إياد أبو زنيط
الأردن ,الإمارات العربية المتحدة ,البحرين ,الجزائر ,السعودية ,السودان ,الصومال ,العراق ,الكويت ,المغرب ,اليمن ,تونس ,جزر القمر ,جيبوتي ,سوريا ,عمان ,فلسطين ,قطر ,لبنان ,ليبيا ,مصر ,موريتانيا
مرّت التحولات العالمية منذ العام 1990 وحتى اللحظة في ثلاث مراحل:
أولًا: تحولات في هياكل النظام الدولي، وتحديدًا الانتقال من الثنائي القطبي إلى أحادي القطبي وربما العكس.
ثانيًا: تحولات في طبيعة النظام الدولي حيث التحول الجذري في قائمة الاهتمامات العالمية التي تركزت لسنوات طويلة حول قضايا الأمن، وانتقلت إلى الاهتمام بقضايا النمو والتطور الاقتصادي، من ثم تعود اليوم إلى الاهتمام بموضوع الأمن.
ثالثًا: التغيير الذي حصل في البنية المؤسسية للنظام الدولي خاصةً ما يتعلق في موضوع حفظ الأمن والسلم الدوليّين ومعالجة المشكلات الاقتصادية.
ولفهم طبيعة التغيرات الحاصلة في موضوع القطبية، أحادية القطبية وثنائيّتها، أنطلقُ من أنّ هناك تقاربًا روسيًّا صينيًّا في موضوع الصعود إلى هرم القطبية العالمية بالرغم ممّا يرافق ذلك من سوء فهم حول الواقع الروسي الصيني. يتم تصويب ذلك من خلال فهم توزيع القوة العالمية في العالم بناءً على أحدث الدراسات التي صدرت عن خبراء في Future studies أو الدراسات المستقبلية؛ فإن توزيع القوة العالمية اليوم هو كالآتي: تحتلّ الولايات المتحدة من القوة العالمية في العالم ما نسبته 38.18%، وتأتي الصين في المركز الثاني وتحتل 34.55% من القوة العالمية، لتأتي بعدها روسيا مسجلةً 27.27% من القوة العالمية، وهذا بناءً على معادلة سينجر Singer لحساب توزيع القوة العالمية. بالتالي، توضح مقارنة هذه النسب مع فترات سابقة أن الولايات المتحدة تحقق نسبة 67% من توزيع القوة العالمية، وهذا يدل على أن كفّة النظام الأحادي القطبية بدأت تميل باتجاه ثنائي القطبية بناءً على معايير توزيع القوى. لنفترض أن الصين ضعيفة في هذا السياق، في حين أن روسيا قوية فذلك لن يؤهلها للصعود إلى القطبية العالمية، لكنها سخّرت كل طاقاتها وكذلك روسيا للصعود نحو القمة.
إن الايام المقبلة ستحسم هذا المشهد، لكن لا بد من الاشارة الى أن الأمر ليس سهلًا لكل الأطراف، سواءً كان الصعود إلى القطبية العالمية للصين وروسيا، أو النزول عن القطبية للولايات المتحدة. فالأخيرة لن تتنازل، والصين وروسيا لن تصعدا إلا نتيجة مخاض عسير قد تشهده كل الدول في العالم، أو كل الدول الكبرى.
النظام العربي في قلب التحولات الدولية
بعد المدخل الذي تقدم، سيتم التركيز الآن على التغييرات الدولية وما عكسته على النظام العربي أو المنطقة العربية ومنطقة الدول النامية بعيدًا من موضوع تايوان والصين وروسيا.
أ ولًا: إن نظام القطبية الواحدة الذي انطلق عام 1991 واستمرّ حتى سنوات قريبة، منع العرب، وربما كلّ الدول النامية، من فتح ثغرات للصعود في النظام العالمي. لكن التغييرات الحالية تفتح المجال أمام العرب لاسترداد نهوضهم، خاصةً أنّ نظام القطبية الواحدة المتمثل بالولايات المتحدة بدأ بالتراجع في ظلّ ما تدفع به الصين وروسيا. وبذلك، فإن مساحة سيطرة الولايات المتحدة بدأت تتقلّص لصالح سيطرة الصين وروسيا. وهنا، ما زال المجال أمام العرب مفتوحًا، لذا فإنّ الدعوة موجهة إليهم لاستثمار هذا الوضع بهدف استعادة النهوض، وإلا سيخسرون الفرصة وسيراوحون مكانهم. إن اللحظة الراهنة مؤاتية جدًّا لأن يستثمر العرب والدول النامية في هذه الفسحة التي يفتحها الصراع.
