الاقتصاد السياسي للقضية الفلسطينية:

مقاربة للعدوان على غزّة

توفيق حداد ,جلبير الأشقر ,وائل جمال
فلسطين
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [835.16 KB]

 

يلعب الاقتصاد السياسي دوراً مهماً في تشكيل أبعاد كثيرة للقضية الفلسطينية، ومع حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزة من المهم النظر للموضوع من منظور البنى والتفاعلات الاقتصادية/السياسية للفاعلين على الساحة في ظل النمط الاقتصادي المهيمن عالمياً، وفي ظل خصوصية الاقتصاد الإسرائيلي كاقتصاد حرب، والاقتصاد الفلسطيني كاقتصاد تابع وخاضع للاحتلال. 

في هذا السياق، نظّم منتدى البدائل العربي للدراسات في بيروت ندوة بعنوان «الاقتصاد السياسي للقضية الفلسطينية: مقاربة للعدوان على غزة»، بمشاركة «موقع صفر»، وتحدّث فيها كلّ من الصحافي والباحث الاقتصادي وائل جمال، أستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في جامعة SOAS جيلبير الأشقر، ومدير مجلس الأبحاث البريطانية في معهد كينيون في القدس توفيق حدّاد، وأدارها مدير المنتدى محمد العجاتي.

“الإمبريالية” كمدخل لفهم الحرب على غزّة

وائل جمال

صحافي وباحث اقتصادي ومدير وحدة العدالة الاجتماعية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

يسجّل العالم العربي تراجعاً في استخدام مصطلحات مثل الإمبريالية والاستعمار الجديد والسيطرة الاستعمارية، وتراجعاً في تحليل ماهية الإمبريالية في العلاقات الدولية. ويأتي ذلك، بعد سنوات من الهجمات التي تعرّض لها هذا المدخل في العلاقات الدولية، ولا سيّما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وطغيان نظريات نهاية التاريخ التي تتحدّث عن سيطرة الرأسمالية على العالم ومقولة انتهاء عصر النزاعات المسلّحة.

لقد شكّلت هذه المقولة جزءاً من خطاب الترويج للتجارة الحرّة، التي تتطلّب إنهاء الحروب والاستعمار وسيطرة الدولة القومية، وهو خطاب قادته منظّمة التجارة العالمية وتنفّذه مؤسّسات مالية أخرى ودول في النظام العالمي. إلا أن الحرب الروسية-الأوكرانية التي اندلعت في العام 2022، نقضت كلّ هذه المقولات، وألغت فكرة انتهاء الحروب بين الدول والتدخّل بالعنف والسلاح.

وبالإضافة إلى الحرب الروسية-الأوكرانية، ثمّة أدلة عديدة على سقوط هذه المقولات، كحرب الإبادة في الكونغو الديمقراطية وتسبّبها بتهجير حوالى مليون شخص، ومذبحة دارفور التي نفّذتها قوّات الدعم السريع على مرأى ومسمع من العالم، والوجود الفرنسي في مالي، والعمليّات العسكرية في سوريا التي شاركت فيها الولايات المتّحدة وإسرائيل وروسيا… إلخ. مع ذلك، كان هناك صدمة عالمية كبرى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة وقسوتها والدعم الأميركي المفتوح لها، خصوصاً أنها تزامنت مع نقاشات داخل الولايات المتّحدة عن احتمال إغلاق الحكومة الفدرالية بسبب نقص المخصّصات، فيما طلب الرئيس الأميركي جو بايدن تخصيص ما يزيد عن 100 مليار دولار أميركي لدعم أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا والإسرائيليين في حربهم على غزّة.

الحرب على غزة، إذاً، ليست حرباً إسرائيلية فحسب، بل هي حرب أميركية بدعم مادي مباشر وتدخّل ميداني على الأرض بفرق عسكرية تشارك في العمليات الحربيّة.

وما تقدّم هو تعبير عن أن استخدام القوّة المسلّحة الغاشمة في العلاقات الدولية وفي الصراعات ما زال موجوداً. ومن الأدلة الإضافية على استمرار التدخلات العسكرية هو حجم الإنفاق على التسليح في العالم، والزيادات الضخمة في الميزانيات العسكرية، سواء في الولايات المتّحدة أو في دول أخرى، بما فيها دول مثقلة بالديون مثل مصر.

