أيلول/ سبتمبر 2023
للبنك الدولي وسياساته تاريخ طويل في منطقتنا، لعل أول محطاته كانت في العام 1955 عندما رفض البنك الدولي تمويل بناء مصر للسد العالي في مصر، وما تلاها من أحداث وتطورات سياسية غيرت وجه المنطقة. ظل دور البنك ومؤسسات التمويل الدولية محدود في دول بعينها في المنطقة وبدرجة محدودة إلى ان بدا دوره في التزايد عبر سياسات تمهيدية في السبعينيات وبأجندات وبرامج في الثمانينات ويرصد المقال التالي المنشور في مدى مصر تطور هذه السياسات في الحالة المصرية والتي يمكن أعتبرها نموذجا لما حدث في منطقتنا العربية1.
“كتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين فى الصفحة الأولى من الأهرام «12 يوليو 1974» مقالا بعنوان “الانفتاح ليس سداح مداح“، هاجم فيه القانون رقم 43 لسنة 1974 والذي أصدره حينها عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء في حينه ويقضي بفتح باب الاقتصاد المصري لرأس المال العربي والأجنبي في شكل استثمار مباشر، ورغم أن مضمون مقال أ/ بهاء لم يكن أكثر من انتقاد للأسلوب أكثر من المضمون إلا أنه قوبل بغضب ساداتي كبير. إلا أنه بعد أحداث 17 و18 يناير 1977 وجدت السلطة ضالتها لتهدئة وتمرير مثل هذه القوانين في فكرة أحمد بهاء الدين وهو منها براء، لوم الأسلوب والمسمى والاستمرار في نفس المنهج والسياسات الذي يفرضهم صندوق النقد والبنك الدوليان. فمن انفتاح إلى إصلاح إلى تكيف هيكلي إلى إعادة هيكلة إلى خصخصة إلى تعويم، تغيرت الأسماء والفعل واحد. ومن سداح مداح عبد العزيز حجازي، كان عدم تخصص ممدوح سالم سببا للحالة الاقتصادية السيئة، ليرحل في 1978، ويأتي مصطفى خليل لينفذ السياسات بشكل أكثر كفاءة تقنية كما طرح آن ذاك فتتراجع مؤشرات التنمية ويصبح استغلال أصحاب الحظوة والنفوذ هو السبب، فيأتي عاطف صدقي ويرحل في 1996 ملوما على الفساد، ويتولى الجنزوري ثلاث سنوات منفذا نفس ذات السياسات لكن الفشل كان هذه المرة بسبب تباطؤ التنفيذ. وعندما يأتي عاطف عبيد ويسرع في السياسات يصبح التسرع هو سبب التدهور الاقتصادي. ويأتي أحمد نظيف لضبط الإيقاع ولكن يا للأسف اقحام رجال الأعمال يجعل الفساد يفشل السياسات ويمنع تساقط الثمار الذي بشروا به، وبعد 2011 يأتي هشام قنديل ليطرح ذات السياسات ولكنه يفشل بسبب الأخونة، أو هكذا قالوا. ليأتي شريف إسماعيل وتستمر المسيرة.
