جورج ثروت فهمي ,محمد الحاموش
لبنان ,مصر
تعرف عديد من الدول العربية مؤسسات أهلية دينية تعمل مع المجتمع من أجل تقديم خدمات تعليمية وصحية وكذلك مساعدات عينية للفئات غير القادرة، إلا أن تلك المؤسسات تعمل في الأغلب بشكل منفصل في خدمة الجماعات الدينية التي تنتمي إليها، ما يرسخ من الطائفية داخل المجتمع. وتجد بعض هذه المؤسسات نفسها في أوقات الأزمات، سياسية كانت أو صحية أو اقتصادية، مضطرة إلى التعامل مع المؤسسات الدينية الأخرى من أجل مواجهة جائحة ككورونا، أو من أجل نزع فتيل أزمات طائفية داخل المجتمع المحلي التي تعمل تلك المؤسسات في إطاره. فهل يمكن أن تسمح الأزمات بتغيير لقواعد العمل الطائفي من أسفل، من خلال مبادرات التعاون تلك أم أن الأزمات يمكن لها أن ترسخ من تلك التقسيمات الطائفية؟ وما هي العوامل التي تحكم كلًّا من المسارين؟
تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تحليل مقارن لحالتي مصر ولبنان. عرف كل من البلدين دورًا كبيرًا للمؤسسات الدينية على مستوى العمل الأهلي، كما أن كل من الدولتين قد تعرضت لعدد من الأزمات خلال السنوات الأخيرة، ما فرض على تلك المؤسسات الدينية مناخًا جديدًا للعمل. فشهدت مصر موجة من العنف في أعقاب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في يوليو/تموز 2013، تزايدت معها حوادث التوتر الطائفي بين المسيحيين والمسلمين خاصة في صعيد مصر. وجاءت جائحة كورونا في 2020 لتضيف عددًا آخر من التحديات الصحية والاقتصادية على المصريين. أما في لبنان، فقد شهد سلسلة من الأزمات خلال السنوات الأخيرة، بدأت بأزمة اقتصادية خانقة، خرج على إثرها اللبنانيون إلى الشوارع للاحتجاج فيما عرف بثورة أكتوبر/تشرين 2019، وجاءت بعدها جائحة كورونا وثم تفجير مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل سلوك الفاعلين الدينيين داخل المجتمع المدني خلال الأزمات، بالتركيز في مبادرات التعاون من أسفل، وكيف يمكن أن تساهم في إعادة صياغة العلاقة بين العمل الأهلي القائم على أسس طائفية وعرقية؟ وكيف تغير الأزمات من طبيعة العلاقة بين المنظمات الدينية بعضها مع بعض، وكذلك بينها وبين المنظمات العابرة للطوائف؟ وهل تدفع الأزمات إلى التعاون بين منظمات العمل الأهلي المختلفة، أم أنها قد ترسخ أيضا من التقسيم الطائفي للعمل المدني؟ وما هي العوامل التي تحكم كلًّا من المسارين؟
وتنقسم الورقة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، الجزء الأول يعرض طبيعة العلاقة بين الفاعلين الدينيين والعمل الأهلي في مصر ولبنان، أما الثاني فيحلل استجابة تلك المؤسسات الدينية للأزمات التي تعرضت لها الدولتان خلال السنوات الأخيرة. وأخيرًا يسعى الجزء الأخير إلى مقارنة تلك الاستجابات في كل من مصر ولبنان لفهم أسباب التشابه والتباين فيما بينهما.
- الدين والعمل الأهلي في مصر ولبنان
بدأ العمل الأهلي المنظم في مصر في القرن التاسع عشر، ونشأت أول جمعية أهلية في مصر عام 1821 باسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية. وتوالت في العقود التالية تأسيس الجمعيات الأهلية، وشهدت نهاية القرن التاسع عشر تأسيس مجموعة من الجمعيات الأهلية ذات الطابع الديني. فتم تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1878 على يد الكاتب والشاعر وأحد رموز الثورة العرابية عبدالله النديم، والتي اهتمت ببناء المدارس وتوزيع الصدقات والزكاة على الفقراء، وكذلك جمعية المساعي الخيرية القبطية عام 1881، والتي يرجع الفضل في إنشائها إلى بطرس باشا غالي، رئيس وزراء مصر آنذاك، والذي تولى أيضًا رئاستها. ومن المهم الإشارة في هذا المجال إلى أن بالرغم من هويتها القبطية، فقد ضمت قائمة مؤسسي جمعية المساعي الخيرية القبطية كلًّا من الإمام محمد عبده وعبدالله النديم، ما يشير إلى بعدها عن أي إطار طائفي. وقد أسست الجمعية أول مستشفى أهلي وهو المستشفى القبطي، والذي يعمل إلى اليوم. وقدرت عدد الجمعيات الإسلامية بنحو 20 جمعية والقبطية بـ 11 جمعية عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914[1].
تطور العمل الأهلي في مصر مع تطور نظامها السياسي، فازداد عدد الجمعيات الأهلية بشكل كبير مع تبني مصر لدستورها الأول عام 1923 والذي نص في المادة رقم 30 على حق المصريين في التجمع وتكوين جمعيات. وبينما زاد عدد الجمعيات من 159 في الفترة بين 1900 و1924، فإن هذا العدد قد وصل إلى 633 جمعية خلال الفترة بين 1925 و1944. وتعثر العمل الأهلي خلال الفترة الناصرية بسبب سياسات النظام الرامية إلى إحكام سيطرتها على المجال العام، فقد كان جوهر سياسات عبد الناصر إخضاع جميع تنظيمات المجتمع المدني لسيطرة الدولة إما عن طريق حظرها وإما دمجها في هيكل الدولة. في عام 1964 أقر النظام القانون رقم 32 لتنظيم الجمعيات الأهلية المتبقية من خلال وضعها تحت سيطرة وزارة الشؤون الاجتماعية. إلا أن نشاط الجمعيات الأهلية ارتفع بشكل كبير منذ منتصف السبعينيات مع خطوات الانفتاح السياسي التي اتخذها الرئيس أنور السادات، وكذلك سياساته الاقتصادية التي تركت فراغًا في مجال الرعاية الاجتماعية استدعى حضور الجمعيات الأهلية لملئه.