صحيح أن ثمّة فارق بين تعريف الإمبريالية بمعناها الواسع، الذي كان موجوداً سابقاً، بما هي تدخل وهيمنة وأحياناً احتلال مباشر لبلد آخر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وبين ما نتحدّث عنه الآن، أي المقاربة التي أقول إنها مدخل أساسي لفهم ما يحدث في قطاع غزّة أو المنطقة عموماً. ولكن النظريات الإمبريالية هي نفسها على مدار التاريخ،  وهي تتحدّث عن مرحلة معيّنة في تطوّر الرأسمالية، وهي المرحلة التي يحصل فيها تركّز في رأس المال وتكوّن مراكز احتكارية كبيرة، وهذه الظاهرة إذا كانت موجودة في بدايات القرن العشرين، فهي في أعلى نقاطها في اللحظة الراهنة، حيث يبرز اندماج عالمي بين رأس المال المالي والإنتاجي، وما ينتج منه من أوليغارشية مالية وتصدير لرأس المال كجزء أساسي منفصل عن الاستثمار الإنتاجي، فضلاً عن ارتباطات رأسمالية عالمية لتقسيم العالم وتوزيع النفوذ بين الدول. ولكن  عند التفكير في هذه العناصر باعتبارات اللحظة الحالية، سنجد أن هذه العناصر كلها موجودة. وسنجد أيضاً، وفرة من رأس المال الذي لا يتم تصديره. هناك ارتباطات رأسمالية عالمية لتقسيم العالم وتوزيع الأرض.

وبالتالي يجدر النظر إلى الظاهرة على أنها مرحلة من تطوّر الرأسمالية وجزء من عولمة قوى الإنتاج العالمية، التي تزيد من المنافسة بين رؤوس المال بالتزامن مع أزمة عالمية ضاغطة على مستويات عدّة؛ أولها القدرة على استخلاص الأرباح وزيادة هوامش الأرباح، وثانيها شرعية النظم الحاكمة حتى في الديمقراطيات المتقدمة، عدا عن فشل النظام العالمي في التعامل مع قضايا مهمة مثل اللامساواة والتغير المناخي والجائحة الصحّية وقضايا المهمّشين داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدّمة.

على مدى السنوات الخمسين الماضية، كانت هذه الظواهر موجودة، واستمرّ استخلاص الأرباح وفوائض القيمة من العالم النامي إلى الدول الغنية، وهناك تقدير لجيسون هيكيل يقول إنه طوال السنوات الخمسين الماضية، في مقابل كلّ دولار أميركي تحصل عليه الدول النامية من  الدول  المتقدّمة كإعانات، حصلت الدول المتقدّمة على 24 دولاراً من  ثروات  الدول  النامية.

في الواقع، هناك 3 تريليون دولار تضخّها الدول النامية والفقيرة في اقتصادات الدول المتقدّمة سنوياً. وثمة دراسة أخرى تقول إن أفريقيا فقدت تريليون دولاراً أميركياً في خلال السنوات الخمسين الماضية، بمعدّل 50 مليار دولار سنوياً نتيجة التدفّقات غير المشروعة المرتبطة بالتلاعب الضريبي والتجاري.

في مقابل هذا النزوح المالي الضخم جداً، نرى تدخلات لمؤسّسات دولية كصندوق النقد وغيره عبر الإقراض الذي يتم تقديمه لبلاد، مثل زامبيا وكينيا، تحت مزاعم إنقاذها من الإفلاس المالي، وهذا ما يقودنا إلى أن هناك أشكال متعدّدة للتدخل الإمبريالي، لا تتربط بالقوة العسكرية والجيوش فحسب، بما فيها أشكال تضرب السيادة الوطنيّة مثل القروض.

عندما نحلّل وضع السياسة المصرية في التعامل مع  غزّة، في ضوء أن مصر مدينة بنحو 168 مليار دولار، ويستحق عليها سنوياً 55 مليار دولار كخدمة دين وأقساط، بالإضافة إلى أن جزءاً هاماً من الاحتياطات الخاصة بها مملوك بشكل مباشر للودائع الخليجية، حينها سيكون هناك حدود للقرار الوطني في التعامل مع قطاع غزّة. ولا أتحدث هنا عن العمليات العسكرية على أراضي القطاع فحسب، بل أيضاً عن تمهيد الأرض بالنفوذ الاقتصادي والهيمنة على الدول المحيطة ومنها مصر.

طبعاً، تشكّل الديون أزمة عالمية متفاقمة في الدول النامية بشكل أساسي وأثرها السياسي مُثبت تاريخياً  على مدى سنين طويلة، وهي جزء من العملية التي تمّ على أساسها احتلال مصر عسكرياً لاستيفاء الديون والسيطرة على قناة السويس من الإنكليز والفرنسيين بمشاركة إسرائيلية.