للأسف خلال أكثر من أربعين عاما والسؤال هو: لماذا تفشل سياسات مؤسسات التمويل؟ ولم يفكر أي نظام سياسي إذا كان الداء في السياسات أم في المنظومة ككل. إحدى الخلاصات الهامة لكتاب توماس بيكتي “رأس المال في القرن الواحد والعشرون” الكتاب الاقتصادي الأكثر مبيعا في عام 2014، هو أن النظام الرأسمالي طوال تاريخه أدى لتراكم في نفس الضفة وأن تساقط الثمار لم يحدث داخل نفس المجتمعات. ويمكن الجزم من خلال خبرات تطبيق روشتات الصندوق والبنك الدوليين أن انعدام العدالة المشار إليه في داخل الدول عند بيكتي هو ذاته ينطبق على المجتمع الدولي، فالتراكم يحدث في الدول الأكثر غنى بينما أجندة المؤسسات الدولية لا تزيد الدول النامية إلا فقرا. هذا ليس بسبب سرعات التطبيق أو الفساد أو الكفاءة، إنما بسبب طبيعة النظام الذي يقوم بالأساس على ضرورة وجود هذه الطبقات سواء داخل الدولة أو بين الدول، فبدون عاطلين لا يمكن توفير أيدي عاملة رخيصة، وبدون دول فقيرة لا يمكن الحصول على المواد الخام الرخيصة، كمثال. وبالتالي طبيعة النظام تحافظ على هذه الفجوات بل وتقويها ولا تساعد على تجاوزها إلا في استثناءات قليلة بتطلبها تغيرات في طبيعة السوق أو الترتيبات الخاصة بالنظام الدولي بمعنى أنها بسبب تغيرات تطرأ عليه، أو احتياجات لتجاوز أزمته، أي بالأساس لأسباب ذاتية. أما الدول التي تمكنت من الانطلاق في القرن الواحد والعشرين وأبرزها دول أمريكا اللاتينية فأنهم لم يتمكنوا من الانطلاق إلا بعد التخلص من قيود المؤسسات الدولية وأجندتها الرأسمالية، ومن النكات التي كانت تطلق في بدايات القرن في دول أمريكا اللاتينية التي عانت طويلا من هذه الروشتات، أن المكسيك قد نجحت في تطبيق سياسات الإصلاح الخاصة بالبنك الدولي لدرجة جعلتها تكرر نفس الروشتة ثلاث مرات. ولكن يبدو أن المأساة الأكبر التي قد يرونها في منطقتنا هي أن دولا ظلت تطبق الإصلاح إلا أبد الآبدين.
وعلى الضفة الأخرى ومع الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، بدأت تُطرح أسئلة حول نجاح النظام الاقتصادي الرأسمالي خاصة مع أزماته المتكررة، وحاول الكثير من داخل التيار الرأسمالي وحتى من خارجه إيجاد إجابات لهذه الأسئلة. إلا أن الإجابة التي طغت جاءت عبر حركة بهلوانية لبعض منظري التيار من خلال إحياء سيرة مدرسة شيكاغو، وهنا نقول إحياء سيرة لأنها كسياسات كانت متواجدة. ثم ربطها بسياسات ريجان وتاتشر رغم أنهما لم يدعوا إلى أكثر من تطبيق نظام السوق الحر، ثم تلبيس هذه السياسات الأزمة الاقتصادية متجاهلين التغيرات التي قام بها الديمقراطيون بعد ريجان وحزب العمال بعد تاتشر. وهكذا أصبحت هذه النوعية من الرأسمالية والتي أطلقوا عليها النيوليبرالية سبب الأزمة بدلا من النظام الرأسمالي. وقد حلى لبعض العرب تسمية هذه السياسات بالليبرالية المتوحشة مستخدمين عنوان كتاب د. رمزي زكي، والذي هو كما أحمد بهاء الدين في موضوع “السداح مداح” بريء من هذا المصطلح، فالمتوحشة في عنوانه كان وصفا للرأسمالية وليس صكا لمفهوم.
بالتأكيد هذا الأسلوب هو نتاج جهد بحثي وفكري تحت رعاية أصحاب المصالح الكبرى في العالم من شركات ودول ومؤسسات دولية مستفيدة من النظام القائم، وعندما يحاج خصومهم الأفكار التي يطرحونها بزيادة أرقام الفقر حول العالم وزيادة الفجوات الطبقية ونسب البطالة، عندما يطرحون بالحجج والبراهين عليهم تراجع مستوى الخدمات العامة عندما تركت للسوق الحر في أقصى الدول الرأسمالية، يظهر أنصار النظام الرأسمالي ثلاث حجج لترويج بضاعتهم لحل أزمة النيوليبرالية من خلال إجراءات الرأسمالية وهي:
- التأكيد على ضرورة “الواقعية” وقبول أية مشاكل ناجمة عن تطبيق سياسات الخبراء (كتفاقم الخلل في توزيع الثروة، أو ارتفاع معدل البطالة)، باعتبارها كلفة إنسانية لا بد منها حتى تؤتي السياسات “العلمية” ثمارها، وليست نتيجة لانحياز اجتماعي كامن في هذه السياسات العلمية ذاتها. لنا في تبرير أثار تعويم الجنيه في مصر مثال.
