسقاط النظام. وقد كانت “الجمعة العظيمة” عظيمة في كل المسارات التي عززت وحدة الشعب واصطفافه بكل فئاته وخاصة العلاقة الإسلامية المسيحية واشتعال كل نواحي القطر بهتافات الانتفاضة والوحدة والحرية، وهو الأمر الذي أكدت تآكل – إن لم يكن إنهاء- سلاح الطائفية الذي لجأ إليه النظام لبث الفرقة بين المتظاهرين. وقد شهد هذا اليوم مواجهات دامية مع القوات الأمنية أسفرت عن مقتل ما يقرب من 49 وفقدان ما يقرب من 20 شخصا.
وقد دشن هذا اليوم مرحلة جديدة في تاريخ الاحتجاجات السورية، ليس فقط بسبب اتساع الحركة ولكن أيضًا بسبب اتساع القمع الأمني والنظامي لها بطريقة غير مسبوقة منذ بداية الاحتجاجات.
في 24 أبريل 2011، شهدنا تطورين جديدين يعتبران دليلا علي أن النظام بإفراطه في استخدام القمع بدأ يفقد جزء- ولو قليلا- من القواعد التي كانت مؤيدة له بشكل طبيعي:
- انضمام مدينة جبلة الساحلية إلى الاحتجاجات ، والتي تتشكل من أغلبية علوية، تلك التي ينتمي إليها بشار الأسد ، رغم أن هذه الطائفة ظلت بشكل عام بعيدة عن الاحتجاجات المطالبة بالحرية السياسية وإنهاء الفساد، وذلك إثر دخول موالين للرئيس بشار الأسد (البلطجية أوالشبيحة) هذه المدينة وإطلاق الرصاص على معزين يشاركون في تشييع جنازات بعض من قتلوا في احتجاجات سابقة، وكانت النتيجة قتل 13 مدنيًا.
- وفي نفس السياق، وإزاء التطورات الدامية وإطلاق الرصاص على المحتجين، تواصلت عملية استقالة مسئولين محليين في محافظة درعا ، حيث أعلن بسام الزامل عضو مجلس محافظة درعا استقالته احتجاجا على طريقة تعامل الأمن مع المتظاهرين مشيرا إلى أن أهالي درعا ثاروا بسبب ظلم الأجهزة الأمنية، قائلا “إذا كان هناك مندسون في درعا، فمحافظة درعا كلها مندسون وأنا من المندسين”. وينضم الزامل بذلك إلى زميله في مجلس المحافظة يمان مقداد الذي استقال هو الآخر. وأعلن أيضًا عضو مجلس درعا بشير محمد الزعبي انسحابه من عضوية مجلس المحافظة ومن حزب البعث العربي. كما أعلن فيصل الهيمد نائب رئيس غرفة تجارة درعا استقالته وانضمامه إلى المحتجين،. واستقال للسبب نفسه النائبان ناصر الحريري وخليل الرفاعي عضوا مجلس الشعب السوري عن درعا، ومفتي محافظة درعا الشيخ رزق عبد الرحيم أبا زيد. والحقيقة هي إنه حتى بضعة أسابيع خلت، كان شبهَ مستحيل أن يقدم مسئولون سوريون استقالتهم احتجاجا.