وهناك قضايا أخرى تعبّر عن استمرار نزوع الهيمنة لخدمة مراكز الإنتاج الرأسمالي العالمي، على رأسها  قضيّة المناخ التي بدل أن تعيد التوازن بين الدول النامية والدول المتقدّمة في تقسيم العمل الدولي وتحميل دول رأس المال المتقدّمة مسؤوليّتها تجاه هذه القضية، أصبحت مجالاً لتوسيع السيطرة على الموارد الطبيعية أو تحميل الدول النامية ثمن التخفيف من الانبعاثات. وتقول بعض الدراسات إن حجم الضرر المناخي الذي تسبّبت به الدول المتقدّمة منذ  النهضة الصناعيّة للدول النامية يبلغ حوالى 172 تريليون دولار أميركي، وقد يكون هذا المبلغ جزءاً من التعويضات المناخية التي تتملّص منها الدول المتقدّمة في العالم.

النقاش الممكن فتحه اليوم على ضوء ما نشهده من مظاهرات وتحرّكات شعبية في الدول المتقدّمة تنديداً بسياسات الغرب، هو: هل هناك إمكانية  لبناء  تحالفات بين الطبقات العاملة والجمهور الذي يعاني من الاستغلال والقمع والمراقبة حتى في الدول الإمبريالية المتقدّمة أم لا يزال من غير الممكن التعويل على تلك الشعوب التي تستفيد من انتزاع دولها الثروات من الدول الفقيرة وتحويلها إليها؟ وثانياً، كيف يمكن إعادة تأطير التحرّر الوطني، الذي عاد إلى الواجهة وأصبح لا مناص من إعادة تعريفه وتصديره في مقدمة الصورة، وتحليله سواء في  تطوّرات الرأسمالية أو في تطوّرات التنافس العالمي الموجود في الصين وروسيا إلى جانب الجسم الإمبريالي التقليدي.

الحرب هي استمرار للسياسة التي هي اقتصاد مركَّز

جيلبير الأشقر

أستاذ في دراسات التنمية والعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن SOAS

نحن بصدد محاولة معالجة ما يجري من زاوية الاقتصاد السياسي، علماً أن ما يجري يتطلّب بالدرجة الأولى تحليلاً سياسياً ومناقشة لطبيعة المشروع الدائر، وهذا موضوع آخر.

من ناحية الاقتصاد السياسي، سأنطلق من الجمع بين معادلتين؛ الأولى تقول إن الحرب هي استمرار لـلسياسة، والثانية إن السياسة هي اقتصاد مركّز. وإذا ما جمعنا المعادلتين، يتبيّن أن الحرب هي استمرار للسياسة التي هي اقتصاد مركّز. فما علاقة هذا في موضوع «دولة إسرائيل»؟

المنطلق الأول والأساسي هو بطبيعة المشروع السياسي الذي  تجسّد في هذه الدولة. وهذا أمر خاص، لأن ليست كل الدول هي نتاج لتجسيد مشروع سياسي، بل أتى معظمها نتيجة سيرورة تاريخية عبر قرون وغيرها من الأحداث السياسية.

أمّا في الحالة الإسرائيلية فنحن أمام دولة ناتجة عن مشروع سياسي، وهو المشروع الصهيوني، الذي يقوم بطبيعته الجوهرية على الاستعمار الاستيطاني، ما يعني أنه بالضرورة مشروع عسكري ومبني على العنف العسكري.

ولدت الدولة الصهيونية بالسلاح، وعاشت بالسلاح، ولا تزال تعيش بالسلاح. وقد تزول بالسلاح، ولكن هذا موضوع آخر.

لدينا حالة دولة موجودة في محيط كان حتى وقتٍ قريب بمعظمه معادٍ لها، وعلى الرغم من اتفاقيات التطبيع، لا يزال الكيان محاطاً بجزء من الإقليم المعادي له. وهذا الأمر يؤدّي إلى ممارسات حربية وأمنية كثيفة تميّز هذه الدولة عن معظم الدول العالمية.