وشهدت السنوات العشر الأخيرة طفرة في نمو الجمعيات الأهلية في مصر، حيث بلغ عدد الجمعيات الأهلية المسجلة في وزارة التضامن الاجتماعي عام 2012 ما يقرب من 41439 جمعية أهلية، ليرتفع هذا العدد إلى 44580 جمعية ومؤسسة أهلية في عام 2013، ثم يرتفع عدد الجمعيات الأهلية مجددًا إلى 51569 جمعية أهلية 2019 ويصل إلى 52456 في 2021 وفقًا لبيانات وزارة التضامن الاجتماعي.
أما عن خريطة الجمعيات الأهلية، فهي متنوعة ومعقدة في الوقت نفسه. على مستوى نطاق العمل، فهناك الجمعيات القاعدية الصغيرة والتي تنتشر في الريف انتشارًا واسعًا، ويطلق على عدد كبير منها جمعيات تنمية المجتمع المحلي، وجدير بالذكر أن أغلب هذه الجمعيات تركز نشاطها في القرية التي توجد فيها، كما أنها تميل إلى العمل الخيري من الأساس. وقد تحول جزء كبير من تلك الجمعيات في السنوات الأخيرة إلى وكلاء لبعض المنظمات الخيرية الكبيرة، مثل: بنك الطعام ودار الأورمان، في توزيع الطعام والكساء على الفقراء في قرى مصر[2]. أما النمط الثاني وفقًا لمتغير الحجم ونطاق العمل فهو الجمعيات متوسطة الحجم والتي في الغالب تتركز في المدن، أما النمط الثالث فهو الجمعيات الكبيرة والمركزية والتي تمتد أنشطتها إلى مناطق كثيرة وتتعدد فروعها في أماكن عديدة بين الريف والحضر، وهي قليلة العدد، مثل: بنك الطعام والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة المحمدية وجمعية الأورمان والهيئة القبطية الإنجيلية وجمعية الصعيد للتربية والتنمية وغيرها[3].
فيما يتعلق بمنهج العمل، تنقسم الجمعيات الأهلية في مصر إلى 3 مجموعات تتعايش فيما بينها: الخيري/الرعائي الذي يهتم بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والمساعدات العينية إلى الفئات غير القادرة، والتنموي الذي يعمل من خلال مشروعات تنمية يهدف من خلالها إلى التمكين الاقتصادي للفئات المهمشة في المجتمع، وأخيرًا الجمعيات الحقوقية والتي تعمل من أجل الدفاع عن الحقوق، مثل: الحقوق الاقتصادية والسياسية أو حقوق المرأة والأقليات للمجتمعات التي تعمل من خلالها. وتمثل الجمعيات الخيرية، وبالتحديد الجمعيات ذات اللون الديني، النسبة الغالبة من الجمعيات الأهلية. وتضم تلك الفئة من الجمعيات جمعيات ذات تمويل ضخم، حيث تعتمد الجمعيات الدينية على الزكاة والصدقات في حالة الجمعيات الإسلامية والعشور والتبرعات في حالة الجمعيات المسيحية.
وقد شهد نشاط الجمعيات الأهلية الدينية تناميًا ملحوظًا منذ سبعينيات القرن الماضي. فبينما بلغت نسبة الجمعيات الدينية الإسلامية 17% من إجمالي عدد الجمعيات الأهلية على مستوى الجمهورية في الستينيات، فإن تلك النسبة قد ارتفعت خلال عهد أنور السادات حتى وصلت إلى 31% واستمرت في الزيادة خلال الثمانينيات لتصل إلى نحو 34%. فعلى سبيل المثال بلغت نسبة الجمعيات الدينية الإسلامية من إجمالي العدد الكلي للجمعيات عام 1991: 21% في القاهرة، و31% في الإسكندرية، بينما وصلت تلك النسبة إلى 51% في محافظة المنيا.
ويعود هذا الارتفاع في عدد الجمعيات الأهلية الدينية إلى 3 عوامل رئيسية: أولها عودة الدين إلى المجال العام بشكل ملحوظ منذ هزيمة يونيو/حزيران 1967، وثانيها وربما بناء على هذا العامل، ظهرت بوادر التنافس المسيحي الإسلامي خلال تلك الفترة والذي تجلى في التوسع في بناء دور العبادة والجمعيات الأهلية، والسبب الأخير هو تنامي نفوذ تيار الإسلام السياسي، والذي تمثل في قبول الرئيس أنور السادات عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى العمل السياسي، وهو نفس الاتفاق الذي حافظ عليه الرئيس حسنى مبارك من بعده.[4]
ومع تزايد المد الديني، بالإضافة إلى تراجع دور الدولة الرعوي والتنموي، اتجهت الكنيسة هي الأخرى إلى لعب دور نشيط في مجال النشاط الاجتماعي والتنموي، بدءًا من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية وانتهاء بأنشطة التدريب المهني والقروض الصغيرة ومشروعات التنمية الريفية والحضرية. وهكذا دخلت المؤسسة الكنسية بثقلها في مجال العمل الأهلي والذي كان متروكًا قبل ذك للجمعيات الأهلية المسيحية. وقد كان لتأسيس الأسقفية العامة للخدمات الاجتماعية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عام 1962 لخدمة الفقراء والمجتمعات المحرومة، علامة فارقة في هذا الاتجاه.
وتنتشر الجمعيات الأهلية المسيحية في ثلاث كتل رئيسية: القاهرة والإسكندرية، وتليها كتلة الصعيد والتي تشمل محافظات: بني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا وأسوان، وكتلة الوجه البحري وتشمل: محافظات دمياط والدقهلية والشرقية والقليوبية وكفر الشيخ، والغربية، والمنوفية، والبحيرة. وعلى مستوى الجمعيات الأهلية المسيحية، فأبرز المؤسسات المسيحية العاملة في مصر: الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، التي يترأسها حاليًّا القس الدكتور أندريا زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر، وتعمل على تنفيذ عديد من المشروعات، وتوزيع تلك التمويلات عبر عشرات الجمعيات الأخرى، حتى صارت تلك الهيئة الآن واحدة من الهيئات التنموية الرائدة في مصر، وتقدم الخدمة إلى المناطق الحضرية الفقيرة والمجتمعات القروية في ميادين التنمية الاقتصادية، والزراعية، والبيئية، وفي العناية الصحية والتعليم. بينما تنتشر في ربوع مصر الجمعيات المسيحية والكنسية التابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتتلقى تلك الجمعيات تمويلها للقيام بمشاريعها الخدمية عبر التبرعات من الأقباط ورجال الأعمال أو عبر مساعدات الكنيسة التي تقوم بدور اجتماعي متمثل في أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية التي يترأسها الأنبا يوليوس، أسقف عام كنائس مصر القديمة. وهي تتعاون مع الدولة عبر بروتوكولات في برامج محو الأمية وتعليم الكبار، وبرنامج للمشروعات الصغيرة، وبرنامج لخدمة المدمنين وأسرهم والتوعية بمخاطر التدخين ومرض الإيدز، بالإضافة إلى برنامج مكافحة ختان الإناث والتوعية بأساسيات الصحة الإنجابية.