- تحديد “مناطق فنية آمنة” يختص بها الخبراء وحدهم ولا ينبغي أن يتطرق إليها الساسة. فما أن يأتي الحديث عن قضايا التنمية أو إدارة أي شأن اقتصادي حتى تتم الإحالة الفورية إلى رأي الفنيين، بل إن تطورات عديدة في العقود الماضية أدت إلى إخراج القرارات الفنية –في المسائل الاقتصادية- من دائرة الإشراف السياسي (مثال: التوجه نحو زيادة “استقلالية” البنوك المركزية، أو نقل عملية صنع القرارات الاقتصادية في العديد من الدول النامية من البرلمانات إلى الأجهزة التنفيذية “المتخصصة”)، ووصل الأمر في بعض الحالات إلى إخضاع العمل السياسي وكافة شؤون المجتمع إلى اعتبارات الكفاءة الاقتصادية بالمعنى الفني الضيق (بلغ ذلك في بعض الأحيان مستويات فجة في بعض دول أمريكا اللاتينية عندما كان يتم حل برلمانات بدعوى أنها تتخذ قرارات غير رشيدة اقتصاديا). نرى هذا منسجما تماما مع تجاهل عرض قرض صندوق النقد على البرلمان المصري.
- تصوير الظروف الاجتماعية في “المجتمعات التقليدية” على أن لها وجودا طبيعيا وأزليا. فالتفاوت في ملكية الأراضي مثلا يجد أصوله في ظاهرة الملكية الفردية للأراضي التي تعد ظاهرة طبيعية موجودة من قدم التاريخ، والمجتمع الريفي في مصر مثلا لم تتغير أوضاعه منذ آلاف السنين، ولا يمكن لها أن تتغير إلا بتدخل “علمي” لزرع قوانين التحديث في هذا المكان المستعصي على التحديث. وهو الخطاب السائد فيما يخص نظام الدعم النقدي في مصر.
بين المطالبة بالواقعية، وبناء المناطق الفنية الآمنة، تتحقق هذه المتتالية المأساوية التي عاشها كثير من الدول العربية: ففي البدء يتم فصل الحيز الاقتصادي عن أية اعتبارات سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية، باعتبار أن المسائل الاقتصادية ذات طبيعة فنية بالأساس، ثم يتم إعادة تعريف الاقتصاد، بحيث لا ينظر إليه كأحد جوانب الحياة، وإنما -على حد تعبير الاقتصادي الشهير جاري بيكر الحائز على جائزة نوبل عام 1992- كمنطق علمي للتفكير وحساب جدوى يمكن تطبيقه على كافة مجالات الحياة، ومن ثم يتم إسقاطه على سائر قضايا المجتمع لتخضع جميعها لحسابات الربح والخسارة، لتكتمل الحلقة التي تبدأ بإخراج الاقتصاد من دائرة رقابة المجتمع، وتنتهي بعودته للهيمنة على كل مقدرات المجتمع.
بهذه الحيل الثلاث وتحت شعار النيوليبرالية تتحول الرأسمالية من أزمة إلى حل، فبدلا من البحث عن أطر بديلة للرأسمالية يصبح الحل أبسط وأيسر هو التخلي عن النيوليبرالية والعودة للرأسمالية الرشيدة. وهو ما يبدو بنفس حكمة الإسراع لإغلاق النافذة في وجه لص ترك الباب مفتوحا، فهل سيفكر العالم يوما في إغلاق الباب في وجه اللص؟”
إذن المسألة ليست مؤامرة كما يطرح البعض أو كما يفهم أنصار هذه السياسات من النقد الموجه لها، الخلل يكمن في طابع هذه السياسات وفساد المنظومة ككل والتعامل معها لو كان هناك اضطرار فيجب ان يكون في إطار الحذر والحرص وليس الترحيب والاندفاع والإيمان المطلق بمنهجها.
