زينب سرور
لبنان ,مصر
فواز طرابلسي
الاستغلال موجود في علاقات الإنتاج وفي السوق
بدايةً، أودّ التذكير بتاريخ مصطلح «الريعية» الذي بدأ بـ«الدولة الريعية». نحن أمام مفهوم زَحل من مكانٍ إلى آخر. لقد طُرحت الدولة الريعية باكرًا خلال الستينيات، خاصةً في الإجابة عن سؤال استشراقي ما زال يلازمنا وهو «لماذا تغيب الديموقراطية عن العالم العربي؟». اتُخذ نموذج الدول النفطية لنَفي وجود الديموقراطية على اعتبار أن الشعب لا يموّل دولته، بل دولٌ نفطية تموّل شعبها لأنها فاحشة الثراء من خلال عائدات النفط. وهنا برزت نظريات حازم الببلاوي وجاكومو لوتشياني التي فَرضت تعميم الوضع الخليجي على المنطقة. ولا يزال هذا الأمر سائدًا ولا يزال يُعتمد نموذجًا، والسبب غير مفهوم، فكل هذه المنطقة بسكانها الـ 370 مليونًا، تُعرَّف اقتصاديًّا في العادة انطلاقًا من هذا العدد القليل من الدول النفطية، والتي هي بالطبع الأكثر حظوةً في الرأسمالية العالمية.
وتجدر الإشارة إلى أن نبْذ الريعية وإعلاء شأن الاقتصاد الإنتاجي لم يكن موجودًا عندما كانت القسمة العالمية للعمل تتمحور حول بلدان تستورد المواد الطبيعية وتصدّر مواد مصنّعة وبلدان تصدّر المواد الطبيعية وتستورد السلع المصنّعة. ولكن عندما بدأت الدول الرأسمالية المتقدمة تفريع الصناعة، صار لزامًا التصنيع في الأطراف وأن تتحول بلدانه إلى بلدان منتِجة، علمًا أن لبنان كان يُعتبر ذا اقتصاد عجائبي بسبب غلبة قطاعَي المال والتجارة.
يمكن تعريف الاقتصاد الريعي على أنه الاقتصاد حيث معظم الدخل يتأتّى من السيطرة على الأرض، وهو التعريف الذي يشمل الريع الزراعي وأشكالاً مختلفة من الريوع الناتجة من السيطرة على المكان، فالخوّات التي تفرضها المليشيات مثلاً يمكن اعتبارها ريوعًا مفروضة ممّن يسيطرون على مساحة معيّنة من الأرض والبشر. فإلى أي مدى يمكن تسمية الاقتصاديات العربية ريعية؟ الاقتصاد اللبناني مثلاً يُسمّى ريعيًّا انطلاقًا من أنّ ميزان المدفوعات يتوازن بناءً على تدفق حوالي 7 مليارات دولار متأتّية من تحويلات العاملين في الخارج ومن الاستثمارات الخارجية المباشرة. هذا هو التفسير الرئيس للاقتصاد الريعي. كان يقال إنّ رؤوس الأموال هذه مُسيطَرٌ عليها سياسيًّا، وهي بدعة غريبة، علمًا أن معظمها يودَع في المصارف، وان قسمًا كبيرًا منها يُنفق على التعليم والاستهلاك، أو في استثمارات شتّى. ثم إن تحويلات العاملين في الخارج تبدو ريعية بالنسبة لمن يتلقاها وينفقها لكنها – بالمناسبة – ليست ريعية تمامًا، ما دامت نتاج عمل لبنانيين في بلاد الاغتراب يرسلونها إلى ذويهم في الوطن.
قطاع الخدمات قطاع اقتصادي منتج
للأسف، تتسرّب إلى اللغة السياسية المعارِضة الثنائية الآتية: إما اقتصاد ريعي يقوم على تحميل الريعية كل تفسير للأزمات، وإما بديله، الاقتصاد الإنتاجي. ويقدَّم هذا الأخير بما هو الجواب على الأزمة وعلى أنه الحل. إنّ لا أقل من ثلاثة أرباع الناتج الإجمالي المحلي في لبنان يُنتجه قطاع الخدمات الذي يتضمّن الخدمات المالية والتجارية والسياحية. وقطاع الخدمات قطاع اقتصادي منتِج، بمعنى أنه قائم على عمالة ينتِج عملُها قيمةً مضافة يحوّلها مستخدِمو هذه العمالة إلى ربح. تتولى العمالة في قطاع التجارة تحقيق القيمة المضافة التي تحتويها السلع المعروضة للبيع، ولبنان بلد يستورد عشرة أضعاف ما يصدّر. وهكذا، فالغائب عن أحادية الجانب في تقديم وتعريف الاقتصاد الريعي أمران: أولاً؛ أننا في اقتصاد سوق، والسوق هو الطرف المهيمن في الاقتصاد، وأن اقتصاد السوق اقتصادٌ رأسمالي، بمعنى أن الاقتصاد قائم ليس فقط على إنتاج السلع، وإنما على استيرادها ورواجها وتداولها واستهلاكها، إلخ. وهو يُغفل أيضًا أن القطاعَ الثاني، أي قطاع الإنتاج، هو أيضًا ميدان استغلال لليد العاملة فيما هو يقدّمه كبديل عن الريعية ليس إلا.