نحن أمام دولة ينطبق عليها مقولة اقتصاد الحرب الدائمة، التي طبِّقت على الولايات المتحدة الأميركية، وقد صاغها بعض الاقتصاديين الماركسيين الأميركيين للمرّة الأولى لوصف ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حافظت الولايات المتّحدة بعد الحرب على مستوى من الإنفاق العسكري يجعلها على أهبّة الاستعداد الدائم لخوض الحرب. وينطبق هذا التوصيف بدرجة أعلى على الدولة الصهيونية لكونها أكثر ارتهاناً والتزاماً بالحرب أكثر من الدولة الإمبريالية الأكبر في العالم.

والنتيجة مماثلة لما حصل في الولايات المتّحدة الأميركية. لقد أنتج ذلك ما سُمّي بالمجمّع الصناعي العسكري، وهو تعبير عن الترابط القائم بين القطاع العسكري المؤلف من القوّات المسلّحة والصناعات والمنشآت الاقتصادية المختلفة المرتبطة بالقوات المسلّحة. في الولايات المتّحدة هذا المجمّع مؤلف من القطاع الخاص، وفي حالة مصر هو مملوك من القطاع العام.

الحالة الإسرائيلية أقرب إلى  المجمّع العسكري الصناعي في الولايات المتّحدة من حيث طبيعته. ونرى أيضاً  تشابهاً بين الولايات المتّحدة والدولة الصهيونية كون المجمّع العسكري هو مدخل رئيسي للإنفاق على البحث والتطوير العلمي.

الولايات المتّحدة التي تتمظهر بأنها دولة الاقتصاد الحرّ ودولة تقليص حجم القطاع العام، هي في الواقع «منافقة» في هذا المجال، لأن القطاع العسكري هو مجال لضخّ أموال مُكثّفة لتمويل البحث العلمي، واستمرّ ذلك لسنوات طويلة في بدايات الحرب الباردة، حيث تركّز الإنفاق على البحوث العسكرية، قبل أن يتفكّك من أجل تجاوز الحواجز بين الصناعات العسكرية والتكنولوجيات والصناعات المدنية.

المعنى الأوضح في هذا المجال هي الصناعات التي تدور في مجال المعلوماتية وغيرها من المجالات التي تستخدم في القطاعات العسكرية والمدنية. على سبيل المثال، في حالة الولايات المتّحدة، كان الإنفاق العسكري في الثمانينيات في عهد رونالد ريغن، عاملاً أساسياً في ثورة التكنولوجيا الجديدة. وللتذكير مشروع الإنترنت هو مشروع عسكري بالأساس، أطلقه البنتاغون في مجال الصناعة الحربية.

وهذا الواقع ينطبق على دولة إسرائيل. هناك توأمة في أمور عديدة بين الولايات المتّحدة والصهيونية، كون الأولى قائمة على الاستعمار الاستيطاني وقد سبق أن أبادت السكان الأصليين. ويحصل ذلك في حالة إسرائيل، إذ نشهد نوعاً من حرب الإبادة الجارية. والصهيونية ليست قائمة على إبادة الشعب الأصلي، بل على اقتلاعه من أرضه وطرده وهذا ما تجلّى في النكبة في العام 1948، وهو ما يتجلّى اليوم أيضاً.

كيف تترجم هذه الوقائع؟ دولة إسرائيل هي كما يقول عنها نقّادها – من اليسار الإسرائيلي – دولة قائمة على الجيش. هناك مقولة تميّز بين الدولة التي لديها جيش والجيش الذي لديه دولة. إسرائيل هي جيش لديها دولة. المؤسّسة العسكرية هي العمود الفقري للدولة الصهيونية، حيث يلعب الجيش العسكري الدور الأساسي في الاقتصاد.

قبل هذه الحرب التي لديها تبعات اقتصادية كبيرة – الأمر الذي قد يحول دون استمرار الحرب لفترة طويلة – كانت الميزانية العسكرية تمثل 15% من النفقات العامّة، وهذه النسبة هي عالية جداً بالمقارنة مع الدول المصنّعة الأخرى.

يوظّف القطاع العسكري 10% من إجمالي العمالة، من دون توظيفات الجنود، كما أن 40% من الصادرات الإسرائيلية هي صادرات عسكرية. وهي سبق أن طوّرت تكنولوجيات عسكرية مختلفة بهدف الاكتفاء الذاتي. وكل ذلك، يتمّ بمعونة الولايات المتحدة كما هو معروف. في المجمل، الولايات المتحدة الأميركية تعطي القطاع العسكري الإسرائيلي نحو 4 مليارات دولار سنوياً. وإزاء الحرب الدائرة، خصّص بايدن نحو 14 مليار دولار لدعم المجهود الحربي الإسرائيلي. هذا دعم مباشر، ما يعني أن هناك تواطؤ مباشر ومشاركة مباشرة في هذه الحرب الدائرة.