ومن أشهر الجمعيات الخيرية القبطية الأرثوذكسية: الجمعية الخيرية القبطية، وجمعية التوفيق القبطية، وجمعية النشأة القبطية، وجمعية المحبة التي أسسها حبيب جرجس، وجمعية الإيمان القبطية، وجمعية أصدقاء الكتاب المقدس، وجمعية ثمرة التوفيق القبطية، وجمعية الإخلاص القبطية، وجمعية ملجأ الأيتام. وهناك الجمعيات المسيحية الكاثوليكية، مثل: جمعية الصعيد للتربية والتنمية، وجمعية السنابل، واللجنة المصرية للعدالة والسلام التي تخضع مباشرة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك بمصر، وجمعية (كاريتاس- مصر) المنتسبة إلى كاريتاس الدولية التي تضم 162 فرعًا منتشرة في العالم.
أما في لبنان فتشكل الجمعيات الدينية نسبة 80% من القطاع التطوعي إلى جانب كل من الجمعيات الأهلية وجمعيات المجتمع المدني[5]. استفادت الجمعيات الدينية من طبيعة النظام اللبناني الطائفي إلى جانب عديد من التحديات في المراحل الّتي مرّ بها لبنان. فظهرت الإرساليات المسيحية في منتصف القرن التاسع عشر ونشطت في تقديم المساعدة والرعاية الصحية وإنشاء المدارس والجامعات، في حين تم تأسيس جمعيات الرعاية الاجتماعية السنية خلال فترة الحكم العثماني. كما قام اللاجئون الأرمن بتأسيس بعض الجمعيات استجابة للإبادة الّتي تعرّضوا لها، بالإضافة إلى تأسيس عديد من الجمعيات الشبابية في بيروت من جانب الأقليات الدينية، كالدروز والأرثوذوكس بهدف الحفاظ على ثقافتهم. خلال فترة الحكم العثماني تم تأسيس الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك عام 1883 وجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عام 1878، حيث لعبت هذه الجمعيات دورًا أساسيًّا في ترسيخ حقوق طوائفها خلال فترة الاستقلال وتأسيس مؤسسات الدولة. وقد ساهم قانون الجمعيات العثماني الذي هدف إلى الحد من الدور الوطني الّذي تلعبه المنظمات في نمو الجمعيات الدينية والطائفية.
في مرحلة لاحقة استفادت الجمعيات الأهلية من فترة رئاسة فؤاد شهاب (أو مرحلة النهج الشهابي التي امتدت حتى بعد انتهاء ولاية الرئيس فؤاد شهاب مع الرئيس شارل حلو) الّذي قام بإعادة تنظيم الجمعيات الأهلية بهدف تجاوز دورها الخيري وبناء شراكة بين الجمعيات والدّولة، فبعد أن لاحظ شهاب أهمية الدور الّذي تلعبه هذه الجمعيات سعى إلى بناء أطر ومؤسسات لتعزيز التعاون بين الجمعيات الناشطة في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتنموية وبين الوزارات المعنية، ما ساهم في تغيّر دور هذه الجمعيات من الدور الخيري إلى المشاركة في عملية التنمية[6]. وشهدت هذه الفترة انطلاق حركة المحرومين (1974) عبر رجل الدين الشيعي موسى الصدر، والّتي قامت بتأسيس عديد من الجمعيات الخيرية الشيعية وكذلك المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (1969) الذي أخذ على عاتقه مهمة حفظ مكانة الطائفة الشيعية في الدولة بالإضافة إلى تغطية غياب الدولة عن مناطق الشيعة. إلا أن هذا التعاون انهار مع انهيار المشروع الشهابي واندلاع الحرب الأهلية، الأمر الّذي أعاد هذه الجمعيات إلى دورها في تعويض غياب الدولة وتأمين المساعدة الاجتماعية للمواطنين. بحيث كانت كل طائفة تملك مؤسساتها الاجتماعية الخاصّة، بما في ذلك مستشفيات ومدارس وجامعات خاصّة. كما شهدت فترة الحرب الأهلية تأسيس وصعود عديد من الجمعيات الدينية الأخرى، استفادت الطائفة الشيعية من الدعم المقدم من حكومة الثورة الإسلامية في إيران وتم تأسيس جمعية الإمداد في العام 1987، بالإضافة إلى افتتاح عديد من المستشفيات والمدارس الخاصّة.
على الرغم من استمرار الحرب الأهلية الّتي اتّخذت أوجه الحرب الطائفيّة في كثير من مراحلها لمدّة 15 عامًا، استطاعت الفئات العمّالية الحفاظ على أجسام تنظيميّة وسياسيّة تقوم على التّضامن العابر للطّوائف كما كان الحال مع الاتّحاد العمّالي العام الّذي حافظ على قدرته على حشد العمال وكاد أن يستعيد زخمه بعد الحرب الأهليّة، إلّا أن سياسات حكومات ما بعد الحرب بالإضافة إلى النّفوذ السّوري قد مكّنت النّظام والقوى الطائفيّة من اختراقه وإخضاعه للتقسيمات نفسها ورهنه للنّظام القائم.[7]
إلّا أنه مع الوضع السياسي والاجتماعي غير المستقر والنّظام السياسي التوافقي والليبرالي، كانت فرصة للمجتمع المدني ومنظّماته للازدهار وتأكيد وجوده وإن بأشكال مختلفة من التّنظيمات، وفي كثير من الأحيان كمبادرات للاستجابة للتحدّيات الاقتصادية والاجتماعيّة القائمة. فالأزمات المتتالية وضعف الدولة وأجهزتها في التعامل معها اضطرّت الناس إلى التعامل دومًا مع هذه المشاكل والتّحدّيات والبحث عن سبل لمواجهتها، ما شكّل فرصة لتطوّر منظّمات المجتمع المدني ونشوء شبكات تضامن عابرة للطّوائف وعلاقات المحسوبية السياسية، مستفيدة من انتشار التمويل الأجنبي والمنظمات غير الحكوميّة[8]، لا سيما بعد الانسحاب السوري، وما يمرّ به لبنان جرّاء الأزمة السورية وموجة اللجوء، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت كما سيرد ذكره بالتفصيل لاحقًا.