من 25- 28 أبريل 2011: لأول مرة نشهد دخول الجيش بكل ثقله ضد المواطنين وتنفيذه عمليات عسكرية موسعة ضدهم، صحيح إنه كان موجودا منذ بداية الاحتجاجات ولكنه لم يستخدم هذا الكم من العنف وبهذا الوضوح إلا بعد احتجاجات “الجمعة العظيمة”. والحقيقة أن تفجر الوضع في درعا نَزع النظام إلى استعادة أبشع تراثه القمعي الذي نُفّذ في حماة ليتقدم به إلى درعا التي شكّلت تاريخا أسطوريا لها ولكل إقليم حوران قادت به مسيرة الحرية السورية. فقد دخلت آلاف من قوات الأمن السورية مدعومة بدبابات وعربات مصفحة للجيش واقتحمت المدينة، وقد قامت هذه القوات بقصف كل أنحاء المدينة وتنفذ مداهمات للمنازل لمدة 3 أيام متواصلة، في ظل قطع لخدمات الهاتف والكهرباء. وأكدت بعض المصادر أن الكثير من هذه القوات تابع لفرقة في الجيش يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، ولم تكتف بذلك بل قامت بمحاصرتها بشكل كامل ومنعت وصول أي مساعدات إنسانية إليها، بل وقامت قوات الجيش بتهشيم خزانات المياه حتى باتت درعا سجنا كبيرًا لكل من يقطنها. وقد انطلقت المظاهرات التضامنية مع أهالي درعا في معظم أنحاء البلاد خاصة في بانياس.[28]
ولكن لماذا يعزز النظام حصاره للمؤن والمياه على بلدات درعا رغم أنه يوجد في شوارعها، وخاصة قصفه خزانات المياه؟
من الواضح أن النظام لا يتصرف فقط بتخبط شديد ولكنه أيضًا يسابق الوقت لأنه قلق للغاية من أي فترة زمنية تحتاجها هذه المجزرة فتتمدد قبل أن يصل إلى نقطة الصفر الشاملة، وهي تصفية الانتفاضة عبر القمع الدموي من خلال سحق شامل لأي حراك مدني في إقليم حوران، منطلق الانتفاضة السورية. فالنظام يصارع البرنامج الزمني للصمود بحيث يُنفذ برنامجه قبل أي قدرة لاستعادة الانتفاضة برنامجها الاحتجاجي وانطلاق مدن القطر السوري والتي بدأت بالفعل ليلة تنفيذ المجزرة في حمص وفي درعا وغيرهما وتزحف لأكثر من منطقة، وهو ما يخيف النظام، هذا بالإضافة إلي أن النظام ومن خلال سحبه فرقا عسكرية من المواجهة مع إسرائيل عبر تفاهم مؤكد لا يمكن أن يُنفذ دون تفاهم بين الطرفين، فلذلك هو حريص وقلق أمام تل أبيب والمجتمع الغربي، على أن تصفية الانتفاضة ستتم بأقصر فترة زمنية ليقدم نفسه من جديد كقوة إقليمية ضمنت استقرار الحدود والرقم الصعب المطمئن للغرب بتركيبته القائمة في دمشق.[29]
ويبدو أن جزءً من مشكلة النظام هو عدم إدراكه أن ما تشهده سورية ليس “حماة”، بمعنى أن الظروف الدولية والإقليمية الحالية، وسياق وعناصر وتوجهات وحجم ومطالب الثورة السورية اليوم، تختلف كلية عن تلك التي واجهها النظام السوري في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، فما يحتاجه النظام اليوم ليس قمع درعا وحسب، بل ربما قمع كل المدن السورية الثائرة، قبل أن يتمكن من الاطمئنان إلى العودة بسورية إلى ما كانت عليه، لكن مثل هذا الخيار بات مستحيلاً.[30]
المحطة السابعة: جمعة التحدي في 6 مايو 2011:
دعا نشطاء سوريون إلى مظاهرات هذا اليوم في كافة المدن السورية في “جمعة التحدي”، بهدف تحدي حصار الجيش و حملات الاعتقال الشرسة التي قام بشنها، والتي كان آخرها توقيف أكثر من 300 شخص في مدينة سقبا بريف دمشق.. وقال الناشطون: “إننا مستمرون في ثورتنا وفي مظاهراتنا السلمية في كافة أرجاء سوريا حتى تحقيق مطالبنا بالحرية”. وصادفت هذه المظاهرات في 6 مايو/أيار ذكرى الاحتفال بعيد الشهداء في سوريا، وكان لافتا مشاركة النساء والأطفال في هذه المظاهرات رغم حملات الجيش العنيفة.
ثالثًا: النظام السياسي السوري: بين المقاومة الشرسة وتقديم التنازلات الصورية
بدا النظام السوري – إثر دعوات الإخوان المسلمين المهددة باندلاع ثورة في سورية علي غرار تونس ومصر- واثقًا من نفسه غير عابئ بالتهديدات، حيث أعلن بشار الأسد في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية في 31 يناير 2011 إن سوريا في وضع أفضل من مصر، لأنها لا تقيم علاقات مع إسرائيل !! كما استبعد أيضًا تبني إصلاحات سريعة وجذرية، معللا ذلك بحاجة بلاده إلى “بناء المؤسسات” وتحسين التعليم قبل انفتاح النظام السياسي، وحذر من أن المطالب بالإصلاحات السياسية السريعة قد يكون لها ردة فعل سلبية “في حال لم تكن المجتمعات العربية جاهزة لها”.
