شروق الحريري
تتنوع أدوار البرلمانات بين تمثيل المواطنين والمشاركة في صنع السياسات العامة والإشراف والرقابة على تنفيذها، ويعد البرلمان أحد المكونات الأساسية للنظم الديمقراطية الحديثة، حيث يعتبر صورة حديثة لتمثيل المواطنين وإعادة إشراكهم في الحكم وتحديد أولويات السياسات العامة للدولة كعامل مساعد مع العملية الانتخابية. زادت أهمية البرلمانات في دراسات التحول الديمقراطي مع المدرسة السلوكية في سبعينيات القرن الماضي. وفي الوقت الراهن مع قدرة البرلمانات في النظم البرلمانية على إسقاط الحكومة وهو ما يعرف بـ”سحب الثقة”، حيث يتم هذا الأمر بالاقتراع داخل البرلمان، أو سحب الثقة من أحد الوزراء فقط. وهو ما يجعل البرلمان ممثلًا للشعب وحلقة وصل بين الشعب والسلطة التنفيذية. لذا فمع الأزمات يتوقع المواطنون دورًا حقيقيًّا للبرلمان يمثل آراءهم واتجاههم ويدافع عن مصالحهم ويقلل من حدة الصدمات نتيجة الأزمات سواء كانت أزمات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
نحاول في هذا المقال التركيز في دور البرلمانات العربية في أثناء أزمة (كوفيد-19) من خلال الإجابة على تساؤل: هل كان للبرلمانات دور في تغليب مصلحة المواطنين والمواطنات وتحقيق المساواة في الحق في الصحة للجميع أم أنه كان دورًا محدودًا.
تعد الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية من أهم وظائف البرلمان، وهي التي تحدد فعالية البرلمان واستقلاله عن السلطة التنفيذية، مع أزمة كورونا (كوفيد-19) أصيب العالم للوهلة الأولى بصدمة جراء سرعة انتشار الأزمة، فعلى سبيل المثال في النظام البريطاني تم إعاقة قدرة البرلمان على محاسبة الحكومة واتسمت السياسات بالمركزية الشديدة،[1] حيث عملت الحكومة المركزية/الإدارة على اتخاذ القرار دون الرجوع إلى السلطات المحلية أو استشارتها، حتى إن السلطات المحلية لم يكن لها قرار بشأن المستشفيات التي تقع ضمن نطاقها، وعبَّر عديد من النواب عن استيائهم من غياب الاتصالات والتنسيق بين القطاعات المختلفة وبين الحكومة المركزية والأطراف. كما لم تتلقَ السلطات المحلية بيانات أو معلومات من الحكومة المركزية لتتبع بيانات المرضى، أو فيما يخص الميزانية والإنفاق على المستشفيات في المحليات.[2]
لم تقتصر هذه الأزمة على الدول العربية، فعلى سبيل المثال في أثناء أزمة كورونا (كوفيد-19) استخدمت الحكومة التركية أسلوب الترهيب والقمع للتصدي للمعارضة، حيث قامت المعارضة بنقد أسلوب إدارة الأزمة ووصل الأمر إلى معارضة داخل البرلمان، فقامت السلطات التركية بإطلاق حملة التضامن الوطني لتعبئة المواطنين مع مساعدة وسائل الإعلام المملوكة للدولة.[3]
أما عن الدول العربية، فجاء الدور الرقابي للبرلمانات العربية فيما يخص الرقابة على تقديم الخدمات الطبية أو الرقابة على قرارات السلطة التنفيذية محدودًا، ويرجع السبب في ذلك إلى اعتبار النواب أن الأزمة هي من شأن السلطة التنفيذية،[4] والواقع أن هذا يظهر عدم قدرة بعض النواب على فهم أدوارهم والمنوط بهم القيام به بشكل عام، وخلال الأزمات بشكل خاص، حيث إنه من الطبيعي أن يكون الدور البرلماني محوريًّا في الرقابة والمساءلة وفي تقليل الفجوة بين السلطة التنفيذية وبين المواطنين الذين يمثلهم البرلمان.