ثانيًا: يشهد العالم تحولًا خطيرًا في اتجاه تنامي القوميات أو النزعات القومية، وهي إحدى وسائل الولايات المتحدة في البقاء متربعةً على نظام القطب الواحد، وفي اللحظة التي تشعر فيها أن توزيع القوة لم يعد يميل لصالحها، صار من صالحها إعادة إحياء القوميات في العالم للتربع مرةً أخرى في نظام قطبي مقابل انشغال العالم الآخر، وتحديدًا الكتلة الشرقية، في الصراع القومي. إن الصراع والتنامي القومي ربما جاء على خلفية فيروس كورونا الذي أدى إلى انشغال كلّ دولة بنفسها، تحديدًا في الاتحاد الأوروبي حيث تزامنت مع نداءات ومطالبات كثيرة لانفصال هذه الدول عن الاتحاد الأوروبي.
في ظل ذلك، يتصاعد أمامنا سؤالٌ حول الدور العربي المطلوب. إن الدور المطلوب هو إدراك أن هناك مصيرًا مشتركًا يحتّم على الأمة العربية والدول النامية أن تتوحّد أو أن تسلك مسالكَ للوحدة خوفًا من الذوبان أو التلاشي في ظل صراع سيحدد مصيره الأقوى في العالم.
ثالثًا: استرداد الوعي الثقافي العربي في المنطقة. إنّ الحرب الأخيرة بين الولايات المتحدة وروسيا أعادت للكتلة الشرقية هيبتها في موضوع الثقافة. وهذا أمر ليس بالسهل حتى لو افترض أحدٌ ذلك. فمثلًا، يمكن الخروج من الهزيمة العسكرية لكنّ وقوع الهزيمة الثقافية يعني أن هناك من يسيطر على وعينا أو تفكيرنا. لذلك، حاولت الولايات المتحدة منذ سنوات، ومن ورائها بعض الدول الأوروبية، أن تُسقط المفاهيم الغربية على الكتلة الشرقية بحيث لا تصبح متقدمة في نظر الكتلة الغربية إلا إذا تمكنت الكتلة الشرقية من إقناع الكتلة الغربية أنها تتّبع كل معاييرها في النهوض والتقدم.
صناعة الهيمنة الثقافية واستعادة الوعي العربي
إن الحرب الأخيرة في روسيا أعادت إلى الواجهة الصراعَ الثقافي الذي أكدت من خلاله أنها ترفض فكرة أن تغيّر الكتلةُ الغربية ثقافةَ الكتلة الشرقية. لقد وضعت الولايات المتحدة معاييرَ ثقافية تمنع من خلالها المساس ومناقشة مفاهيم كاللاساميّة والمثلية على سبيل المثال لا الحصر، فيُراد من المنطقة العربية والكتلة الشرقية أن تؤمن بكل هذه المفاهيم حتى يصبح إنسانها متقدمًا بنظر الكتلة الغربية. من المهم جدًّا أن نستعيد وعينا لأنّ أساس النهوض العربي وأساس النهوض في المنطقة ككلّ يكمن في أن نستعيد إيماننا بذاتنا. مثلًا بصفتي فلسطيني، لا أجد أن هذا الوعي متفرد بذاته، ولا أنّ لدينا ايمانًا بأننا نملك وعيًا ثقافيًا متفردًا بذاته.هذا الوعي الثقافي المتفرد بذاته هو الذي سيقود إلى النهوض في المراحل المقبلة. إن النهوض في أوروبا لم يكن نهوضًا صناعيًّا في الأساس، بل كان نهوضًا فكريًّا قاده قادةُ الفكر ورفعوا لواء التغيير. لقد تعرّض واقع الفكر في منطقتنا لسنواتٍ طوال إلى حالة من التغريب والتأثر بالفكر الغربي، لذلك كانت لديه إشكالية في النهوض. وبالتالي، تُحتّم علينا التغييراتُ الدولية الحاصلة في هذه المرحلة أن نغيّر هذا الوعي.