والواقع أنه وفقًا للتطور الزمني والجغرافي للاحتجاجات السورية، تطور رد الفعل النظام السوري بعد ذلك، ولكنه ظل رغم كل شيء ممسكا بزمام الأمور، وتنوع رد الفعل ما بين تقديم التنازلات الشكلية، والعمل علي تقييد الاحتجاجات، ومن أجل تحقيق هذا الهدف الأخير لجأ إلي الأساليب الآتية:
- القبضة الأمنية والقمع الشرس: لجميع التظاهرات التي نشبت منذ 15 مارس وحتى اللحظة الراهنة- وهو الأمر الذي استفضنا في عرضه سابقًا- ، فإطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين وقتل العشرات منهم كانت استراتيجية واضحة للنظام نابعة من اعتقاده بأنه لابد من سحق أي احتجاج فور وقوعه، وهو الأمر الذي ثبت فشله، لأن القمع الزائد يولد سخطا وغضبا ويثير الاحتجاج أكثر.
- حشد الآلاف من المتظاهرين للتظاهر باسمه: وهو الأمر الذي وصل إلي ذروته في 29 مارس -ويعد اندلاع تظاهرات جمعة الكرامة في 25 مارس- حيث وجه التلفزيون السوري دعوات إلى المواطنين في جميع المدن السورية للمشاركة في مسيرات مؤيدة للرئيس ولاستقرار البلاد. وإن دل ذلك علي شيء فهو يدل علي أن حاجز الخوف لم يكسر بعد عند عدد لا بأس به – قد يكون الأغلبية- من مواطني سورية، فكما كما يؤكد سلامة كيلا، حشد الآلاف من المتظاهرين هو أمر متعارف عليه في ظل نظام بشار حيث ينزل المتظاهرين بالأمر المباشر ومن يخالف هذا الأمر يعاقب.[31]
- استخدام الورقة الطائفية: فقد سعي النظام إلي الاستعانة “بالشبيحة” أو” البلطجية” للاعتداء إلي حد القتل أبناء الشيعة في المناطق المحتجة ذات الأغلبية السنية كمدينة درعا، بهدف تشويه الاحتجاجات ووصمها بالطائفية، كما سعي إلى تصوير الاحتجاجات علي أساس أنها احتجاجات للإخوان المسلمين أو السلفيين بهدف نزع شرعيتها وتحويلها إلى فزاعة علي غرار استراتيجية النظام المصري حيالها.
أما فيما يتعلق بالتنازلات الشكلية التي قدمها إزاء تفجر هذه الاحتجاجات، فنسردها بشكل أكثر تفصيلاً في هذه الجزئية وفقًا لـــ 6 مراحل أساسية:
المرحلة الأولى: 7 مارس : إثر الوقفات الاحتجاجية التضامنية التي تمت، قام الرئيس بشار الأسد بإصدار بعض التنازلات الشكلية- كي لا نقول الوهمية- بغرض التهدئة، والمتمثلة في العفو عن السجناء المتهمين باقتراف جنح وجرائم بسيطة وذلك قبل يوم من الذكرى السنوية لاستلام حزب البعث السلطة في سوريا بانقلاب في 8 مارس 1963.
المرحلة الثانية: 24 مارس: إثر جمعة الغضب في 18 مارس، والتي انطلقت من درعا حاول الرئيس تهدئة روع المحتجين من خلال إعفاء محافظ درعا فيصل كلثوم من مهامه، هذا رغم أن المدينة- كما أشرنا آنفًا- شهدت إطلاق الرصاص الحي لمواجهة المواطنين، لاسيما الذين كانوا يحتمون في الجامع العمري بمدينة درعا، أثناء توجههم لتشييع جثامين ستة من المعتصمين، أخذت “الجثث تتساقط في الشوارع”
المرحلة الثالثة: 25 مارس: قبل اندلاع تظاهرات “جمعة الكرامة”، أصدر الرئيس السوري في 25 مارس مراسيم تقضي بتحسين الوضع المعيشي، تضمنت زيادة الرواتب والأجور، وذلك بهدف إجهاض تظاهرات هذا اليوم، وقد حدد المرسوم الرئاسي زيادة بقيمة 1500 ليرة سورية (30 دولارا) للراتب المقطوع، يضاف إليها زيادة قدرها 30% من الرواتب والأجور المقطوعة دون عشرة آلاف ليرة (200 دولار) شهريا، وزيادة بنسبة 20% من الراتب الشهري المقطوع البالغ عشرة آلاف ليرة، كما نص المرسوم على تعديل معدل الضريبة على الرواتب والأجور ورفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة من الدخل الصافي إلى عشرة آلاف ليرة.[32]
وفي 29 مارس 2011، وبعد اندلاع التظاهرات في جمعة الكرامة رغم محاولات النظام إجهاضها، قدمت حكومة رئيس الوزراء محمد ناجي عطري استقالتها وقبلها الرئيس وكلفها بإدارة البلاد لحين تشكيل حكومة جديدة.