وهو ما تدلل عليه طريقة تعامل النواب مع السلطة التنفيذية خلال الأزمة، فهناك بعض التجارب التي قامت السلطة التشريعية فيها بعمل لجان لمتابعة الأزمة والمشاركة مع السلطة التنفيذية في اتخاذ القرار، ومنها التجربة اللبنانية حيث أُنشئت اللجنة التنفيذية لمتابعة التدابير والإجراءات الوقائيَّة لفيروس كورونا، والتي تعمل بالتعاون مع الحكومة والوزارات المعنية، وتقوم برفع توصياتها إلى الحكومة من جانب ومن جانب آخر تقوم بتقديم تقرير إلى البرلمان. وقد اتسمت بعض التجارب بالدور الشكلي والمحدود للسلطة التشريعية ورقابتها على الحكومة، مثل التجربة المصرية، وفي تونس استطاع النواب في البرلمان تقديم تساؤلات مكتوبة إلى الحكومة والحصول على إجابات مكتوبة أيضًا، وأما في التجربة المصرية فساعدت التكنولوجيا والبنية المعلوماتية على تبادل المعلومات السريع بين النواب من جانب والإدارات والحكومة من جانب آخر.[5] فبشكل عام كان هناك تواصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في معظم الحالات العربية وإن اختلف من حالة إلى أخرى نتيجة غلبة القرارات التنفيذية وهيمنتها على عملية صنع السياسات لمواجهة الوباء.
أما فيما يخص الرقابة على الميزانية ومخصصات مواجهة الأزمة، فاختلفت المخصصات المالية لمواجهة الأزمة بين صناديق ظرفية تدعمها قطاعات محددة بمساهمات، ومخصصات خاصة تضخها بنوك مركزية للدول في صندوق خاص يدعم مكافحة الفيروس.[6] وبشكل عام وفي جميع الحالات -ليس فقط في المنطقة العربية- أدت أزمة كورونا إلى تعظيم دور السلطة التنفيذية في مقابل تراجع دور البرلمان فيما يخص المحاسبة والرقابة على إقرار الموازنات والحسابات الختامية. حيث لم تشهد عملية إقرار الموازنات أية اعتراضات ذات شأن في معظم حالات الدول العربية ولا أي اعتراضات جوهرية من جانب النواب وسار الأمر بشكل طبيعي في أغلب الأوقات. ويرجعه البعض إلى عوامل موضوعية في كثير من دول المنطقة، ونذكر هنا على سبيل المثال الحالة المصرية التي تعطلت فيها الانتخابات البرلمانية في أثناء أزمة كورونا. وبالطبع لبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية حادة إلى جانب عدم وجود حكومة، سوى تلك الموجودة لتسيير الأعمال، بالإضافة إلى تونس التي كانت تعاني نزاعات داخل البرلمان حتى تم تجميد عمل البرلمان من قبل الرئيس قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021. والتي أدت بشكل كبير إلى تعظيم دور السلطة التنفيذية وسيطرتها على عملية اتخاذ القرار.
إلى جانب ذلك، في السياقات المغلقة والتي لم يسمح من خلالها بدور لمراقبة البرلمان على السلطة التنفيذية سواء في المنطقة العربية أو خارجها، تُظهِر بعض التجارب محاولة النواب لعب دورًا في تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية إلى المواطنين، سواء بشكل منفرد أو عن طريق التعاون مع منظمات المجتمع المدني العاملة في هذا المجال، فعلى سبيل المثال في تونس حاول النواب بمساعدة دوائرهم التنسيق مع السلطة المحلية لتخصيص نسبة من ميزانية التنمية في البلدية لإمداد مناطق بالماء الصالح للشرب، وتم مد المناطق البعيدة بمكثفات للأكسجين بإنشاء مستشفى ميداني لمواجهة مشكلة بُعدها عن مركز المدينة حيث يوجد المستشفى، ووضع مركز تلقيح خاص بهذه المناطق البعيدة.[7] وفي لبنان تم التعاون بين البرلمان والبلديات والمحافظين لتوفير أماكن للحجر الصحي. وقد لعبت لجنتا الصحة النيابية والداخلية والبلديات دورًا بارزًا على صعيد مواكبة كل الإجراءات التي تقوم بها وزارة الصحة ووزارة الداخلية والبلديات لمتابعة تنفيذ الإجراءات التي تم التوافق عليها.