هناك مجالات كثيرة تحاول من خلالها الولايات المتحدة السيطرة على المنطقة، منها إذابة أو صهر الهويات. لقد ذقنا هذه الويلات في أماكن عدة وتحديدًا في العراق الشقيق من خلال الصراع المذهبي، لكن الأمور تذهب اليوم إلى أبعد من ذلك، فالولايات المتحدة تحاول من خلال صهر الهويات إدخالَ الكيان الصهيوني كفكرة مقبولة في المنطقة بصفته مشروع سياسي بغلاف ثقافي يقوم على فكرة الديانة الإبراهيمية أو الديانة الواحدة. وبالتالي، يصبح قبول الصهاينة في هذه المنطقة منطقيًّا. لذا، من التغيرات الدولية الحاصلة وجود أدوات واستراتيجيات تتّبعها الدول الكبرى يمكن أن نطلق عليها سيوسيولوجيا التغيير الأميركي الممنهج تجاه المنطقة العربية والدول الضعيفة أو الدول النامية. وهو علمٌ يقوم على ابتداع وسائل عدة، أهمها اختلاق مسارات ثقافية تنصهر فيها الهويات العرقية لصالح إدخال هويات عرقية جديدة لا أساس لها في المنطقة.
وفي هذا السياق تُطرح العلاقة بين الدول التي تصارعت مع الولايات المتحدة، وتحديدًا إيران. إن إيران دولة لها ثقل في المنطقة ويعلَن لها العداء منذ العام 1979. وبالرغم من العقوبات المفروضة عليها، هي قادرة على الاستثمار في كل الموارد. وهذا يفسح المجال أمامها كي تبقى مسيطرة في المنطقة من خلال استثمارها كل أدوات التقدم لصالح وجود ذراعين يهددان المنطقة هما إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى. إنّ هذا الرأي المتطرف يفسّر لنا ضرورة إيجاد هالة من الخوف في المنطقة العربية تولّدها جهتان متصارعتان؛ وهذه نظرية ناتجة عن نظريّتين: الخوف والعنف. إن المنطقة العربية إذا شعرت ببعض الأمان فربما تتوحّد، وهذا يعاكس علم الاجتماع، ولكن كلّما شعرت بأن هناك شيءٌ يولد الخوف كلما كانت مضطرة إلى اللجوء لإقامة علاقات مع الولايات المتحدة وعدم الاستغناء عنها. لذلك هناك عنصران في المنطقة لا يمكن الاستغناء عنهما وهما إسرائيل وإيران، مع فارق التوجهات بين الطرفين.
إن المساعي الدولية توظف التغيرات في العالم لنقل إسرائيل من دولة محتلّة إلى دولة استثمار. وهذا نتاج مشاريع اقتصادية إسرائيلية لقبولها في المنطقة العربية. فضلًا عن الاكتشافات النفطية في حوض المتوسط التي تغطّي احتياجات كبرى في المنطقة العربية والعالم من الغاز والنفط. مهّد هذان السببان الطريق أمام إسرائيل لتتحول إلى دولة استثمار. لذلك، فإن دولةً عربيةً كلبنان رسّمت حدودها مع إسرئيل على الرغم من أنها لا تعترف بها. وبالتالي، هو اعتراف ضمني وإن لم يكن صريحًا لأنّ الدولة الموجودة هي إسرائيل.
يسود شعورٌ في المنطقة أن إسرائيل ستكون الملاذ الآمن للعرب في موضوع الطاقة والنفط والاستثمار فيها. وبذلك تصنَّف إسرائيل على أنها دولة مؤثرة في السياق الدولي ككلّ، لا الإقليمي فقط. عندها ينتقل التعامل معها من أنها دولة احتلال إلى دولة استثمار. وهذا يؤدي إلى تدجين الحركات العربية التي تسعى إلى محاربة إسرائيل. مثلًا: وجد “حزب الله” نفسه أمام توقيع اتفاق ترسيم حدود مع إسرائيل، وبسبب الضغوط الحاصلة في لبنان، أصبح هناك تحييد لاحتمال أن يدخل “حزب الله” في مواجهة مع إسرائيل.
وللتوضيح أكثر، لم أضع إيران وإسرائيل في سلة واحدة. هناك تحذير من مشروع إيراني في المنطقة استهدف مجموعةً من الدول العربية، ولا أساوي بالمطلق بين دولة احتلال تسعى إلى إزالة شعب أصيل له الحق في الوجود وبين جار إيراني. فقط أحذّر وأقول إن هناك استخدامًا للمشروعين لصالح خطرٍ قادم، لكني لا أتبنّى أبدًا فكرة أنهما في سلّة واحدة، فلا يمكن أن نضع أي كيان في العالم مع إسرائيل لأن إسرائيل دولة غير طبيعية، بينما كل دول المنطقة دولٌ طبيعية.