وفي 30 مارس 2011، ألقى الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب أمام البرلمان السوري- وهي أول كلمة علنية له منذ اندلاع الاحتجاجات في سوريا– وتجنب فيها الرئيس السوري تقديم تنازلات لمعارضيه، حيث أشار في خطابه أن سوريا هدفٌ لمؤامرة لإحداث صراع طائفي، معتبرا أن بعض السوريين الذين تظاهروا ضد حكمه لهم مطالب مشروعة لكنهم تعرضوا لخداع من قلة متآمرة. واعترف بأن الإصلاح تأخر، لكن سوريا ستبدأ الآن، موضحا “نريد أن نسرع ولا نتسرع” والتحدي هو نوع الإصلاح الذي نريد الوصول إليه. وأنهى كلمته دون الإعلان عن نهاية العمل بقانون الطوارئ.
والواقع أن أهمية خطاب الأسد لا تكمن فيما تضمنه، أي محاولته حشد التأييد له على قاعدة العداء لإسرائيل، وإنما تكمن فيما لم يتضمنه، إذ على عكس الزعماء العرب الآخرين، رفض الأسد تقديم أية تنازلات أو تعهدات غامضة بالتغيير أو بالإصلاح. [33]
وفي 31 مارس 2011، كلف الرئيس السوري رئيس المجلس القضائي بتشكيل لجنة تحقيق فوري في مقتل مدنيين وأفراد من الأمن في محافظتي درعا واللاذقية، كما أصدر الأسد قرارا بتشكيل لجنة ثالثة لبحث مشكلة إحصاء السكان العام 1962 والذي أدى لحرمان الكثير من الأكراد شرقي سورية من الحصول على الجنسية، كما أُعلن في دمشق تشكيل عدد من اللجان مهمتها البحث في إمكان إلغاء قانون الطوارئ المعمول به في الدولة، لكن هذه الخطوة ليست ذات أهمية لأن تغيير هذا القانون أو ذاك لن يغير الصورة ويمنح الحرية لسكان هذه الدولة.
المرحلة الرابعة: 3 أبريل: إثر احتجاجات “جمعة الشهداء” في 1 أبريل 2011، كلف الرئيس السوري في 3 أبريل 2011، وزير الزراعة السابق عادل سفر بتشكيل الحكومة الجديدة خلفا لحكومة محمد ناجي عطري التي كانت قد قدمت استقالتها كما أشرنا سابقًا.
المرحلة الخامسة: 14 أبريل: قبل احتجاجات “جمعة الصمود” في 15 أبريل، أصدر الرئيس السوري قرارا بإطلاق سراح جميع المعتقلين الذين ألقي القبض عليهم على خلفية المظاهرات المطالبة بالحرية التي عمت سوريا ( و لكن استثنى الأسد من وصفهم بالذين ارتكبوا جرائم) ، كما أصدر الرئيس مرسوما بتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عادل سفر، وبينما احتفظ وزير الخارجية وليد المعلم بحقيبته، تولى مسئول المخابرات إبراهيم الشعار وزارة الداخلية، ورئيس سوق دمشق للأوراق المالية محمد الجليلاتي وزارة المالية.
المرحلة السادسة: 21 أبريل: قبل احتجاجات “الجمعة العظيمة” التي أعلن عن اندلاعها الجمعة 22 أبريل، ومما لاشك فيه، بهدف إخمادها، صادق الرئيس بشار الأسد في 21 أبريل 2011 على مرسوم إنهاء حالة الطوارئ. كما أصدر المرسوم التشريعي رقم 53 القاضي بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا والمرسوم التشريعي رقم 54 القاضي بتنظيم حق التظاهر السلمي للمواطنين، بوصفه حقًا من حقوق الإنسان الأساسية التي كفلها الدستور السوري، كما أصدر الرئيس بشار الأسد مرسوما بتعيين غسان مصطفى عبد العال محافظا لحمص، خلفا لمحمد إياد غزال، على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها المحافظة.