- المؤسسات الدينية في مواجهة الأزمات
عرفت مصر تاريخًا من التوتر الطائفي منذ سبعينيات القرن الماضي، إلا أن تلك الحوادث الطائفية ازدادت وتيرتها في أعقاب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في يوليو/تموز 2013. فخلال تلك الفترة، هاجم متظاهرون غاضبون الكنائس والممتلكات القبطية. فوفقًا لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، تعرّضت 42 كنيسة على الأقلّ للهجوم خلال أقلّ من عشرة أيام في أغسطس/آب 2013، حيث أُحرِق أو تضرّر 37 منها، كان أغلبها في صعيد مصر[9].
وفي إطار محاولة فهم أسباب التشدد والعنف الديني في صعيد مصر، قام المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في 2021 بإعداد دراسة بعنوان: “التنمية وتعزيز قيم المواطنة في صعيد مصر… دراسة حالة لبعض قرى المنيا”. وقامت الدارسة ببحث عينة من القرى الأكثر تعرضًا للعنف الديني في المنيا. وخلصت تلك الدارسة ضمن نتائجها إلى أنه ضمن العوامل التي تقف وراء النزاعات الدينية في هذه القرى هو التوزيع الجغرافي على أساس الدين في القرى التي تعاني من الأحداث الطائفية، وكذلك الدور السلبي لمؤسسات التنشئة الاجتماعية، والمساحات الاجتماعية المنعزلة، وأن دور الجمعيات والمؤسسات الأهلية في تلك القرى لا يتعدى تقديم المعونات ولا يمتد إلى التوعية والتثقيف[10].
ولمواجهة غياب هذا الدور التوعوي لمؤسسات المجتمع المدني، وأيضًا التوزيع الجغرافي على أساس الدين في بعض قرى الصعيد، فقد قامت وزارة التضامن الاجتماعي بدعم عدد من المشروعات بهدف دمج مكون قيم وثقافة المواطنة وقبول التنوع الديني والثقافي فـي البرامج التنموية الاقتصادية والبيئية والثقافية المختلفة في المناطق الأكثر فقرًا وتعرضًا لخطر التطرف، والأحداث الطائفية والإرهاب. فتبنت الوزارة برنامج باسم “تعزيز قيم المواطنة في القرى الأكثر تضررًا من الأحداث الطائفية”. ويعمل هذا البرنامج في 44 قرية من القرى الأكثر تضررًا من التطرف والأحداث الطائفية في محافظة المنيا منذ سبتمبر/أيلول 2020، بهدف تعزيز إجراءات الحماية الاجتماعية والدمج الاجتماعي للمواطنين من كافة الخلفيات الدينية والاجتماعية، وتنمية الوعي بقيم المواطنة واحترام التنوع. واختارت وزارة التضامن أن تقوم بهذا المشروع بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني الإسلامية والمسيحية. فوقَّعت بروتوكولات تعاون مع ثماني جمعيات أهلية كبيرة: صناع الحياة، والهيئة القبطية الإنجيلية، والأورمان، والجزويت والفرير، والأسر المسلمة، والسامري الصالح، والخبر السار، وبناء للتنمية من أجل العمل على تنفيذ هذا البرنامج[11]، وذلك بالإضافة إلى شبكة كبيرة من الجمعيات والمؤسسات الأهلية المحلية في القرى، تصل إلى 50 جمعية تنمية مجتمع صغيرة. وقد عملت تلك المؤسسات معًا من أجل تكوين كوادر شبابية مدربة (مسلمين وأقباط، ذكور وإناث) في كل قرية حول المفاهيم الأساسية للمواطنة وقبول الآخر، وتطبيقها بشكل عملي من خلال مهارات العمل الجماعي والمشاركة والعمل التطوعي والتخطيط للمبادرات المجتمعية. كما قام المشروع بدعم مشروعات تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والتوعوية والمساعدات العينية في إطار مدني وأهلي، من خلال التعاون والتنسيق مع اللجان المجتمعية والمتطوعين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. كما سعى هذا البرنامج إلى ترسيخ قيم احترام التنوع وحقوق المواطنة من خلال فعاليات اجتماعية وثقافية. وفي نهاية عام 2020، تعرض هذا المشروع لاختبار حقيقي عندما تعرضت إحدى قرى المشروع لشائعات طائفية، فتعامل فريق المتطوعين بالتعاون مع المؤسسات الأهلية مع هذه الأزمة بتنظيم أسبوع للمواطنة في تلك القرية، والذي شمل فعاليات ثقافية وورش فنية للأطفال وأنشطة بيئية لنظافة وتجميل القرية وكذلك قوافل طبية بهدف تقديم الخدمات العلاجية. وقد نجحت تلك المبادرة في احتواء الاحتقان الطائفي وتجاوز تلك الأزمة.
أما خلال جائحة كورونا، فقد شاركت كل من المساجد والكنائس في مصر معًا من أجل العمل على التوعية بإجراءات الوقاية من الفيروس وكذلك في دعم عملية إعطاء اللقاح للوقاية منه. ففي محافظة المنوفية على سبيل المثال، انضم ما يقرب من 120 مسجدًا وكنيسة في المنوفية إلى حملة وزارة الصحة والسكان لإعطاء لقاح فيروس كورونا للسكان الأكثر حرمانًا في أكثر من 300 قرية بالمحافظة. وخصصت دور العبادة مساحات لفرق اللقاح المتنقلة التي زارت كل قرية طوال أيام الحملة. وتم الإعلان عن وصول فرق التطعيم ومواقعها وساعات عملها باستخدام الميكروفونات الكبيرة في المساجد والكنائس، وتشجيع الشيوخ والقساوسة لمرتادي المساجد والكنائس على أخذ اللقاح. في نهاية هذه الحملة، شارك 120 مسجدًا وكنيسة في المنوفية في إعطاء جرعات اللقاح بالكامل لما يقرب من مليون شخص في أقل من شهر.[12] وتكرر هذا الأمر في محافظات أخرى في مصر.
وعرفت مصر أيضًا خلال أزمة جائحة كورونا العديد من مبادرات الدعم بين المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية. ففي سوهاج على سبيل المثال، قدم الأنبا ويصا مطران البلينا وتوابعها، كمية من كراتين المواد الغذائية إلى مسؤولي الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، لتوزيعها على الأسر التي تضررت من الإجراءات التي اتخذتها الدولة للحد من انتشار فيروس كورونا.