صحيح أن إسرائيل تعد دولة صغيرة الحجم، لكنها تمتلك جيشاً مكوّناً من نحو 180 ألف جندي إلزامي، ويرتفع العدد إلى 400 ألف جندي بعد زيادة الاحتياطي. ما يعني أن 6% من السكّان العاملين هم في القطاع العسكري، و10% هم في القطاع الصناعي.

هذه الدولة هي دولة عسكرية في المقام الأوّل، ومجيّرة بالكامل نحو الحرب والمجهود العسكري الملازم لطبيعتها الاستعمارية الاستيطانية.

هذه هي الحالة القصوى لبعض المفاهيم التي تم تطويرها في دراسة الاقتصاد في زمن الحرب، ونحن نراها بحالتها القصوى في حالة الدولة الصهيونية.

 

اقتصاد يقوم على الإفقار التنموي في الأراضي الفلسطينية

توفيق حداد

مدير مجلس الأبحاث البريطانية فرع القدس في معهد كينيون

تعدُّ دراسة العلاقة بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني مهمّة لفهم دوافع ما يجري الآن في غزة. سوف أتطرّق الى 4 مراحل بدءاً من العام 1967، حينما احتلّت إسرائيل غزّة والضفّة الغربية، ووسّعت احتلالها وصولاً إلى الجولان وسيناء.

تمتدّ المرحلة الأولى منذ العام 1967 وحتى أوائل التسعينيات، حيث حصل تقارب بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني، ولم يعد هناك حدود بين الضفّة الغربية وغزّة وإسرائيل، ودخل عمّال الأراضي الفلسطينية المحتلّة إلى الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير وهائل. كثر من هؤلاء تعلّموا العبرية، وعملوا في قطاعات البناء والزراعة والصناعات البسيطة مثل النسيج. واتسم طابع الاقتصاد في الضفّة الغربية وغزّة بـ«نزع التنمية» (De-Development).

لم تكن إسرائيل معنيّة بأن يكون هناك اقتصاد فلسطيني قوي ينافسها، ولا كانت معنية بتطوير طبقة معيّنة من الفلسطينيين كي يستفيدوا من العلاقات الثنائية بين الاقتصادين. بل على العكس، سعت إسرائيل لإبقاء الاقتصاد الفلسطيني تحت سيطرتها، ومنع أي محاولة لخلق اقتصاد إنتاجي كأساس لتقويض العمل السياسي. في تلك المرحلة، عملت إسرائيل بشكل أساسي وواضح – عبر الأعمال العسكرية – على إرساء اقتصاد يقوم على الإفقار التنموي في الأراضي الفلسطينية. وكانت غزّة بالذات مختبراً لهذه السياسات. أدّى هذا الواقع إلى اضطرار الطبقة العاملة الفلسطينية للدخول إلى سوق العمل الإسرائيلي.

المرحلة الثانية، هي مرحلة التباعد بين الاقتصاديين الإسرائيلي والفلسطيني. تعود جذور هذه المرحلة إلى اندلاع الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات، ولو أنها بدأت فعلياً مع توقيع اتفاقيات «أوسلو».

في الواقع، برزت بعد الانتفاضة الأولى معضلة أساسية للصهاينة، إذ تبيّن أن هناك عدد كبير من العرب والفلسطينيين يقطنون ويعيشون في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، وهو أمر يخالف رغبتهم بالحفاظ على الهوية اليهودية لـ«دولة إسرائيل»؛ فهي من جهة لا تستطيع منح هوية إسرائيلية للعرب كون ذلك يخالف مشروع «ألون» القاضي بالفصل العنصري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن جهة أخرى يعدّ عدم إعطائهم هويات أمراً مخالفاً للقواعد الديموقراطية اللازمة التي تدّعيها الدولة الإسرائيلية. كانت نية إسرائيل تقتضي الاستحواذ والاستيلاء على كل المصادر التي تفيد اقتصادها. وقد شكّلت اتفاقيات «أوسلو» – التي عقدت بحجّة بناء السلام وإقامة الدولتين – جزءاً من مشروعها القائم على نظام الفصل العنصري والسيطرة على أراضٍ فلسطينية إضافية وضمّها إليها.

