عمرو عبد الرحمن
الدكتور عمرو عبد الرحمن هو مدير وحدة الحريات المدنية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية والمحاضر بقسم القانون
بالجامعة الأمريكية.
في العالم يبدو أن هناك سرًّا معلنًا بين الجميع، الكل يعرفه ويستطيع أن يشير إليه عن العلاقة بين الأزمات الاقتصادية ذات الوتيرة المتزايدة منذ 2008 وحتى الآونة الأخيرة وبين الديمقراطية، نرى مثلًا صعود الشعبوية في واحدة من أكبر الديمقراطيات الغربية وهي الولايات المتحدة، متمثلة فى وصول دونالد ترامب كقائد شعبوي يميني، وما زالت الأدبيات عاجزة عن تحليل هذه الظاهرة وتأسيس علاقة إحصائية واضحة عن الأسباب التي أدت إليها، من المؤكد أن بنية الحكومات الديمقراطية أو نسبة الحكومات الديمقراطية على مستوى العالم تتراجع مع زيادة التراجع الاقتصادي، ولكن كيف نقوم بإثبات ذلك.
إن العالم في أزمة اقتصادية ممتدة منذ عام 2008 وما زالت مستمرة، دون استقرار مالي عالمي بدرجات مختلفة من القوة منذ تسعينيات القرن الماضي، ومثلما أدت الأزمة إلى وصول قيادات شعبوية يمينية كما في الولايات المتحدة والبرازيل، ففي بعض الدول أدت إلى انتخاب حكومات ديمقراطية يسارية، مثلما حدث في اليونان والمكسيك، وكولومبيا، وتشيلي والأرجنتين. لذلك لا يقال إن هناك ربطًا واضح الديناميكية بين هذين العاملين، ولكن العلاقة المفهومة هنا هي أن الأزمات الاقتصادية تؤثر في جودة الديمقراطية -وهنا نتحدث عن جودة النظام الحاكم الديمقراطي نفسه بكل مفاهيمه المختلفة- ولا يقال إنها بالضرورة تؤدي إلى الانهيار في الديمقراطية أو وجود بديل سلطوي أو راديكالي، ولكن المؤكد أنها تجعل النظام الديمقراطي يتآكل أو يتراجع.
لقياس ذلك، يقوم الباحثون بمشاريع متنوعة لقياس مستوى الديمقراطية في الدول. تتضمن هذه المشاريع مؤشر حالة الديمقراطية في العالم الذي يُصدره وحدة الدراسات الديمقراطية في مجلة The Economist، ومؤشر Freedom House، ومؤشر الديمقراطية الدولي الصادر عن مؤسسة IDEA International، وأخيرًا مؤشر تنوع الديمقراطية (V-Dem).
من خلال هذه المشاريع، يمكننا تحديد كيفية أداء النظام الديمقراطي سواء كانت عملية أو معطلة، وتركيبها على خمسة جوانب رئيسية يستخدمها هذه المشاريع:
- الجانب الأول: الانتخابات وديمومتها، وهل تجرى بانتظام، وكيفية تنظيمها من حيث الآليات، والمعايير، وشفافيتها، ونزاهتها.
- الجانب الثاني: فصل السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، والعلاقة بين المؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة مثل الأمن والجيش.
- الجانب الثالث: المشاركة الشعبية وتفاعل الجماهير مع العملية الديمقراطية ومدى مشاركتها وتنظيمها.
- الجانب الرابع: جدوى وجود الجدل العام وكيف يؤثر عليه عالم التواصل الاجتماعي والأخبار، وهل تكون الأخبار صادقة أم مضللة.
- الجانب الخامس: حقوق وحريات الفرد في النظام الديمقراطي والتي تنص عليها الدساتير والمواثيق الدولية.
يظهر أن جميع المؤشرات تشير إلى تراجع الديمقراطية على مستوى العالم منذ عام 2016 حتى الآن، ويعتبر البعض ذلك موجة سلطوية جديدة نتيجة لاختلال في أحد أو أكثر من جوانب التقييم الخمسة.
في فهم العلاقة بين الأزمة الاقتصادية العالمية وتراجع الديمقراطية، يُشير الوضع منذ التسعينيات وحتى الآن إلى أن القطاع المالي غالبًا هو مصدر إشعال الأزمات، حيث يبدأ الأمر بالأزمة المالية وينتقل تأثيرها إلى باقي القطاعات الاقتصادية. تظهر الأزمات الاقتصادية ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
- عجز البنوك عن سداد أموال المودعين: يمكن أن يتسبب هذا في أزمات مالية خانقة، حيث يجد المواطنون صعوبة في الوصول إلى أموالهم المودعة، كما حدث في الحالة اللبنانية.