وكانت الجمعية الشرعية من جانبها قد قامت بتوزيع الهدايا على الأسر المسيحية خلال فترة الأعياد، ما أطلقوا عليه “كرتونة المحبة”. وفي محافظة قنا، حيث قام شباب قرية النواهض التي يسكنها نحو 15 ألف نسمة من المسيحيين والمسلمين بالتعاون معًا من أجل تعقيم منشآت ومباني القرية، وتوفير كافة ما يلزم من كمامات ومواد مطهرة إلى مواطنيها، كما شكلت فرق متطوعة للقيام بأعمال التطهير والتعقيم. فقام الشباب بتعقيم مساجد القرية، وكذلك الكنيسة الموجودة بها.
أما في لبنان، فقد بدأ موسم الأزمات قبل جائحة كورونا. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019 ومع أولى إشارات الأزمة الاقتصادية القادمة انتشرت الحرائق في العديد من المناطق في جبل لبنان حيث عجزت قوى الدفاع المدني وقوى الأمن اللبنانيّة عن مواجهتها، بسبب ضعف الإمكانيات وعدم توفّر المعدّات اللّازمة ما شكّل فضيحة للطبقة الحاكمة خاصّة فيما خص عدم جاهزية الطوافات الخاصّة بإطفاء الحرائق وخروجها عن الخدمة منذ عدّة سنوات بسبب عدم الصّيانة، ما ساهم بشكل مباشر في اندلاع احتجاجات 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 [13].
استجابةً لهذا الواقع نظمت عديد من المبادرات الإغاثية واتّجه كثير من المتطوعين من مختلف المناطق اللبنانيّة للمساهمة في عملية مكافحة الحرائق، كما عملت المبادرات على تأمين المساكن للعائلات المتضررة، وتأمين الطعام والدواء.
ومع بداية الأزمة الاقتصاديّة وبداية الاحتجاجات الشعبيّة استمرّت بعض هذه المبادرات في تقديم المساعدة وتشكيل شبكات التضامن في ساحات المظاهرات، كما برزت لاحقًا مجموعات المتطوّعين لتأمين الغذاء والأدوية للعائلات العالقة في المنازل في الأشهر الأولى من جائحة كورونا. فظهرت كثير من المطابخ الجماعية في ساحات الانتفاضة، وعملت هذه المطابخ كخلايا لتنظيم المساعدات من ملابس وأدوية خلال الفترة الأولى من الأزمة، كما تم تأسيس كثير من المبادرات التعاونيّة الّتي هدفت إلى خلق فرص عمل إضافية وتصريف الإنتاج الزراعي المحلي والإنتاج الحرفي، وفي بعض المناطق تطوّرت هذه المبادرات لتؤسس تعاونيّات زراعيّة رائدة في قضايا السيادة الغذائية والزراعة البيئية.
بحسب دراسة نور تركماني التي سبقت الإشارة إليها[14] فقد كان لافتًا من المقابلات مع الأفراد الناشطين رؤيتهم أن في هذه المبادرات تحديًا للواقع الزبائني والطائفي القائم، حيث يصعب القيام بأيٍّ من هذه المبادرات عادةً دون مباركة الأحزاب. كما أنّ كثيرين من المنخرطين في هذه المبادرات هم أعضاء سابقون في أحزاب تقليديّة، أي إنّهم كانوا يعتمدون على هذه الأحزاب ماديًّا.
ظهرت هذه المبادرات والشبكات التنظيمية مرة أخرى في أغسطس/آب 2020، حيث انطلقت صباح اليوم التالي لانفجار مرفأ بيروت عديد من المبادرات التطوعية الّتي ركّزت في الدرجة الأولى في إغاثة الأحياء المنكوبة عبر إزالة الردم وتنظيف الطرقات، مساعدة الأهالي المتضررين وصيانة منازلهم عبر تأمينها بشكل مباشر أو المساعدة في تأمين التعويضات على المدى الأطول، وتأمين الغذاء والأدوية والملابس والاحتياجات الأخرى وتوزيعها، فنصبت الخيام في ساحة الشهداء وطرقات الجميزة ومار مخايل والكرنتينا. مع تبدد كثير من هذه المبادرات بعد الانفجار سعت مبادرات أخرى إلى تثبيت نفسها كمنصات موحّدة ومنسّقة للتأثير على المدى الطّويل، كما تطوّرت مبادرات أخرى لتتحول إلى جمعيات غير حكومية لتسهيل عملية الحصول على التمويل.
بدايةً، اعتمدت هذه المبادرات على مصادر تمويل من داخل المجتمع ومن المغتربين، إلّا أنّه مع ازدياد التمويل من المنظمات الدولية والجمعيات غير الحكومية تحوّلت هذه المبادرات إلى ما يتناسب مع شروط التمويل، ما مكنهم من توسعة مجالات التدخل وزيادة نشاطها، إلّا أنها أدت إلى إضعاف مفهوم المساعدة المتبادلة وتحويل الانخراط في الأعمال الاجتماعية والدعم إلى وظائف محترفة، أدت بالمبادرات الاجتماعية إلى أن تصبح مجزّأة ومتأثرة بغياب الأفراد وانخفاض التمويل. يعرف هذا التحول بالـ”أنجزة” (التحول إلى المنظمات غير الحكومية)، وهو مصطلح يعكس التوجه النقدي لهذه الظاهرة بما فيها من مأسسة للحركات الشعبية والمبادرات السياسية وتفريغها من محتواها السياسي.
في ظل تراجع الدّولة عن قدرتها على تأمين احتياجات الناس تحت وطأة الأزمات الّتي تعصف في لبنان منذ عدّة سنين، وفي ظلّ حاجة النّاس للبحث عن الحلول الّتي تضمن سلامتهم وتأمين لقمة عيشهم بعيدًا عن الدّولة ومؤسّساتها وانتشار المبادرات والشبكات التضامنية وشبكات المساعدة المتبادلة، يبدو أن الحديث عن القدرة على تجاوز العلاقة الزبائنية بين المواطنين والأحزاب والمؤسسات الطائفية والأدوار التقليدية ممكن. الأشهر الأولى من انتفاضة 17 تشرين وما سبقها من حرائق في جبل لبنان وما تلاها من جائحة كورونا وانفجار بيروت خلّفت أملًا في قدرة النّاس على تنظيم هذه المبادرات من خارج مظلّة الأحزاب وبما يتجاوز التقسيمات، والحساسيات الطائفية، والمناطقية، والوطنية. إلّا أن طبيعة أزمة كورونا الّتي تطلّبت أشهرًا من المعالجة وإجراءات صارمة حدّت من حريّة التنقّل وربطت النّاس في أماكن سكنهم وأحيائهم ومناطقهم وحرمتهم من القدرة على الوصول إلى المساحات والسّاحات العامّة الّتي شكلت بيئةً ومساحةً لنمو هذه المبادرات بعيدًا عن سيطرة أحزاب السلطة، حدّت من هذه القدرة وأعادت تركيز الأفراد في مجتمعاتهم الضيّقة وإخضاعهم للمؤسسات الحزبية والطّائفيّة القائمة. فقد وصل الوباء إلى لبنان في وقت مناسب جدًّا للحكومة، التي كانت تعمل بالفعل على إستراتيجيات أمنية جديدة لقمع الانتفاضات التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2019. ومن نواحٍ عديدة، أتاح الفيروس الفرصة للجماعات السياسية الطائفية المهيمنة التي تشكل الحكومة لإعادة تموضعها كلاعبين رئيسيين[15].