للبنان باع طويل في موضوع الاقتصاد الإنتاجي. مع انتهاء الحرب الأهلية، قام مشروع إعادة الإعمار على استثمارات ضخمة في البناء التحتي على اعتبار أنه بذاته يجذب تدفّق الاستثمارات الخارجية المباشرة. بالفعل، وردتنا عشراتُ المليارات من رؤوس الأموال. لكنها توجّهت نحو قطاعَي العقارات وسندات الخزينة. أي أنها أدّت النتيجة العكسية المتوخاة التي كانت تريد تجنّب قيام نظام غير إنتاجي. فتولّد عكسه، أي توسُّع كبير في إنتاج الريوع في المضاربة على العقارات وعلى الدين العام. والآن نحن أمام خطر تكرار المحاولة ذاتها. ذلك أن مشروع «سيدر» يفترض أنه سيقدّم للبنان ١١ مليار دولار لإعادة بناء بناه التحتية على وعد تدفّق رساميل خارجية مباشرة تصحّح الاختلال الريعي وتتّجه نحو قطاعات الإنتاج. وهذا في بلد ألغى كل الرسوم والحمايات الجمركية متغافلاً عن أن رأس المال يتجه بالسليقة إلى حيث أعلى معدلات الربح.
في تاريخ الرأسمالية في لبنان، إن رأس المال التجاري استحوذ على السوق ــ من خلال سيطرة الأوليغارشية الماليةــ التجارية على السلطة السياسية وطرد رأسَ المال الصناعي إلى خارج البلاد. أي أننا حققنا أهداف النيو ليبرالية في زمن الليبرالية: تحويل الإنتاج الزراعي والصناعي نحو التصدير وتحمّل أعباء المنافسة في الأسواق الخارجية. والآن، وقد انتقلنا من الليبرالية إلى النيو ليبرالية، تقدّم الدولة محفّزات لتصدير المنتجات الصناعية. يبقى أنّ السوق اللبنانية واقعة تحت سيطرة أربعة أو خمس قطاعات تسيطر عليها الاحتكارات التجارية ــ في الغذاء، والدواء، والمحروقات، والمواد الغذائية والأدوات الزراعية، إلخ.
مهما يكن من أمر نمو قطاعات الإنتاج، فإنها تسهم في تخفيف العجز في ميزان المدفوعات أكثر ممّا تسهم في خلق فرص عمل وخفض أكلاف المعيشة على الأكثرية الشعبية.
إلى هذا، يجب التشديد على أن سيطرة الشبكة المالية التجارية تعني أنّ الاستغلال ليس يتم فقط في علاقات الإنتاج، إنما أيضًا وخصوصًا في السوق، ومن خلال آليات السوق. والحقيقة أنّ القسم الأكبر من اللبنانيين في الطبقات المتوسطةــ وهي تشمل لا أقل من نصف السكان ــ لا يتعرضون للاستغلال في علاقات الإنتاج، بل يُستغلّون في السوق.
وائل جمال
الريعية وإنكار وجود رأسمالية في المنطقة
لا تقتصر الأهمية الشديدة لهذا الموضوع على المستويين الجدلي والاقتصادي، إنما لهذا الجدل تبعات مهمة مرتبطة بآفاق التغيير والتحرر في منطقتنا.