- عجز المقترضين عن سداد القروض: تتسبب هذه الحالة في توقف الاقتراض وتأثير سلبي على الاقتصاد، مثلما حدث في بداية الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
- أزمة مديونية عامة في البلاد: تتسبب في عدم قدرة الدولة على سداد ديونها، كما حدث في الأرجنتين واليونان. بعض الدول، مثل مصر، قد تكون معرضة لمثل هذا السيناريو.
- انهيار أسهم البورصات: قد يحدث هذا النوع من الأزمات عندما تشهد قيم الأسهم انخفاضًا حادًا، مما يؤثر على الاقتصاد والثقة العامة.
في هذه الحالات، يتأثر الاقتصاد بشكل كبير، مما يؤدي إلى تداولات اقتصادية غير مستقرة. يتسبب هذا التدهور في الأوضاع الاقتصادية في تأثير البنية الديمقراطية، حيث قد يؤدي التراجع الاقتصادي إلى تقويض مستوى جودة الديمقراطية بشكل عام، بما في ذلك تدني مستوى مشاركة المواطنين، وتدهور الحقوق والحريات الأساسية، وزيادة التشوش في الحياة السياسية.
النقطة المهمة هنا تتعلق بتوزيع عبء الأزمة بشكل غير عادل، حيث يتحمل الأفراد ذوو الدخل المنخفض عادةً أعباء الإجراءات التقشفية التي تتخذها الحكومات ردًا على الأزمات الاقتصادية. يمكن تلخيص هذا بنقطتين:
- تأثير التقشف على الفئات الأكثر فقرًا: خلال الأزمات الاقتصادية، يتم تقديم حزم التقشف التي تستهدف تقليل الإنفاق العام على القطاعات الرئيسية مثل التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والبنية التحتية. يعني هذا تقليل الدعم للمشاريع الاجتماعية وتراجع جودة الخدمات العامة، مما يؤثر سلبًا على الفئات الأكثر فقرًا التي تعتمد بشكل كبير على هذه الخدمات.
- تفاقم التفاوت في الدخل والخدمات: يؤدي تراجع الدعم للخدمات العامة وتحميل التكاليف على الأفراد إلى زيادة التفاوت في الأجور والرواتب، وينعكس هذا في توفير الخدمات والفرص. حتى في المجتمعات التي قد تكون الفجوة في الأجور غير كبيرة، يظل هناك تفاوت في الوصول إلى الخدمات العامة، وهو ما يشهده بعض بلدان أوروبا الغربية حيث يعاني المواطنون من تكاليف مرتفعة للسكن والتعليم والغذاء، خاصة بعد أزمة كوفيد-19.
بهذا السيناريو، يكون التأثير السلبي على الطبقات الاقتصادية الضعيفة أكبر، ويمكن أن يؤدي إلى تصاعد التوترات الاجتماعية والاقتصادية. لذا، يصبح فهم كيفية توزيع الأعباء خلال الأزمات الاقتصادية أمرًا حيويًا لفهم تأثيرها على الديمقراطية والمجتمع بشكل عام.
يتناول الخبير الاقتصادي البارز توماس بيكيتي في كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” قياسات اللامساواة بين الفئات الاجتماعية، حيث قدّم أداة شاملة ودقيقة لتقييم توزيع الدخل والخدمات العامة. يُسلط بيكيتي الضوء بوضوح على التفاوت في الوصول إلى الخدمات العامة، حيث يحصل 1% من السكان على 25% من الدخل القومي، نتيجة للسياسات الرأسمالية الحالية. ويرصد تاريخ هذا التفاوت منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر، حيث شهدت الفجوة تقلصًا في القرن العشرين، ثم عادت للارتفاع في الثمانينيات، خاصة في المنطقة العربية حسب تصنيفات البنك الدولي.
تترتب على هذا التفاوت عدة آثار، أبرزها:
- العزوف عن المشاركة في الحياة العامة من قبل النسبة الأكبر من المواطنين.
- هيمنة العائلات الثرية على المؤسسات المنتخبة وتلاعبها في العملية الانتخابية، ما يُعرف بمصطلح “خطف الدولة” أو “أسر الدولة”.
- تراجع الجدل العام الفعّال نتيجة لعدم الوصول إلى معلومات حقيقية حول الاقتصاد، مما يؤدي إلى انتشار الخيالات والتضليل، وتقليل قدرة الجمهور على فهم وضعهم والحصول على خدمات ثقافية.
يُستعرض نموذجين محددين هما أزمة الدين في اليونان والتحديات التي تواجه جمهورية مصر العربية، حيث تُظهر هذه الأمثلة الضغوط التي تفرضها الديون العامة على الحكومات، مع التأكيد على ضرورة التعاون مع الدائنين لتجنب المشاكل المالية.
للختام أقترح بعض التوصيات لتحسين هذه الوضعية، مثل فرض ضرائب على الثروات ومنع توريثها، إلى جانب مكافحة الملاذات الضريبية وتعزيز التشاركية في صنع القرار.