بحكم هذه الوقائع، أصبحت التبعية سمة دائمة للاقتصاد الفلسطيني. أدّت السياسات الاقتصادية الإسرائيلية تجاه الاقتصاد الفلسطيني إلى إفقاره تنموياً، وفي المقابل لم تمتلك السلطة الفلسطينية الفرصة لتطوير اقتصادها. أيضاً، وبسبب منظومة التكنولوجيا التي تمتلكها إسرائيل، تمكّنت الأخيرة من التحكّم بالعمّال ومراقبة ما يدخل إلى تلك الأراضي وما يخرج منها. وتحت حجّة بناء المستوطنات، وبمساعدة المجتمع الدولي ونخبة من الفلسطينيين، تمكّنت إسرائيل من بناء آلة السيطرة على الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً.

بقيت هناك معضلة أساسية أمام المشروع الإسرائيلي وهي شعب غزّة. كان يُحكى منذ ذلك الوقت عن ضرورة طرد شعب غزّة من تل أبيب. وبالفعل حصل ذلك، في حين لم يكن هناك مصانع كافية في غزّة لاستيعابهم، ما أدّى إلى ضمّهم لقائمة القطاع العام. ولذلك، نرى أن القطاع العام في غزّة هو ضعف القطاع العام في الضفّة الغربية، لا سيما أن نحو 36% من العمّال في غزّة يعملون في القطاع العام، وذلك قبل فترة الانقسام مع فتح.

المرحلة الثالثة هي مرحلة الانقسام بين حماس وفتح، وقد بدأت بعد الانتفاضة الثانية في العام 2006 واستمرّت حتّى الآن. واتسمت بالانفصال بين غزّة والضفّة الغربية، أي بين حماس وفتح. في فترة الانقسام، كان القطاع العام محسوباً على فتح، وحينها طُلِب من موظّفي القطاع العام في غزّة عدم التعامل أو الانتساب إلى حماس. مع ذلك، زادت حماس حجم القطاع العام من 10 آلاف إلى 15 ألف موظف، وكان هؤلاء يتقاضون رواتبهم من تمويل خليجي قطري باتفاق مع إسرائيل. شكّل هذا الواقع جزءاً أساسياً في المرحلة الثالثة، لا سيما بعد قتل أبو عمّار والقضاء على المقاومة الفلسطينية الشعبية في الضفّة الغربية. حاول المجتمع الدولي تنسيق قيادة فلسطينية بديلة عن أبو عمّار، لكن في نهاية المطاف فازت حماس في الانتخابات بسبب مُعارضتها لاتفاقيات «أوسلو». وبالنتيجة، صبّ ضعف التمويل على الضفة الغربية، فيما فرض حصار إجرامي على غزّة منذ العام 2007، وأخضعت لأشرس أنواع الاضطهاد العسكري والاقتصادي لدرجة أن الإسرائيليين كانوا يعدّون السعرات الحرارية اللازمة للقاطنين في القطاع لإدخال ما يكفيهم ليستمروا على قيد الحياة فقط، ومن هنا يمكننا فهم ما يحصل في الوقت الراهن.

المرحلة الرابعة بدأت مع بدء الحصار، الذي فرض على قطاع غزّة، وكان قد سبقه بدء طرد عمّالها من الاقتصاد الإسرائيلي، استطاعت حماس امتصاص تلك القوّة الهائلة العاملة، التي لم يكن أمامها من خيار سوى العمل معها، ووجّهتهم نحو العمل السياسي والاقتصادي التابع لها.

منذ العام 2006 حتى اليوم، تم بناء ما لا يقل عن 550 كيلومتراً من الأنفاق تحت الأرض، وهذا أكثر بكثير من مسافة الأراضي التي تم تزفيتها بتمويل من المجتمع الدولي منذ اتفاقية «أوسلو». لقد بنى هؤلاء العمّال مدينة تحت الأرض، وساهموا في تطوير الصناعات العسكرية لحماس، التي استفادت بحكم سيطرتها على غزّة من مصادر تمويل مختلفة.