أولاً، فيما يتعلق بتشريح مفهوم الريع في العالم العربي، إنّ هذا المفهوم موجود منذ الاقتصاد الكلاسيكي لكنّ ظهوره في منطقتنا أتى من قضية الدولة والديموقراطية، لا من قضية تطور الرأسمالية. وفي هذا الإطار، يبدو أن هناك من ينكر وجود رأسمالية في المنطقة العربية، الأمر الذي كان مناسبًا لبعض التحليلات الليبرالية، لكن في الوقت نفسه، تبنّى الجميع هذا النوع من التحليل، خصوصًا مع سيطرة الأفكار الخاصة بالثورة الوطنية الديموقراطية على اليسار كمرحلة سابقة لأيّ تحوّل اشتراكي. حتى اليسار الوطني الدولتي العربي الستاليني وغيره تبنّى فكرة أن الاقتصاد الريعي لا يمثّل الرأسمالية المنتِجة كما ينبغي أن تكون، وأن الخطوة الأولى تكمن في كيفية مساعدة المجتمع للرأسمالية الوطنية/ المنتِجة كي تتطور مع قوى الإنتاج إلى الحدّ الذي يمكّنها من تحقيق التنمية الرأسمالية، لتتوفر من ثَم شروط التحول الاشتراكي المطلوب، من وجهة نظرهم بالطبع.
إن أهم منظّري فكرة الدولة الريعية هما الببلاوي ولوتشياني، وهما ليبراليان. لقد قضى الببلاوي عمره ممثلاً للّيبرالية المصرية في مصارف وصناديق النقد العربية والدولية، وعندما صدر كتابهما «الدولة الريعية» بالإنكليزية (١٩٨٧) المبني على كتاب للاقتصادي الإيراني حسين مهدوي صدر عام 1970، ثم طوّراه للكلام لا عن الرأسمالية الريعية أو الريع كجزء من الاقتصاد في الأصل، بل عن الدولة الريعية وكيفية تأثّر البنى الخاصة بالدولة الريعية بسبب الاعتماد على ثروة طبيعية تُصدّر إلى الخارج. وقد بُني التعريف على أساس أنّ مجمل الدخل القومي الذي يذهب للدولة لا إلى المواطنين مبني على ثروات طبيعية تُباع في الخارج وبالتالي توفّر موارد خارجية. وفي وقتٍ لاحق أضيفت بعض الأشكال الأخرى مثل تحويلات العاملين في الخارج. وتوجد هاتان الحالتان إلى حدّ كبير في لبنان ومصر، ولكن تمّ التركيز في البداية على الدول النفطية وتمّ تعميم ظاهرة الدول النفطية على باقي الدول العربية.
ريعية الدولة أم ريعية الرأسمالية؟
من الناحية النظرية، نحن بحاجة في البداية إلى إعادة النظر في بعض الأفكار السائدة حول مسألة الريع عمومًا، والريع في العالم العربي خصوصًا. وهنا يُطرح سؤال أساسي: ريعية الدولة أم ريعية الرأسمالية؟ هناك فارق شاسع بين النظر إلى مصادر دخل الدولة، أي الميزانية الحكومية، وبين الأشكال العملية المباشرة التي تتحرّك بها الرأسمالية في السوق، والتي تحوي ريعًا كذلك، وهي ليست بالضرورة منتِجة في حدّ ذاتها. إنّ القول «الدولة تساوي الريع، بينما القطاع الخاص يساوي الإنتاج» مقابلةٌ غير سليمة على الإطلاق. وبالطبع، كل تاريخ الكتابة الاقتصادية عن الريع، منذ آدم سميث وريكاردو وماركس ومَن تلاهم، كان بالأساس مبنيًّا على ملكية الأراضي والمناجم وغيرها للقطاعات الرأسمالية الخاصة وليس للدولة.
من المسائل التي يجري تناولها أيضًا أن الريع يساوي النفط. في رأيي، هذه معادلة خاطئة بشكل فادح، وقد نحَا التعريف هذا المنحى بسبب التركيز على الدول النفطية. إن الريع لا يساوي النفط، فالريع يأخذ أشكالاً عديدة، وهناك تعريفات واضحة ومكثفة في هذه المسألة. على سبيل المثال، يعرّف ماركس الريع على أنه وضعيّة تُمكّن قطاعات من رأس المال من فرض إتاوة على رأس المال المنتِج أو تستقطع شريحةً من الأرباح التي يحقّقها، سواء على شكل فوائد بسبب الإقراض أو على شكل ريع بسبب السيطرة ووضعية الملكية لأصول غير منتِجة، كالأرض مثلاً. أما عندما ننظر إلى التعريفات الموجودة حاليًّا، وهذه ليست مسألة محصورة بالعالم العربي، نجد كمًّا هائلاً من الأدبيات التي تتحدّث عن تصاعد الريعية داخل الاقتصادات المتقدمة، وأن هناك أشكالًا أخرى للريع، ماليّة بالطبع. غير أنّ المال ليس كل الريع، فهناك أشكال متعلقة بالتفريع الصناعي (التصنيع في الخارج)، وترخيص شبكات الحصول على الترددات وبيعها والحصول على عوائد ملكية، حقوق الملكية الفكرية، الخصخصة، سواء كان ذلك عن طريق مصارف الاستثمار التي تحصل على عمولات على عملية البيع والتقييم وغيرها أو عن طريق إدارة المرافق العامة بطريقة احتكارية، وهناك بالطبع الاحتكارات.