ومما سبق يتضح لنا إن النظام السوري لجأ إلي تقديم التنازلات الصورية حتى يوم “الجمعة العظيمة” في 22 أبريل، ومنذ هذا اليوم الذي شهد نجاحًا دفع النظام إلي مراجعة استراتيجيته، تغيرت استراتيجية النظام بالكامل حيث أصبح القمع العنيف خاصة في درعا هو الوسيلة الوحيدة المتبعة من قبله.
وقد لجأ النظام منذ اندلاع الاحتجاجات وحتى 22 أبريل إلى التعامل مع الأزمة عبر تفكيكها إلى حزمة أزمات مطلبية متفرقة، وليست حالة وطنية شاملة تنشد تغيير المناخ السياسي برمته، بما يتضمنه من إحداث تغييرات دستورية شاملة تعيد تنظيم الحياة السياسية في سوريا بطريقة عصرية تضمن مشاركة جميع ألوان الطيف السياسي السوري في عملية صنع القرار، وتكسر الاحتكار الأحادي الذي يمارسه الحزب الحاكم بوصفه قائدًا للدولة والمجتمع، ولا شك أن هذه الاستراتيجية تهدف – حسب اعتقاد النظام السياسي السوري- إلى تقليل حجم الخسائر، وإمكانية فرض دينامية الحراك الحاصل عبر التمييز بين مطالب أركانه، وتحقيقها بالقطعة، وعزلها عن الحالة الوطنية العامة، مما يسهل بالتالي احتواء الحراك الجاري وصولاً إلى إنهائه، من هنا كانت بعض القرارات الاقتصادية التي استهدفت كتلة كبيرة من موظفي القطاع العام، وكذلك القرارات التي صدرت بشأن عودة المنقبات وإنشاء فضائية دينية، وكان الواضح منها ترضية من يوصفون بالإسلاميين المعتدلين في البلاد، فضلاً عن القرارات التي صدرت بشأن تجنيس عشرات الآلاف من الأكراد.[34]
ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية لم تبؤ سوى بالفشل، لأنها بدت في نظر الكثيرين- على الأقل من الذين تظاهروا-، من النوع الذي تخطاه الزمن، وأن سقف المطالب بات أعلى منها بكثير، وتحاجج هذه القوى (إن جاز تسميتها بذلك)، أن مطالبها لم تعد تنحصر بالجانب المطلبي وبعض التحسينات الاقتصادية، بل تجاوزتها إلى إصلاح الصيغة السياسية برمتها، وهذه تشتمل على العديد من المطالبات، من نوع:
- إلغاء قانون الطوارئ.
- وتعديل المادة الثامنة من الدستور التي تجعل من حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع.
- تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية.
- إصدار قانون لتنظيم الحياة الحزبية.
- أن تناقش هذه الأمور على طاولة رسمية تجمع النظام والأحزاب والقوى المعارضة وممثلين عن المجتمع المدني.[35]
رابعًا: الاحتجاجات الثورية: بين إمكانية التطور واحتمالات الإجهاض:
مما لاشك فيه أن الاحتجاجات السورية في حالتها الحالية ورغم توسعها وانتشارها الجغرافي المتصاعد إلا أنها لازلت محدودة ولا يمكنها زعزعة النظام السوري، والواقع أن هذه الاحتجاجات تواجه عددا من التحديات تحول بينها وبين تحولها إلي ثورة قادرة علي إزاحة النظام الحالي وزحزحة استقراره، نسرد منها الآتي:
- التحدي الأول: صراع الأجنحة داخل النظام ووضع القوى الأمنية والجيش:
فثمة في سوريا من يقول إن الأحداث التي شهدتها البلاد أوجدت تناقضا بين من يسمونهم بالتيار السياسي في البلاد، الذي يقوده الرئيس بشار الأسد، والتيار الأمني الذي يحتل مكانة هامة في بنية النظام السوري، وهذا التناقض يتأتى من طبيعة المعالجات التي يرتئيها كل طرف للأزمة، ففي حين يرى الرئيس الأسد أن المرونة السياسية والتكيف مع بعض المطالب المشروعة، وكذا الإقدام على بعض الإصلاحات الجريئة، تبدو خيارا صحيحا ومناسبا للمرحلة، كما أنها تعزز النجاحات الهامة التي تحققت في المجال الدبلوماسي لسوريا عبر فك حالة العزلة التي فرضها الغرب على البلاد لسنوات طويلة رغم تصديه للضغوط الأميركية القاسية.