إن عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل هي من التغييرات الدولية والإقليمية التي تؤثر على المنطقة. تتخذ هذه العملية طابعًا إقليميًّا ودوليًّا لأنها حالة إقليمية مدعومة دوليًّا بهدف إيهام المنطقة بضرورة تحسين العلاقات أو تطبيعها مع إسرائيل كبوابة للدخول في علاقات سليمة مع الولايات المتحدة. لكنّ هذا الأمر مخالف للمنطق لأنّ القوة الذاتية للدول هي التي تفرض العلاقات مع الآخرين، وإن اسرائيل ليست قطعًا بوابة دخول للعلاقة مع الأميركيين.
إن ما يجري في الدول العربية هو النظر إلى اسرائيل كبوابة عبور للعلاقات الدولية، لذلك نجد أنّ دعاة رفض التطبيع أصبحوا اليوم يميلون إلى صالح تطبيع العلاقات معها بالرغم من أن إسرائيل هي احتلال وكيل وليست احتلال أصيل، والاحتلال الوكيل ينفذ ما يطلب منه عالميًّا. وبالتالي تنفّذ إسرائيل مشروعًا أميركيًّا خطيرًا في المنطقة العربية لصالح تنامي النفوذ الأميركي فيها. من واقع تجربة يعيشها الفلسطينيون، إنّ أيّ عملية تطبيع هي استغلال لموارد أي بلد، لذا فإن التطبيع في أي دولة عربية كالإمارات والبحرين وغيرها هي عملية استغلال لموارد وطاقات هذه البلدان. ولن تقدّم إسرائيل أو الأميركيون أيّ شيء مجانًا لهذه الدول، وبالتالي إن كل ما يقدم يُدفع من جيوب الشعوب العربية.
خلال الفترة الأخيرة أصبح العالم يميل إلى الديكتاتوريات، وهذه نقطة لافتة. إنّ العالم الغربي يتبنّى فكرة الديمقراطية ويعززها وينظر إليها على أنها الفكرة التي من خلالها يُستنهض وعي الشعوب. لكن كل المؤشرات العالمية اليوم تشير إلى أنه داخل الغرب والولايات المتحدة نفسها هناك انتهاك لمعايير الدمقرطة وهناك تراجع لفكرة الديمقراطية في العالم. إن فكرة تنامي الديكتاتورية في العالم سوف تولّد انفجارًا عالميًّا كبيرًا.
وبالتالي، إن التغييرات اليوم تقوم على عولمة الإنسان، بمعنى أنّ هذا الإنسان هو واحد في كلّ العالم. وفي قلب هذا التحول يمكن لنا أن نجد لأنفسنا موطىء قدم في ترويج إنساننا العربي.
أنهي بملاحظة حول مونديال قطر، إن ما جري هو مونديالَين اثنين؛ مونديال رياضي وآخر ثقافي نؤكد فيه هويتنا الحضارية والثقافية كعرب وككتلة شرقية. أطرح هذه الفكرة لأنها جزء من الصراع الفكري في بلورة فكرة عربية موحدة للنهوض.
ولتوضيح فكرة المونديال الثقافي أكثر، أضرب مثلاً عن فلسطين. نحن في فلسطين نتبنى مصطلحًا ربما يختلف عن ما يتم تبنّيه عربيًّا في إطار التعاون الطائفي والمذهبي الموجود. نعيش كمسيحيين وكمسلمين وكطوائف أخرى في ظلال “العيش المشترك” ونرفض المصطلحات التي تُفرض علينا مثل “التعايش السلمي” لأنه لم يكن بيننا في يوم من الأيام أي نزعة أو شرخ حتى نقول إنه أصبح سلميًّا. لذلك عندما نقول إن قطر أبرزت جزءًا من الثقافة، نعم هي أبرزت نمطًا من أنماط الثقافة. لم أقل أنّ سمة الخليج هي من تحتكر الثقافة العربية، ولن أتبنّى هذا الأمر. بلاد الشام جزءٌ أصيلٌ من الثقافة العربية وهي تبرز ثقافتها في الإطار الذي تراه مناسبًا لها. لذلك لا أعتبر أنّ مكونات الثقافة هي ثقافة عربية فقط، لقد أبرزت قطر جزءًا من السياق الثقافي. ولو أقيم هذا المونديال في لبنان لأبرز الأخير نمطًا من أنماط هذه الثقافة. كل هذه الأنماط مجتمعةً تشكّل السياق الثقافي العربي.