وقد كانت استجابة الجماعات السياسية الطائفية سريعة وواسعة النطاق: حيث استخدمت مجموعة متنوعة من الأساليب، بدءًا من المساعدة النقدية من خلال المؤسسات الدينية، إلى توزيع المساعدات الغذائية والطبية من خلال المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التابعة لها، إلى التدابير الصحية الوقائية عبر البلديات المتحالفة معها. بالإضافة إلى ذلك، سيطر خطاب الأحزاب الطائفية بسرعة على المشهد الجغرافي والإعلامي. بينما المجموعات غير الطائفية التي كانت استجابتها محدودة النطاق وأكثر عفوية، وتضمنت طرائق تدخل متنوعة. واعتمدت بشكل أساسي على منصات التواصل الاجتماعي للتواصل، في حين لم تنشر وسائل الإعلام الرئيسية سوى القليل عنها.[16]
كما أنّ القدرة على تمويل هذه المبادرات قد ضعفت بفعل اشتداد الأزمة الاقتصاديّة محليًّا، كما لعبت الظروف الدّوليّة من الحروب والتّضخّم وآثار جائحة كورونا دورًا في إضعاف قدرة المغتربين الّذين شكّلوا أساس الدّعم المادّي للمبادرات الشعبية. في حين أدّى الضعف التنظيمي للمبادرات المستجدّة إلى خسارة موقعها على المدى الطويل مقابل منافسة الأحزاب التقليديّة والطّائفيّة بقدراتها ومواردها الأكبر في تنظيم مبادرات محليّة ومحدّدة.
فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من كونه جزءًا أساسيًّا من السّلطة، استجاب حزب الله للوضع الاقتصادي والاجتماعي بطرق عدّة عبر دعمه وتسخير موارده ومؤسساته (ومنها القرض الحسن) للمبادرات والبرامج التي تنسجم مع شبكته المجتمعية. حيث قام بافتتاح سلسلة متاجر تعاونيّة في ضواحي بيروت وقام بإصدار بطاقات يوزّعها على المستحقين ليتمتعوا بخصومات ضمن هذه المتاجر التي تعتمد في جزء كبير منها على البضائع المحلية والإيرانية. وتجدر الإشارة إلى أن فئة المستفيدين قد توسعت خلال الأزمة، فبعد أن كان الحزبيون يتمتّعون ببطاقات خصومات منذ وقت طويل، قام حزب الله بإصدار بطاقات جديدة للمناصرين وأبناء بيئته تخوّلهم الحصول على خصومات أقل من تلك الّتي يستفيد منها المنتسبون.
وشهدت خطابات قيادات حزب الله دعوةً إلى التضامن والتكافل المجتمعي بالإضافة إلى تركيز منصات الحزب الإعلامية في أهمية التضامن والتعاون في المجتمع على أساس إنساني وديني أخلاقي بحت استجابةً للأزمات المتتالية. وجرت تعبئة أكثر من 20 ألف عامل في مجال الرعاية الصحية وتجهيز مراكز طبية ومستشفيات في مختلف أنحاء البلاد. حيث قدّم حزب الله الدعم إلى عدد من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين استجابةً لطلب من سلطات المخيّمات بحسب تعبير رئيس مجلسه التنفيذي.[17]
في الخلاصة، تنافست الأحزاب الطائفية والمبادرات المدنيّة في الاستجابة للأزمات المتتالية الّتي عصفت ولا تزال تعصف في لبنان منذ العام 2019. ففي حين تشكلت المبادرات التضامنية استجابة لضعف الدولة وعدم قدرتها على تأمين احتياجات الناس وسخرت قدراتها البشرية والماديّة المتواضعة في سبيل ذلك، عملت الأحزاب والجهات الطائفية على تسخير طاقاتها ومواردها الأكبر في سبيل تلبية احتياجات النّاس بعيدًا عن مؤسّسات الدّولة أيضًا وفي مبادرات تضامنيّة شبيهة بالمبادرات المدنية من حيث طبيعة الخدمات المقدمة، إلا أن الغلبة على المدى الطويل كانت للأحزاب الطائفيّة بفعل تفوقها من حيث الموارد والتّنظيم في حين خضعت المبادرات المدنيّة لشروط المانحين الدوليين وأفرغت من محتواها السياسي إلى حد كبير في سبيل استمراريتها في تقديم الخدمات.
- الأزمات والطائفية: تحدٍّ أم فرصة؟
شكلت الأزمات الطائفية التي شهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة وكذلك جائحة كورونا فرصة للتعاون بين المؤسسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، وكذلك بين تلك المؤسسات الدينية ومنظمات المجتمع المدني التي لا تحمل توجهًا دينيًّا. ويعد مشروع “تعزيز قيم المواطنة في القرى الأكثر تضررًا من الأحداث الطائفية” في محافظة المنيا في صعيد مصر مثالًا واضحًا على كيف أضحت أزمات التوتر الطائفي في محافظة المنيا فرصة للعمل بين المسيحيين والمسلمين من أجل ترسيخ قيم المواطنة في صعيد مصر. وكذلك كانت جائحة كورونا فرصة للتعاون بين المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية خلال حملات التوعية والتعقيم والتطعيم. ربما لا يزال الطريق طويلًا لتغيير بعض القواعد التي حكمت سلوك وخطاب المؤسسات الأهلية الدينية، والقواعد التي حكمت عملها لسنوات طويلة، إلا أن الأزمات التي مرت بها مصر خلال السنوات الأخيرة شكلت فرصة للعمل من أجل تغيير القواعد الحاكمة للعمل بين تلك الجمعيات والمؤسسات. وقد رأت بعض قيادات وزارة التضامن الاجتماعي وكذلك قيادات المؤسسات الأهلية تلك الفرصة وسعت إلى استغلالها. لا تزال تلك المبادرات محدودة في نطاقها الجغرافي، وأيضًا بالنسبة إلى عدد المؤسسات الأهلية المنخرطة فيها، إلا أنها تشير إلى تغير، وإن كان محدودًا، عن القواعد التي حكمت عمل تلك المؤسسات الدينية منذ سبعينيات القرن الماضي.