ومن هنا جاءت الاستجابة لبعض المطالب، وكذلك الوعد بمعالجة بعضها الآخر، من أجل تجاوز هذه الأزمة بأقل الخسائر على النظام. وأما في الجانب الأمني فالواضح من مسار الأحداث أن ثمة رؤية لمعالجة مختلفة، ترتكز على التشدد تجاه الحراك، وترى في الاستجابة لمطالب المتظاهرين نوعا من المسايرة غير المجدية، لأن من شأن ذلك رفع سقف مطالب هؤلاء، أو ربما إرسال إشارة عن ضعف النظام من شأنها أن تؤدي إلى فهم مغلوط يشجع على اتساع رقعة الاحتجاجات وزيادة قوتها وفعاليتها. وهكذا، فإن الحالة السورية من وجهة نظر فاحصة لا تزال ضبابية ، فالتردد والحذر سمتان بارزتان تكللان هذا المشهد. وفي هذا السياق يزداد الأمر تعقيدا بسبب الحقيقة التالية: ضباط الجيش السوري الذين هم في معظمهم من أبناء عائلة الأسد ومن عشيرته وأبناء طائفته، يعلمون جيدا أن المتظاهرين في سورية يطالبون أيضا برأس قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وفى حال سقط الأسد فهم سيسقطون معه، وذلك بعكس ما حدث في مصر.[36]
ولكن من جهة أخرى، فبدء امتصاص مشهد المذابح خاصة مع الحصار وبدء تفاعل مدن القطر وتصاعده يسبب تصدعا واضطرابا في البناء العسكري الذي شهد بالفعل حملة تمرد صغيرة حاليا وستكبر، وبالذات لأن التشكيل العسكري يحمل تنوعا وإن كان يعتمد على النخبة الفئوية، فصمود درعا (التي تحوي عددا من قادة المخابرات السورية) وتحرك مدن القطر، وتحريك البناء المجتمعي المدني الإنساني ليضغط في كل الاتجاهات، أمر مرجّح للغاية ومتوقع، رغم أن سوداوية ذكرى مذبحة حماة محيطة بالذاكرة الوطنية والعربية، والنظام سعى لها بالفعل من خلال قصف منارة المسجد العمري في درعا.[37]
- التحدي الثاني: غياب القيادة والاحتياج لمزيد من الاتساع:
لا يمكن لمن يتابع ما يجري على الأرض إلا أن يلاحظ غياب القيادة الواحدة للثورة، وحاجة هذه الثورة إذا أرادت التقدم إلى رؤية سياسية أكثر وضوحا واتساقا. ما يعوض عن هذا حتى الآن أن السوريين يخوضون معركة مماثلة لما تخوضه الشعوب العربية الأخرى، وأن الديمقراطية هي المطلب الأساسي للجميع، بما تعنيه من تفكيك نظام السلطة الديكتاتورية ووضع أسس نظام الحرية والانتخابات التمثيلية، غير أن وضوح الرؤية في ضوء التنوع العرقي السوري قد يكون ذا أهمية قصوى في المرحلة القادمة[38].
ومن جهة أخري، ما زال المتظاهرون لا يتجاوزون بضعة آلاف ، كذلك لا يزال ملايين السوريين من سكان المدن الكبرى مثل دمشق التي يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة، أو مدينة حلب التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة غير متداخلين بشكل كلي كباقي المدن، رغم أن هذه المدن يقطنها نحو نصف عدد سكان سورية، وأغلبية هؤلاء السكان من السنة، وهم الذين سيحددون مستقبل النظام. ففي حال قرروا المشاركة بفاعلية أعلي وبأعداد أضخم فيما يجري سيكون من الصعب أكثر فأكثر على الأجهزة قمع التظاهرات. والحقيقة أن جزءً من قوة النظام السوري “العلوي” يكمن في قدرته علي خلق تحالفات مع الأقطاب البرجوازية السنية القوية والموالية للبعث داخل هذه المدن، وهذا ما تم كسره في درعا -من خلال كسر تحالف النظام مع الريف السني- ولم يتم كسره بعد في مدن مثل دمشق وحلب. ومن هنا، يمكن القول بأن كسر هذا التحالف في هذه المدن من شأنه تغيير ميزان القوى في غير صالح النظام، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد.
