ندوة: الموجة اليسارية في أمريكا اللاتينية وأزمة الديمقراطية الليبرالية في العالم
عمرو عبد الرحمن



Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [420.87 KB]

كل المؤشرات الخاصة بالديمقراطية وحكم القانون تشهد تراجعا حادا في كل العالم في السنوات الأخيرة وتشهد ثباتا في أمريكا اللاتينية، وكل التراجعات عن الديمقراطية التي تحصل فيها تتميز بانها قصيرة المدى ويتم بعدها استعادة الديمقراطية. فحسب العديد من المؤشرات، كمؤشر الإيكونوميست Democracy Index أو مؤشر بيت الحرية الشهير Freedom House تتميز دول أمريكا اللاتينية باستقرار المؤشرات الديمقراطية في الفترة من ٢٠٠٦ إلى ٢٠٢٠. لذا نحول من هذه المداخلة تتبع هذه الحالة خاصة بعد عودة اليسار للحكم في البرازيل بفوز لولا دي سيلفا بالانتخابات الرئاسية والانقلاب الذي شهدته بيرو في الآونة الأخيرة.

أميركا اللاتينية في مرآة مؤشرات الديمقراطية: استقرار ديمقراطي طويل وموجات سلطوية قصيرة العمر

بدءًا من العام ٢٠١٨ تظهر اهتزازات في مؤشرات الديمقراطية تبعًا لانتخاب اليميني المتطرف جايير بولسونارو لرئاسة البرازيل، ثم الانقلاب الدستوري على حركة ماس الحاكمة في بوليفيا في ٢٠١٩ وأخيرًا الانقلاب الدستوري على الرئيس البيروفي المنتخب حديثًا كاستيو. إلا أن هذه الاهتزازات كانت قصيرة العمر، فتم التراجع عن الانقلاب في بوليفيا سريعًا واستعادت حركة ماس الاشتراكية السلطة بالانتخابات مرة ثانية في 2020، بعد أن تنحى الزعيم التاريخي لها إيفو موراليس، كما عاد الزعيم التاريخي لحزب العمال، لولا، للسلطة في البرازيل على حساب بولسونارو في مطلع العام الحالي.

ولا تختلف النتيجة إذا ما اعتمدنا طرق تصنيف مبدعة قليلا في قياس حالة الديمقراطية، تأخذ في اعتبارها أبعاد مختلفة مثلا الديمقراطية التشاركية بدرجة مشاركة الناس في العمليات الديمقراطية ليس فقط بالتصويت، ولكن باقتراح مشاريع القوانين والاستفتاءات وحق السحب أي سحب او اعفاء نائب من مهامه في البرلمان. مشروع مبتكر مثلًا كمشروع “تنوعات الديمقراطية” V-Dem يعتمد خمس مؤشرات لحالة الديمقراطية، تتضمن المؤشر الأهم وهو مؤشر دورية الانتخابات، ولكن أيضا يأخذ في اعتباره مؤشرات اخرى كالعلاقة بين السلطات، أو التوازن بينها بالأحرى، كما يتابع حالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية داخل البلد، على اعتبار أنه إذا كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في حالة متدهورة، فهذا ينعكس بالضرورة على نفاذ غالبية السكان لمواقع صناعة القرار وقدرتهم على التأثير فيها. وبالتالي فهو يتعامل مع حالة الحقوق الاجتماعية بوصفها مؤشرا على حالة الديموقراطية في البلد.

تصل هذه المؤشرات الجديدة لنفس النتيجة وهي ثبات الأداء الديمقراطي في أميركا اللاتينية وقصر موجاتها السلطوية مقارنةً بباقي أقاليم العام، كما تشي حالات في أوروبا الشرقية وروسيا – التي تزداد سلطوية خصوصًا في سياق الحرب على أوكرانيا – وكذلك ديمقراطيات عريقة كالهند. وحالة الجوار العربي في إيران وتركيا كذلك تسير في نفس المسار السلطوي العام. وطبعا كل الدول العربية تقريبا تعيش في نظم سلطوية اليوم وحتى التجربة في تونس فهي تشهد تراجعا منذ جويلية 2021 وكذلك الحال في أفريقيا جنوب الصحراء حيث عادت الانقلابات العسكرية الكلاسيكية سواء في بوركينا فاسو أو مالي.

والخلاصة من استعراض سريع للمؤشرات هو أنه بخلاف الرواية الرسمية التي تقول إن الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية التمثيلية في تراجع في العالم تحت ضغط صعود الشعبوية، خصوصا الشعبوية اليمينية التي كان مثالها الكلاسيكي هو حالة دونالد ترامب، وطبعًا في البرازيل في شخص بولسونارو، إلا ا أن الوضع في أمريكا الجنوبية يكاد يكون هو الوضع الأفضل في العالم على صعيد الاستقرار الديمقراطي.