وفي هذا الإطار يقدم هذا التجميع ما صدر عن منتدى البدائل العربي للدراسات على مدار سنوات عمله حول مسألة مؤسسات التمويل الدولية وتأثيرها على المنطقة العربية وذلك بمناسبتين الأولى احتفالات المنتدى بمرور خمسة عشر عام على تأسيسه، والثانية تزامن ذلك مع انعقاد الاجتماع السنوي للبنك الدولي في منطقتنا العربية في مراكش في أكتوبر/ تشرين أول 2023.
ويتناول هذا التجميع تأثير البنك الدولي ومؤسسات التمويل الدولية على منطقتنا من خلال ثلاث محاور، الأول يحلل أثر هذه السياسات على الوضع الاقتصادي لبلادنا من حيث المديونية، التضخم، الفقر والغذاء، البطالة واللامساواة. أما المحور الثاني فينتقل إلى تأثيرها على منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في منطقتنا من خلال الحق في التعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي، والحق في العمل، والسكن اللائق. أما المحور الثالث فيطرح تداعيات هذه السياسات على الفئات الأكثر هشاشة مثل النساء، العمال، اللاجئين والمهاجرين والأقليات الدينية والعرقية.
المحور الأول– مؤسسات التمويل الدولية واقتصاديات المنطقة العربية:
- ورقة: عمر سمير خلف، المؤسسات الدولية والعدالة الاجتماعية في دول الربيع العربي:
- ورقة: رشا أبو زكي، المؤسسات الدولية في الاقتصاد البديل
- تقرير ندوة: فواز طرابلسي، وائل جمال، ومحمد زبيب، الريعية وأزمة الاقتصادات العربية: حالتي مصر ولبنان
- ورقة: رضوى الخولي، سياسات إعادة هيكلة سياسات الدعم:
https://socialjusticeportal.afalebanon.org/publication/4725/
- تقرير ندوة: محمد زبيب وليلى الرياحي، الريعية والأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على المنطقة: https://bit.ly/3GHC2oj
المحور الثاني– سياسات مؤسسات التمويل الدولية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
- ورقة: محمد العجاتي وشروق الحريري، كوفيد 19 وأزمة الديموقراطية: أصل الأزمة وسبل تجاوزها
- ورقة: منتدى البدائل العربي للدراسات، إشكاليات عمل المنظمات المانحة في المنطقة العربية
- ورقة: زينب سرور، المؤشرات البديلة والرفاهية الشخصية،
- ورقة: شيماء الشرقاوي، في مواجهة تسليع الخدمات العامة: كيف يكون شكل سياسات السكن في الاقتصاد البديل،
- ورقة: جلبير أشقر، السيادة والتنمية: https://bit.ly/3UBPMXm
المحور الثالث–تداعيات سياسات مؤسسات التمويل الدولية على الفئات الاجتماعية:
- تقرير: منتدى البدائل العربي للدراسات، عن مائدة خبراء مشروع العدالة الاجتماعية:
- كتاب: محمد العجاتي (محرر)، اتفاقيات التجارة الأوروبية: الاستثمار في التنمية أم تنمية الاستثمارات؟
- ورقة: محمد العجاتي، مطالب الثورة المصرية والفاعلون الجدد:
- كتاب: محمد سعيد السعدي وآخرون، الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية:
خاتمة–رؤى وأطروحات بديلة:
- ورقة: وائل جمال، اللبنات الأولى لاقتصاد بديل:
- كتاب: سلامة كيلة وآخرون، الاقتصاد البديل في المنطقة العربية “المفهوم والقضايا”:
1 محمد العجاتي، من انفتاح السداح مداح إلى النيوليبرالية المتوحشة: تغيير الخطاب وثبات المضمون، مدى مصر، 8/12/2016: https://shorturl.at/cuAT0