وفي هذا الإطار، فإن انضمام الفئات غير المستفيدة من نظام بشار إلى هذه الاحتجاجات سيدفع هذه الاحتجاجات إلى منحى مختلف ونذكر منهم: شباب الطبقة العاملة الفقيرة وسكان العشوائيات والذين لم يستفيدوا من نظام بشار، والمتمردون من الطبقة الجديدة الفقيرة والوسطى التي تضم شبابًا متعلمين أو شبه متعلمين، والذين وجدوا عند تخرجهم دون وظائف لهم، بالإضافة إلي رجال الأعمال صغار منعهم الرجال النافذون من كسب المال.[39]
- التحدي الثالث: خطر “البلقنة” والانفجار الطائفي:
فرغم أن المجتمع السوري سليم في بنيته، ولا يوجد فيه مشاكل طائفية بالمعني المتعارف عليه، إلا أن افتعال النظام للأزمات الطائفية قد يدفع المجتمع إلي اتجاه التفكك الطائفي الذي قد ينتهي بأحداث عنيفة قد تجهض هذه الثورة الوليدة في مهدها. والأخطر من ذلك يمكن أن تهز هذه السياسيات الأساس الذي قام عليه التوافق الوطني خلال العقود الماضية، ويؤسس لحالة صراعية مستقبلية واختلالات بنيوية خطيرة في أساس التوافق الاجتماعي الذي تأسست عليه الحالة الوطنية السورية برمتها. ولعل أخطر ما في تجليات أزمة إدارة الأزمة في سوريا، هو الانحدار المفاجئ في الخطابين الرسمي والإعلامي إلى استعادة شبح الفتنة المذهبية والطائفية والعزف على وترها، ومحاولة ربط استمرار السلم والاستقرار الأهلي في سوريا ببقاء الأحوال على ما هي عليه، والتلميح بأن مطالب الحرية والديمقراطية تحمل في مضامينها مخاطر جمة على فئات وشرائح معينة في المجتمع السوري، مع ملاحظة أن الحراك في سوريا لم يقترب من هذه العناوين ولم يمسها من قريب أو بعيد.[40]
- الوضع الإقليمي وخطر التدخل الخارجي:
بيد أن مصير النظام في النهاية، سيكون مرهونًا بتصميم الشعب السوري على التغيير وقدرته على مواجهة آلة القمع الهائلة، وبموقفي إيران وتركيا على وجه الخصوص، والموقفين العربي والدولي في مرتبة تالية. وفي حين أعلنت إيران عن دعمها الصريح للنظام، وتهوينها من حجم ضحايا الشعب السوري، فإن المتغير الهام الذي ينبغي انتظار تبلوره هو موقف تركيا، الحليف الإقليمي الثاني الذي ساهم في توفير مظلة حماية للنظام السوري خلال العقد الأخير، والذي ترتبط به سوريا بروابط اقتصادية وثيقة، ويشارك سوريا خط حدود طويل.
وفي النهاية، فإن السؤال لازال يطرح نفسه: ما الذي سيحدث في سوريا في الأسابيع المقبلة، وإلى أين ستتجه هذه الاحتجاجات؟ ولكن الأمر المؤكد الآن هو أن أسطورة استقرار النظام السوري قد دحضت إلي الأبد.
هوامش الدراسة:
[1] . نجيب الغضبان: نحو التغيير في سورية (5).. رؤية وإخطار، 20 فبراير 2011، موقع أخبار الشرق
[2] . الحريات العامة في سوريا، 17 مارس 2911، موقع الجزيرة،
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/47BE21AD-60B7-4C15-AE32-CABAEFEBDCA1.htm
[3] . سلامة كيلا، سوريا..لما لا؟ ، 28 مارس 2011، موقع جريدة الشروق المصرية
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=418108
[4] . الحريات العامة في سوريا، 17 مارس 2011، موقع الجزيرة، مرجع سابق
[5] سلامة كيلا، سوريا..لما لا؟ ، 28 مارس 2011، موقع جريدة الشروق المصرية، مرجع سابق
[6] . الحريات العامة في سوريا، 17 مارس 2911، موقع الجزيرة، مرجع سابق
[7]. 17 مارس 2011، موقع الجزيرة، الفساد في سوريا
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/35036086-2ABA-43FA-9CD2-75D0E0557054.htm
[8] . سلامة كيلا، سوريا..لما لا؟ ، 28 مارس 2011، موقع جريدة الشروق المصرية، مرجع سابق
[9] . رضوان زيادة، إعلان دمشق، ورقة قدمت في مؤتمر مبادرة الإصلاح العربي ومنتدى البدائل العربي
[10] المرجع السابق
[11] . إرهاصات الاحتجاجات في سوريا، 16 مارس 2011، موقع الجزيرة
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/344B16D2-802B-47C2-9AD1-22144352DC5C.htm HYPERLINK “http://www.aljazeera.net/NR/exeres/344B16D2-802B-47C2-9AD1-22144352DC5C.htm”