وأيضًا في بريطانيا عبَّر عديد من النواب بعد أزمة كورونا عن الاستياء من استئثار الإدارة المركزية باتخاذ القرار دون الرجوع إلى السلطات المحلية أو استشارتها، حتى إن السلطات المحلية لم يكن لها قرار بشأن المستشفيات التي تقع ضمن نطاقها، فعلى سبيل المثال لم تتلقَ السلطات المحلية بيانات أو معلومات من الحكومة المركزية لتتبع بيانات المرضى، أو فيما يخص الميزانية والإنفاق على المستشفيات في المحليات.[8] كما شهد المجتمع المدني تضييقات على عمله فيما يخص مراقبة السلطة التنفيذية، لذا فحاليًّا تتعرض الحكومة للمساءلة فيما يعرف بفضيحة المستلزمات الصحية الخاصة بأزمة كورونا. لذا تعاون بعض النواب مع مؤسسات المجتمع المدني من أجل الحصول على المعلومات وتقديم الخدمات.
ختامًا، أظهرت أزمة كورونا بما لا يدع مجالًا للشك وجود إشكالية تتعلق بالدور الرقابي للبرلمانات العربية، سواء فيما يخص فهم الدور الرقابي للبرلمان على السلطة التنفيذية وطبيعة العلاقة معها، فعلى سبيل المثال لم يستطع البرلمان في كثير من الدول في منطقتنا العربية الحصول على معلومات من السلطة التنفيذية، ففي تونس كانت تقدم الاستجوابات كتابةً ويحصلون على إجابات كتابةً أيضًاـ على عكس بعض التجارب الأخرى التي ساعد مقدار التحول الرقمي في توفير المعلومات للسلطة التشريعية كما هو الحال في مصر. كما ظهرت إشكالية أخرى، تمثلت في مركزية صنع القرار، فأظهرت الأزمة أن هناك تفاوتات من دولة إلى أخرى في درجة المركزية، إلا أن إدارة أزمة كورونا على العموم اتسمت بالمركزية الشديدة، حيث انفردت السلطة التنفيذية باتخاذ القرار وغلب دورها على دور البرلمان، وطالب رئيس الجمهورية بتفويض من البرلمان في بعض الحالات التي وجدت خلالها معوقات تشريعية لتنفيذ خطط الحكومة، كما هو الحال في الحالة التونسية.
وفي المجمل تدعونا هذه الأزمة إلى مزيد من التساؤلات حول كيفية تقوية الدور البرلماني فيما يخص صنع السياسات العامة والرقابة عليها، إلى جانب دوره في مراقبة الميزانيات العامة، فوفقًا لتجربة أزمة (كوفيد-19) غابت رقابة البرلمانات على المخصصات المالية الخاصة بمواجهة الأزمة في عديد من التجارب، حتى في التجارب الديمقراطية الأكثر رسوخًا، كتجربة بريطانيا وما نتج منها حاليًّا من أزمة للحكومة ومساءلتها أمام البرلمان، كما غابت الرقابة البرلمانية في حالة تحديد مخصصات مالية للتعامل مع أزمة كوفيد من خارج الموازنة العامة.
[1][1] Rhiannon Frowde and others, Fail to Prepare and you Prepare to Fail: The Human Rights Consequences of the UK Government’s Inaction during the COVID-19 Pandemic, National Library of Medicine, 2 Nov 2020, https://bit.ly/3OYrxCh
[2] Philip Lewis, Public services: impact of the Covid-19 pandemic, UK parliament, 15 July 2021, https://bit.ly/3CbEQHE
[3] عزت مصطفي، أزمة وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيدــ19( وتداعياته المحلية والإقليمية والدولية، المجلس المصري للشؤون الخارجية، أكتوبر 2020، https://bit.ly/47XVqtx
[4]محمد العجاتي، دور البرلمانات العربية في الاستجابة للأزمة المتعلقة بكوفيد-19، دراسة مقارنة (مصر، تونس، لبنان، المغرب، العراق، والإمارات)، اليونسكو، دراسة غير منشورة.
[5] محمد العجاتي، دورالبرلمانات العربية في الاستجابة للأزمة المتعلقة بكوفيد-19، دراسة مقارنة (مصر، تونس، لبنان، المغرب، العراق، والإمارات)، اليونسكو، دراسة غير منشورة.
[6] مليارات الدولارات.. تعرف على الميزانيات المخصصة لمكافحة “كورونا” عربيًّا وعالميًّا، الحرة، 16 مارس 2020، https://cutt.ly/Cx8yRWC
[7] محمد العجاتي، دور البرلمانات العربية في الاستجابة للأزمة المتعلقة بكوفيد-19، دراسة مقارنة (مصر، تونس، لبنان، المغرب، العراق، والإمارات)، اليونسكو، دراسة غير منشورة.
[8] Philip Lewis, Public services: impact of the Covid-19 pandemic, UK parliament, 15 July 2021, https://bit.ly/3CbEQHE