ترحيل الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء: لا توجد مصلحة للنظام المصري

منذ بدء الحرب على غزّة، سرّبت وثائق وانتشرت خطط وبرزت تصريحات عن نيّة إسرائيل تهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء في مصر. وبالفعل، تقوم آلة الحرب الإسرائيلية بكل ما أمكنها لتحقيق هذا الهدف الذي يصبّ في صلب عقيدتها الصهيونية. في المقابل، جرى تداول العديد من الأخبار عن مغريات مالية تقدّم إلى مصر لدفعها للقبول بتوطين الفلسطينيين في سيناء أسوة بتجارب سابقة استفادت منها، ولا سيما بعد توقيعها على اتفاقية «كامب ديفيد» التي نالت على أثرها مساعدات عسكرية أميركية سنوية مستمرّة لليوم، أو بعد مشاركتها في حرب الخليج الثانية في أوائل التسعينيات ونالت عليها شطباً لديونها. فهل يتكرّر السيناريو نفسه في الحالة الراهنة مقابل قبولها توطين الفلسطينيين؟

يقول الصحافي والباحث الاقتصادي وائل جمال إن «مصر سوف تعود إلى صندوق النقد الدولي»، وأن «لا علاقة لغزّة بالخلاف بين الصندوق ومصر، بل الخلاف مرتبط بمخاوف الحكم في مصر من عواقب تخفيض الجنيه المصري الذي يعد شرطاً من شروط الصندوق، ورفع أسعار الطاقة والسلع قبل الانتخابات الرئاسية. ولو أن انتظار الانتخابات لاتخاذ خطوات مماثلة لم يعد مأخوذاً في الاعتبار بعد أن تم رفع أسعار الطاقة منذ أسبوع، ووصل سعر الدولار في السوق الموازية إلى 50 جنيهاً. وبالتالي، سيحصل الاتفاق مع صندوق النقد متى رأوا أن الوضع السياسي المحلّي سيتحمّل اتفاقاً جديداً». أمّا بالنسبة لتصفير ديون مصر مقابل توطين الفلسطينيين في سيناء، فيعتبر جمال أنه «أمر صعب جدّاً. صحيح حصلت حالة مشابهة في التسعينيات عندما شاركت مصر في حرب تحرير الكويت وفي تنظيم مؤتمر مدريد. لكننا في وضع مختلف حالياً، أولاً لأن دائني مصر اختلفوا، ولم يعودوا أعضاء نادي باريس ودوله، حالياً مصر تقترض من الدول الخليجية ومن مؤسّسات دولية مثل صندوق النقد الذي لا يسقط ديونه، ولا توجد سوابق لذلك. كما أنها تقترض من الأسواق المالية العالمية، وهي تتوسّع في ذلك. قد يتم إسقاط بعض شرائح الديون، ولكن تصفير الدين الخارجي هي فكرة غير واردة تقنياً. عدا أنه يوجد إشكال مصري حقيقي مع موضوع التوطين. وهذا الإشكال نابع من رؤية النظام المصري ومصالحه، وهو ليس خلافاً استراتيجياً أو تغيراً في الموقف المصري تجاه إسرائيل».

إلى ذلك، يعتبر أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة سواس جيلبير الأشقر أن «خطط توطين أهالي غزّة في سيناء وبناء مدن فيها قائمة لدى اليمين الأقصى الإسرائيلي»، لكن بالنسبة إليه المسألة التي تفسّر موقف الحكم المصري الرافض لهذا السيناريو «ليست اقتصادية وإنّما هي مسألة سياسية. فالحكم المصري يخشى هذا السيناريو لأنه يخلق حالة توتر سياسي مستدامة، وكما قال السيسي بحضور المستشار الألماني: لو هجرتم الفلسطينيين إلى أراضينا، سوف ينطلقون بعمليات من أراضينا التي ستتحوّل إلى قاعدة عمليات، بما يؤدي إلى حرب. وهذه إشارة بالفعل إلى خوف من الطبيعة المتفجّرة للقضية الفلسطينية من أن تنتقل إلى مصر. وهي أقوى من أي مساعدة اقتصادية إلّا إذا بلغت حدودا عالية جدّاً، وهو أمر لا أتوقّعه».

هل هناك علاقة بين الحرب على غزّة والممرّ الهندي إلى أوروبا؟

قبل شهر من تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، عُقِدت الاجتماعات السنوية لمجموعة العشرين في نيودلهي، حيث تمّ الإعلان عن مشروع لإنشاء ممرّ اقتصادي يربط الهند بأوروبا مروراً بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، وجرى تقديم هذا المشروع كممر إلى «السلام الاقتصادي»، حيث تتلاقى الدول التي يمرّ عبرها على تحقيق المكاسب الاقتصادية من خلال تطبيع العلاقات بينها، ولا سيّما بين السعودية وإسرائيل. بعد عملية «طوفان الأقصى»، شاع العديد من التحليلات التي تربط بين تنفيذ العملية وضرب هذا المشروع وإنهاء خطوات السعودية نحو التطبيع.