[13] . المرجع السابق
[14] . برهان غليون، المعجزة السورية، 24 أبريل 2011،
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/DEE5AF9E-92C2-473A-B0A5-16E68FC888F7.htm HYPERLINK “http://www.aljazeera.net/NR/exeres/DEE5AF9E-92C2-473A-B0A5-16E68FC888F7.htm”
http://www.marefa.org/index.php/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9_2011#.D8.AE.D9.84.D9.81.D9.8A.D8.A9_.D8.A7.D9.84.D8.A3.D8.AD.D8.AF.D8.A7.D8.AB
[16] . برهان غليون، المعجزة السورية، 24 أبريل 2011، مرجع سابق
[17] . سلامة كيلا، الاحتجاجات السورية، ندوة نظمها منتدى البدائل العربي في 5 أبريل 2011
[18]. إرهاصات الاحتجاجات في سوريا، 16 مارس 2011، موقع الجزيرة ، مرجع سابق
[20] . الاحتجاجات السورية 2011، موقع المعرفة،
http://www.marefa.org/index.php/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9_2011#.D8.AE.D9.84.D9.81.D9.8A.D8.A9_.D8.A7.D9.84.D8.A3.D8.AD.D8.AF.D8.A7.D8.AB HYPERLINK “http://www.marefa.org/index.php/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9_2011#.D8.AE.D9.84.D9.81.D9.8A.D8.A9_.D8.A7.D9.84.D8.A3.D8.AD.D8.AF.D8.A7.D8.AB”
[22] . جمعة دامية في درعا، 8 أبريل 2011، موقع الجزيرة
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/FAD83714-D7A8-4AC8-A20F-C3CAC64479C8.html
[23] . سقوط 49 قتيلا من المدنيين وعناصر الأمن في تظاهرات درعا السورية، 8 أبريل 2011، موقع العربية،
http://www.alarabiya.net/articles/2011/04/08/144695.html
[25] . اغتيال شرطيين وإضراب عام بدرعا، 5 أبريل 2011، موقع الجزيرة،
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/157572C9-A1AE-4909-8437-6FC1838763DE.htm
[26] . الاحتجاجات السورية 2011، موقع المعرفة، مرجع سابق
[27] . المرجع السابق
[28] . المرجع السابق
[29] . مهنا الحبيل، الجمعة العظيمة وانتصار العزيمة،موقع الجزيرة، 2 مايو 2011،
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ECFF03E0-EDDE-4877-9A5D-389D3B7EB006.htm
[30] . الثورة السورية: المسارات المحتملة، 1 مايو 2011
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ACB25226-F127-441F-B15F-8006DB2338FC.htm
[31] . سلامة كيلا، الاحتجاجات السورية، ندوة نظمها منتدى البدائل العربي في 5 أبريل 2011
[32] . الاحتجاجات السورية 2011، موقع المعرفة، مرجع سابق
[33] . إيال زيسر، سورية بشار الأسد عند مفترق طرق، جريدة الشروق المصرية،
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=426194
[34] . غازي دحمان، أزمة إدارة الأزمة في سوريا، 16 أبريل 2011،
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/996639F2-25CB-41AA-9637-6A29380FF46C.htm HYPERLINK “http://www.aljazeera.net/NR/exeres/996639F2-25CB-41AA-9637-6A29380FF46C.htm”
. غازي دحمان، ضبابية المشهد السوري، 28 مارس 2011،
[35] http://www.aljazeera.net/NR/exeres/E42A5D18-C817-4E5F-B4F8-87BCF1230FBC.htm
[36] . المرجع السابق
[37] . مهنا الحبيل، الجمعة العظيمة وانتصار العزيمة،موقع الجزيرة، 2 مايو 2011، مرجع سابق
[38]. برهان غليون، الثورة السورية ومخاطر غياب القيادة، 28 مارس 2011،
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/161C0BAC-DB51-40E7-AAB6-0598568706CB.htm HYPERLINK “http://www.aljazeera.net/NR/exeres/161C0BAC-DB51-40E7-AAB6-0598568706CB.htm”
. باتريك سيل، هل النظام السوري في خطر؟، 8 أبريل 2011، موقع العربية،
[39]http://www.alarabiya.net/views/2011/04/08/144677.html
[40] . مهنا الحبيل، الجمعة العظيمة وانتصار العزيمة،موقع الجزيرة، 2 مايو 2011، مرجع سابق