أما في لبنان، فإن الصورة جاءت مختلفة. فبينما شهد مطلع القرن الحالي نموًّا لمجموعات المجتمع المدني في لبنان مستفيدةً من التحديات الّتي واجهت النظام الطائفي ومن الدعم المقدّم من المنظمات الدولية، ما أدّى بدوره إلى حراك شعبي تغييري انطلاقًا من مظاهرات إسقاط النظام الطائفي في عام 2011 والّتي كسرت الانقسام القائم منذ عام 2005 بين فريقي 8 أذار و14 أذار وأسست لوجود فاعلين آخرين على الصعيد السياسي، عبورًا بالحراك الشعبي استجابة لأزمة النفايات عام 2015 وليس انتهاءً بانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين 2019 وما تبعها من انتخابات أدّت إلى اختراق المرشحين التغييريين للوائح الأحزاب التقليدية، إلّا أن الأزمات المتتالية الّتي لحقت بلبنان منذ ذلك الوقت والّتي عمّقت أزمة غياب الدولة وتطلّبت تدخل المنظمات غير الحكومية في سبيل تعويض هذا الغياب، أعادت إلى المنظمات الدينية دورها المحوري كمؤسسات خيرية تعمل على تلبية احتياجات الناس. تمتّعت هذه الجمعيات بالقدرة الأكبر على الحركة والعمل بحرية بحكم قدرتها الأكبر على الوصول إلى الموارد مستفيدةً من ارتباطها بالأحزاب الحاكمة أو بارتباطها بفاعلين إقليميين آخرين، بالإضافة إلى القوانين المحلية التي تراعي عمل الجمعيات الدينية وتحفظ استقلاليتها. يضاف إلى كل تلك العوامل، تفوق تلك المنظمات من حيث العمر وبالتالي القدرة التنظيمية والقدرة على الوصول إلى المستفيدين مقارنة بمنظمات المجتمع المدني الأخرى والتي تعد حديثة نسبيًّا. إن هذا الواقع يرتبط بالواقع الطائفي الّذي يحكم لبنان منذ عقود ما ساهم في تعزيز سطوة الأحزاب الطّائفية على مفاصل الدّولة والحياة الاجتماعيّة بما فيها الجانب الخيري. ولمّا لعبت الأزمة الاقتصاديّة والوعي السياسي المتزايد دورًا مهدّدًا لهذه السطوة، من خلال تحوّل المواطنين للبحث عن وسائل بديلة وبناء تنظيمات رديفة، لم تقوَ هذه التنظيمات الجديدة نسبيًّا على تلبية احتياجات النّاس كافّةً فاستطاعت الأحزاب الطّائفيّة انطلاقًا من قوتها وقدرتها التّنظيميّة والماديّة من استعادة مكانتها من خلال جمعيّاتها الخيريّة الطائفيّة الّتي استطاعت أن تتحوّل إلى المعين الأول لفئات كبيرة من المواطنين في ظل الأزمة.
تتشابه مصر ولبنان في عدة سمات، منها: تراجع دور الدولة عن أداء واجباتها الاجتماعية ما ترك فراغًا ملأته المؤسسات الدينية، وكذلك تتشابه كل من الحالتين في قدر من الطائفية يعرفها كل من المجتمعين، وخاصة صعيد مصر والذي تعرف بعض قراه تقسيمًا جغرافيًّا طبقًا للهوية الدينية كما هو الحال في لبنان وإن كان بشكل محدود. لكن ثمة فارق أساسي بين كل من مصر ولبنان يكمن في طبيعة الدولة والنظام السياسي. فلم يكن النظام السياسي في مصر طائفيًّا، وإن تحالف في بعض الأحيان مع قوى طائفية أو تسامح معها كما هو الحال خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. أما النظام السياسي في لبنان فهو طائفي بامتياز. ومن ثم فإن سلوك بعض مؤسسات الدولة المصرية عرفت تغييرًا خلال السنوات الأخيرة، والتي لم تعد في حاجة خلالها إلى تلك القوى والخطابات الطائفية. بل وقد رأت بعض الأصوات الإصلاحية داخل مؤسسات الدولة المصرية أن هناك حاجة إلى تغيير هذا المناخ الطائفي لما بات يشكله من عبء على الدولة والنظام في الداخل، وأيضًا على صورته في الخارج. وقد كان دور تلك الأصوات داخل وزارة التضامن الاجتماعي ودعمها حاسمًا في طرح وتنفيذ مشروع مبادرة تعزيز قيم المواطنة في القرى الأكثر فقرًا في محافظة المنيا بالشكل الذي تم عليه.
تشير تجربة بناء جسور التعاون بين الجمعيات الأهلية المسيحية والإسلامية في محافظة المنيا إلى أن دور الدولة كان هو العامل الأساسي في تحقيق هذا الأمر. فالتعاون بين قيادات الإدارة المحلية والجمعيات والمؤسسات الأهلية من جهة، والإعلان بشفافية عن رعاية وتمويل وزارة التضامن الاجتماعي لبرنامج تعزيز المواطنة بالمنيا من جهة أخرى، قد ساهم في كسب ثقة القيادات المحلية والجمهور في القري التي شملها البرنامج وسمح بالتغلب على مظاهر التعصب في بعض القرى. في بداية الأمر أدى تأثير بعض القيادات المحلية التابعة للجماعات الدينية المتطرفة إلى منع الجمعيات والمؤسسات الأهلية من تنفيذ أنشطة برنامج المواطنة وتحريض الأهالي على عدم التعاون معهم. إلا أن جهود التنسيق بين الجمعيات الأهلية والإدارة المحلية، والعمل مع القيادات المجتمعية المحايدة والتي لها مصداقية لدى الأسر قد أدى إلى التغلب على دائرة التعصب والتطرف وفتح أبواب القرية للأنشطة المختلفة.