يقول مدير مجلس الأبحاث البريطانية في معهد كينيون توفيق حداد أن «الحديث الأهم الذي سبق عملية طوفان الأقصى كان عن التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وعن مشروع اقتصادي للبلوك الغربي للردّ على المدّ الصيني، ويقضي بخلق خط تجاري ونفطي واستخباراتي من الهند إلى الإمارات مروراً بالسعودية والأردن وصولاً إلى إسرائيل، التي ستكون المنبع لتغذية أوروبا بكل تلك الموارد، لا سيما بعد خسارة الغرب لليمن وفقدان السيطرة على مضيق باب المندب». ويتابع حداد بأن «هناك أنبوب الغاز الحالي الذي ياتي من إيلات الى عسقلان. إسرائيل لديها محطتين، الاولى في الشمال في حيفا حيث لا يوجد مجال لتطويرها وقد تم شراء حصة منها من قبل الهند وقد تكون الامارات شريكة هناك أيضاً، والمحطة الثانية في أسدود التي تتلقى الكثير  من الصواريخ حالياً، وعملية 7 أكتوبر تمت في تلك المنطقة التي سيعبر فيها الخط الاقتصادي. هذا يعطي خلفية مهمة لما يحصل حالياً».

في المقابل، يرفض أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة SOAS جيلبير الأشقر اعتبار «هذا المشروع بديلاً جدّياً عن طريق الحرير الصيني، أولاً لأنه قزِمٌ بالمقارنة معه، عدا عن أنه يختلف نوعياً عنه. في الواقع، إنه بديل عن مشروع آخر لممرّ كان سينطلق من الهند مروراً بإيران وصولاً إلى روسيا. وهذا المشروع لا يختلف عن اتفاقيات أبراهام والغاية الأساسية منه ضمّ السعودية إليها، وهناك بالأساس تساؤلات عديدة عمّا إذا كان سيرى النور أم لا، ولا يجب البناء كثيراً عليه». ويصنّف الأشقر هذه التحليلات ضمن خانة «نظرية المؤامرة»، ويقول «نحن هنا نتكلّم عن عملية عسكرية جاءت كردّ فعل على عملية طوفان الأقصى. فهل نعتبر أن طوفان الأقصى هو جزء من مؤامرة لتمرير خطّ عن طريق غزّة؟ هذه النظريات ليست جدّية. ما تقوم به إسرائيل غايته ليست اقتصادية، وإنّما تدمير الخطر الذي يرون أن قطاع غزّة يشكّله على دولتهم من خلال عمليّات حماس والجهاد الإسلامي، عدا أن قسماً من الطبقة السياسية الإسرائيلية، وتحديداً اليمين الأقصى، يريد من خلال ما يجري أن يستكمل الاستيلاء على غزة عبر عمليات التهجير، التي بدأها في الضفة الغربية. هذا مشروع قديم، وهو مشروع أيديولوجي عند اليمين الأقصى لإنشاء ما يسمّي إسرائيل الكبرى، التي كانت تشمل في الماضي الأردن وتمتدّ إلى أبعد من الأردن، وباتت محصورة بعد العام 1948 بأراضي فلسطين بين البحر والنهر. لسنا بحاجة لرؤى اقتصادية أمام حلقة أخرى من الحرب الاستيطانية الاستعمارية التي تقوم بها إسرائيل على أرض فلسطين. علماً أن هذا المشروع (الأيديولوجي) يتعارض مع المعارضة الإسرائيلية نفسها، ومع الولايات المتحدة التي تريد إحياء «أوسلو» وتسليم السلطة في غزّة إلى سلطة رام الله في سياق الادعاءات بحلّ القضية الفلسطينية. أمّا ما هو موحّد بين المشروعين فهو تصفية حماس، وهذا الهدف بعيد من أن يكون مؤكّداً، ولو أنهم لا يوفرون في الوحشية وحرب الإبادة لتحقيقه».

يشرح حدّاد وجهة نظره، موضحاً مقصده، بأن «الممر الهندي إلى أوروبا، الذي يمرّ بالقرب من غزّة، يشكّل بعداً مهمّاً لتفسير سبب وقوف الغرب بكلّ وقاحتهم وحماستهم خلف إسرائيل في حربها على غزّة، ومساعدتها في محاولة اجتثاث حماس، وإنقاذ حليف رئيسي كان سيلعب دوراً رئيساً في مشاريعهم تجاه الصين»، ويشير الى «أنه ليس الدافع الوحيد طبعاً، وانما أحد الدوافع».

 

Start typing and press Enter to search