تناقضات تجربة اليسار الوردي وعودة التهديد السلطوي:

كيف نفسر هذا الثبات؟ وكيف تضمن الحكومات في أمريكا اللاتينية اليوم استمراره أو تعميقه إن أمكن؟ إن سنوات استقرار وترسخ الديمقراطية في أمريكا اللاتينية كانت هي سنوات صعود اليسار للسلطة في هذه المجتمعات. بمعنى أن المؤسسات الديمقراطية في الحقيقة اكتسبت عمقها وترسخت دعائمها في ظل وجود حكومات يسارية. بدايةً من سنة ٢٠٠٦ بدأ الحديث عن الموجة الوردية لوصف هذا الصعود، خصوصًا مع إعادة اكتشاف كتاب جورج كاستنييدا “اليوتوبيا غير المسلحة” المكتوب في منتصف التسعينيات. والتسمية طبعًا تستهدف تمييز موجة الصعود اليساري في هذا الوقت عن الموجة الحمراء التي ميزت أمريكا اللاتينية اثناء ثورات الستينات والسبعينات وما وسم تلك الفترة من اللجوء إلى الكفاح المسلح.

وقد أتى الصعود اليساري الوردي بعد موجة طويلة من التحول النيو ليبرالي في أمريكا اللاتينية بدأت في منتصف السبعينيات وامتدت طوال عقدي الثمانينات والتسعينات. وبينما افتتحت الانقلابات العسكرية الشهيرة تلك الموجة، فقد أسفر انهيارها واستعادة الحكم المدني عن تكون ديمقراطيات هشة في هذه المنطقة. عرفت هذه الفترة مثلًا ظاهرة الأوليجاركية في العديد من الدول ممثلة بسيطرة عائلات معروفة على كل المؤسسات المنتخبة، أي ان مراكز الثروة هي التي تتحكم في العملية السياسية. وقد حدث التحول النيوليبرالي عبر آلية الاقتراض أساسًا، والتراجع عن التصنيع والتوجه الى الخدمات، مما أدى الى ازمة اجتماعية حادة بدأت تضرب هذه المجتمعات منذ التسعينات وتضررت منها خاصة الطبقات الوسطى وباقي الطبقات الشعبية بطبيعة الحال.

على هذه الخلفية شهدت المنطقة بداية الصعود اليساري الوردي وهذا بفضل ٣ أسباب. أولها أن الحركة العمالية التقليدية بدأت تعيد تنظيم صفوفها وتتطلع الى لعب دور سياسي بدلًا من الاكتفاء بالدور النقابي. السبب الثاني هو تحول في تكتيكات التنظيمات اليسارية المسلحة التي تركت السلاح وبدأت تبحث عن دور جديد لها في المشهد السياسي المتغير، خصوصًا مع انهيار الكتلة السوفيتية. السبب الثالث هو حركات مطلبية كبيرة من السكان المهمشين تاريخيًا خلال هذه الفترة مثل حركات الفلاحين، وحركات المزارعين بلا أرض، خاصة في البرازيل، وحركات السكان الأصليين في البلدان التي يرتفع فيها مكون السكان الأصليين ديمغرافيًا مثل البيرو وبوليفيا وبصفة اقل فنزويلا وكولومبيا.

من جماع هذه الروافد الثلاثة ظهرت الأحزاب الانتخابية اليسارية الضخمة، التي تختلف عن المنظمات اليسارية المحترفة قليلة العدد شديدة التنظيم، ومن أبرز الأمثلة على ذلك “الحركة نحو الاشتراكية” أو MAS في بوليفيا، وحزب العمال في البرازيل، وأيضا تجربة عدد من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الجديدة في الأورجواي وتشيلي.

كشف حساب لتجربة اليسار الوردي:

يعد الإنجاز الأهم هو تحصين أو مأسسة الديمقراطية في هذه المجتمعات Democratic Consolidation وذلك من خلال مواجهة الأوليجاركية، ومحاولة تحرير القضاء والامن والجيش من تحكم أصحاب الثروات، والعمل على توازن السلطات، ومحاولته أيضا لاستيعاب غالبية مطالب حركات المهمشين مثل الفلاحين أو السكان الأصليين.

ويأتي في المرتبة الثانية النجاح في إنجاز إصلاحات اجتماعي معقولة في حدود علاقات الإنتاج السائدة. وأبرز الأمثلة على ذلك التوسع في برامج الدعم، وبرامج التوظيف، مع استيعاب السكان الأصليين والسود من خلال التوظيف أو التمثيل النيابي، كما تم مد البنية الأساسية في المناطق الفقيرة. وفي هذا الصدد نلاحظ اختلافات بين بلدان أمريكا اللاتينية في جذرية هذه الإجراءات فمثلا بوليفيا كانت أكثر شدة اذ اتجهت لتأميم الصناعات خاصة في قطاع بالتعدين، ولكن عموما كل الدول اتخذت إجراءات متقاربة.