أما في لبنان، فساهمت المنظمات الطائفيّة في تحويل الأزمة الاقتصاديّة إلى عامل هيمنة إضافي تستخدمه الأحزاب الطائفيّة للسيطرة على قواعدها الشعبيّة وتمتين ارتباطهم بها من باب الانتماء الطائفي المتزايد على حساب الانتماء الوطني. ففي حين تلعب الأزمات دورًا في إبعاد الناس عن أحزاب السلطة، يلعب العامل الطائفي دورًا في إعادة تمتين هذا الارتباط، سواءٌ من خلال نشر الحساسيات الطائفية أو من خلال ربط المساعدة بالانتماء الطائفي من خلال استغلال المنظمات الخيريّة الطّائفيّة.
ويعد هذا هو الفارق الرئيسي بين الحالتين المصرية واللبنانية. فقد استفادت الدولة المصرية خلال فترات زمنية بعينها من الأشكال الطائفية لتقديم الخدمات داخل المجتمع، بل وغضت البصر عن خطاباتها وممارساتها الطائفية خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات عندما كانت الدولة المصرية تخوض حربًا شرسة ضد جماعات العنف، فرأت الدولة في التنظيمات الدينية غير العنيفة سواء كانت في المجتمع المدني، أو حتى داخل المجال السياسي، كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين خلال تلك الفترة، بديلًا لانخراط الشباب الإسلامي في جماعات العنف. أما اليوم، فثمة أصوات داخل مؤسسات الدولة المصرية ترى أن الدولة لم تعد في حاجة إلى استمرار قواعد العمل الطائفية تلك، ما سمح خلال الأزمات الأخيرة، بمبادرات تتجاوز بها بعض مؤسسات الدولة المصرية هذا التقسيم الطائفي للعمل الأهلي. أما في لبنان، فالأمر أشد عمقًا من استغلال مؤسسات الدولة اللبنانية للطائفية، بل إن النظام السياسي بذاته قائم على أسس طائفية. فالدولة المصرية لم تكن دولة طائفية ولا كذلك نظامها السياسي. تسامح نظام مبارك خلال معركته مع الإرهاب مع بعض الخطابات المحافظة دينيًّا والتي أزكت روح الطائفية في المجتمع، لكن نظام مبارك نفسه لم يكن طائفيًّا بأي حال من الأحوال. أما النظام السياسي في لبنان فهو نظام طائفي بامتياز. وهذا هو الفارق الأهم بين الحالتين المصرية واللبنانية، وهو ما يفسر التباين الذي سعت الورقة إلى رصده برغم أوجه الشبه المتعددة بين الحالتين.
———————————————-
[1] مجموعة من الباحثين، الحالة الدينية المعاصرة في مصر (2010-2014)، مؤمنون بلا حدود، 2016. ص45.
[2] هويدا عدلي، واقع العمل الأهلي في مصر، الفرص والتحديات، الهيئة العامة للاستعلامات. متوفر على الرابط: https://hrightsstudies.sis.gov.eg
[3] المرجع السابق.
[4] وحيد عبد المجيد، أزمة الجمعيات الدينية في مصر 2013-2017، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 30 مايو 2017. متوفر على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/16309.aspx
[5] Haddad, T. (2020). Religious Welfare Organizations, Citizenship, and the State in Lebanon. Nonprofit Policy Forum, 11(3).
[6] Haddad, T. (2017). Analysing State–Civil Society Associations Relationship: The Case of Lebanon. Voluntas: International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations, 28(4), 1742–1761. http://www.jstor.org/stable/44668833
[7] Turkmani, N )2021(, BETWEEN MUTUAL AID AND CHARITY: COMMUNITY-BASED SOLIDARITY INITIATIVES DURING CYCLES OF CRISIS IN LEBANON, Friedrich Ebert Stiftung Lebanon. Available at: https://library.fes.de/pdf-files/bueros/beirut/18954.pdfand Khater, L (2019). Understanding State Incorporation of the Workers’ Movement in Early Post-War Lebanon and its Backlash on Civil Society, Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support.
[8] Turkmani, N )2021(, BETWEEN MUTUAL AID AND CHARITY: COMMUNITY-BASED SOLIDARITY INITIATIVES DURING CYCLES OF CRISIS IN LEBANON, Friedrich Ebert Stiftung Lebanon. Available at: https://library.fes.de/pdf-files/bueros/beirut/18954.pdf
[9] Egypt: Mass Attacks on Churches, Human Rights Watch, 21 August 2013. Available at https://www.hrw.org/news/2013/08/21/egypt-mass-attacks-churches
[10] محمود سطامي (محررًا)، “التنمية وتعزيز قيم المواطنة في صعيد مصر دراسة حالة لبعض قرى المنيا”، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 2021.
[11] “التضامن” تبدأ تنفيذ خطة “تعزيز قيم وممارسات المواطنة” في 44 قرية بمحافظة المنيا، جريدة الأهرام، 18 ديسمبر 2020.
[12] داليا يونس، دور العبادة تنضم إلى المعركة ضد الكورونا، موقع يونسيف مصر، 11 يونيو 2022. متوفر على الرابط: https://www.unicef.org/egypt/ar/stories/worship-places-join-fight-against-covid-19
[13] عباس الصباغ 16/10/2019، جريدة النهار، المبادرات الشعبية تخفّف نقمة الطبيعة وتقصير الدولة، لبنانيون وفلسطينيون هبّوا للمساعدة رابط
[14] Turkmani, N 2021, BETWEEN MUTUAL AID AND CHARITY: COMMUNITY-BASED SOLIDARITY INITIATIVES DURING CYCLES OF CRISIS IN LEBANON, Friedrich Ebert Stiftung Lebanon https://library.fes.de/pdf-files/bueros/beirut/18954.pdf
[15] Mona Harb, Ahmad Gharbieh, Mona Fawaz and Luna Dayekh, The Governance of COVID-19 in Lebanon: Territories of Sectarianism and Solidarity, Project on Middle East Political Science. Available at https://pomeps.org/the-governance-of-covid-19-in-lebanon-territories-of-sectarianism-and-solidarity#_edn1
[16] Mona Harb, Ahmad Gharbieh, Mona Fawaz and Luna Dayekh, The Governance of COVID-19 in Lebanon: Territories of Sectarianism and Solidarity, Project on Middle East Political Science. Available at https://pomeps.org/the-governance-of-covid-19-in-lebanon-territories-of-sectarianism-and-solidarity#_edn1
[17] ميلاني كاميتو لمي مراد، الأزمتان التوأم وآفاق الطائفية السياسية في لبنان، المركز اللبناني للدراسات، 1 إبريل 2020. متوفر على الرابط: https://www.lcps-lebanon.org/articles/details/1788/the-twin-crises-and-the-prospects-for-political-sectarianism-in-lebanon?lang=ar