كان لهذا التوسع في برامج الانفاق الاجتماعي، بدون تغيير في علاقات الإنتاج، أثرًا سلبيًا مباشرًا على الطبقة المتوسطة التي استثنت من امتيازات الانفاق الاجتماعي فمثلا لا يشملها الدعم ولا التسهيلات في الحصول على قروض ولا التمتع بالتعليم المجاني، في حين لم تؤثر نفس الإجراءات على أنماط استهلاك الفئات الأعلى دخلًا. كما زادت الأزمة المالية العالمية بدءًا من ٢٠٠٨ من معاناة الطبقات المتوسطة بسبب تراجع الاستثمارات الخارجية مما أدى الى تباطؤ النمو في العقد الماضي والذي بدأ يعرف في الأدبيات الاقتصادية بالعقد الضائع في أميركا اللاتينية.

يمين ويسار جديدين:

في هذا السياق يمكن فهم خصوصية موجة اليمين الشعبوي في أمريكا اللاتينية، والتي يجسدها بولسونارو بشكل صافي. فهي استندت أساسًا على التوتر الحاصل في الطبقة الوسطى، وسعت لتوجيهه وجهة قومية متطرفة ضد سياسات اليسار وضد الكثير من الإجراءات الديمقراطية كذلك، وبالطبع في مواجهة المهمشين المستفيدين من إصلاحات اليسار من سود وسكان أصليين. فمثلا اغلب الأصوات التي تحصل عليها الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو في اقتراعي ٢٠١٨ و٢٠٢٢ أتت من الذين يتجاوز دخلهم اليومي 50 دولارا.

نفس الظاهرة عرفتها بوليفيا بعد الانقلاب على موراليس من خلال الانقلاب الدستوري المدعوم من الجيش، وطبعًا في البيرو أخيرًا. بالتالي فان اليمين أصبح أكثر تطرفا مما كان عليه قبل وتمترست سياساته في مربع دعم الأمن والنظام، بخلاف السعي لخصخصة القطاعات العامة مثل قطاع الصحة في الارجنتين وقطاع التعليم في شيلي، والحد من الانفاق الاجتماعي، كطريق لما يراه “إصلاحًا للخدمات العامة” التي تستفيد منها الطبقات المتوسطة بالأساس.

في هذا السياق بدأت تظهر الموجة اليسارية الجديدة بدءًا من ٢٠٢٠ تقريبًا. تكونت هذه الموجة لتواجه اليمين الشعبوي، وقوامها إما من حكومات يسارية في السلطة بدأت تأخذ منحى أكثر يسارية، أو حكومات يسارية أعيد انتخابها وتبنت برامج اكثر جذرية مثل حركة بوديموس في تشيلي، التي تتكلم عن ضرائب تصاعدية والعودة للتأميم في الشيلي، وكذلك الرئيس البوليفي الذي انتخب في 2020 لويس آرسي، والرئيس بيدرو كاستيو في البيرو الذي انتخب في ٢٠٢١ قبل عزله في العام التالي، ولوبيز أوبرادور في المكسيك المنتخب في ٢٠١٨، وجوستافو بيترو في كولومبيا في ٢٠٢٢ وأخيرًا عودة لولا لرئاسة البرازيل في مطلع العام الحالي. وبلغة الأرقام فاليسار قد فاز في ٥ انتخابات رئاسية من أصل ٦ عقدت في أمريكا اللاتينية منذ ٢٠٢٠ ويحكم ٧ دول من أصل ١٠ دول تشكل قوام أميركا الجنوبية بالإضافة للمكسيك طبعًا.

تحديات عودة اليسار في عالم مختلف

اليسار عاد الى السلطة في اغلب دول أمريكا اللاتينية في وضعية مختلفة تتسم بأزمات اقتصادية هيكلية واستقطاب ثقافي وسياسي حاد. وبالتالي يواجه ثلاث تحديات أساسية:

-التحدي الأول هو كيف يمكن استئناف مسار الإصلاح الاجتماعي الموسع بدون تغيير جذري في علاقات الإنتاج، خصوصًا مع اتضاح الحاجة لإجراءات أكثر جذرية.

-التحدي الثاني هو كيفية التعامل مع أزمة الطبقة الوسطى التي يجذبها اليمين المتطرف حاليًا بدون التضحية بقواعده في صفوف باقي الطبقات الشعبية.

-التحدي الثالث، وهو الأكثر تعقيدًا، هو كيف سيمكنه التعامل مع “قلاع الأوليجاركية” في الجيش والمؤسسات الأمنية والقضاء، فالجيش لم يعد ينقلب في أمريكا اللاتينية بشكل سافر، ولكنه مستعد لتأييد أي انقلاب دستوري مثلما حدث في بوليفيا وفي بيرو مؤخرا.

إن كيفية التعاطي مع هذه التحديات الثلاث يتوقف عليها مستقبل الديمقراطية في أمريكا اللاتينية ككل خاصة وان الاستقطاب في المنطقة هو بين اليمين واليسار يزداد عمقًا وأن مسألة الإصلاح الاجتماعي الشامل في ضوء علاقات الإنتاج القائمة بدأت تصل لحدودها وهو ما يدفع للتفكير في خيارات أكثر جذرية من جميع الأطراف.

Start typing and press Enter to search