إذًا، ليس النفط هو الريع. وعندما ننظر إلى هاتين الفكرتين، نكتشف أن المعيار الذي كان قد وضعه الببلاوي ولوتشياني– ومفاده أن 40% من دخل الدولة، أي الدخل الحكومي، يأتي من النفط وأن معظم الإنفاق يأتي من الدولةــ لم يعد متوفّرًا في دولةٍ كالسعودية مثلاً، وهي واحدة من أكبر وأهم الدول النفطية في المنطقة.
لقد تراجعت عوائد النفط في السعودية إلى ربع الناتج المحلي الإجمالي، كما تراجع الإنفاق العام فيها إلى ربع الناتج. أما الضرائب، والتي يُعتبر عدمُ تحصيلها من خصائص الدولة الريعية، فإنّ السعودية تشهد نموًّا مضطردًا في حصيلتها، أي الضرائب، للناتج المحلي الإجمالي، فخلال عشر سنوات، قفزت من حوالي 2% إلى حوالي 8 أو 9% من الناتج.
وبرغم ذلك، إن الرابط الذي يقيمه الليبراليون بين هذا النمط من الدولة الريعية وغياب الديموقراطية والديموقراطية التمثيلية، لم يعمل على الرغم من تراجع دور النفط وتراجع إنفاق الدولة العام مترافقًا مع انكماش دور الدولة طبقًا للوصفة النيو ليبرالية بشكل معتاد وطبيعي. وهذا يتجاهل وقائع بأن ظاهرة الريعية لا تقتصر على العالم العربي، وأنّ هناك بعض الدول التي تحوي ديموقراطية تمثيلية هي دول ريعية كالنرويج مثلاً، أو بريطانيا التي يعتبرها بعض الليبراليين دولة ريعية بسبب سيطرة القطاع المالي وعوائده ونموّه الهائل وما يسمّى عوائد الريع الناتجة عن التصدير والتي تستحوذ بريطانيا على حوالي 9% منها عالميًّا، وهو رقم هائل، أي أنّ 9% من الناتج المحلي البريطاني عبارة عن عوائد في الخارج. في الخلاصة، لا تقتصر ظاهرة الريعية على الدول المتخلفة، وهي ليست لصيقة بالاستبداد بالمعنى المباشر، فمن الممكن أن نجد دولاً ريعية غير مستبدّة، وأخرى غير ريعية مستبدّة وقائمة على ديكتاتوريات مباشرة وسلطوية مباشرة.
أود إثارة نقطة مهمة أيضًا تتعلّق بمواجهة مسألة تقول إن الواقع بدأ يتغير فعلاً. إحدى أهم الكتابات النادرة التي رأيتها مؤخّرًا والتي تتناول الدولة الريعية في المنطقة العربية من قِبل الليبراليين، دراسة أعدّها عمر الرزّاز، والذي أصبح لاحقًا، وبنحو لافت، رئيسًا لوزراء الأردن. بالنسبة للرزّاز، الجزء الأهم في التحول الذي يمكن أن يحصل في المنطقة العربية هو في الريعية والتي يحيل إليها الرزّاز سبب كل التخلف السياسي والاقتصادي في المنطقة العربية، وبالتالي، هذا التحوّل يجب أن يحصل. لكنه يعتبر في دراسته أن الجوانب المتعلقة بالتغيير في بنية الاقتصاد لم تعُد تستجيب لتعريفات الببلاوي ولوتشياني. على هذا الأساس، بدأ الرزاز يتحدث عن ضرورة أن يكون التغيير سياسيًّا في النظر إلى الدولة نفسها وتغيير ذهنيّتها وبناء مؤسسات ديموقراطية واعتماد الحوكمة إلخ. بالطبع، هذا اتجاه جيد للربط بين ما هو اقتصادي وما هو مؤسّسي يتعلق ببنى الدولة، إلا أنه يأتي بطريقة مثالية وفوقية ويتجاهل الواقع الراهن، فيصبح الحلّ في وجود جهة ستبدأ، بنوايا طيبة، بتحقيق إصلاحات على مستوى البنى السياسية، وبالتالي ستوقف النزوع نحو الريع في الدول العربية. وللمفارقة، عندما أصبح الرزاز رئيسًا للحكومة طبّق واحدة من أهم السياسات النيو ليبرالية الواضحة والتي جلبت له أحد أهم إضرابات المدرّسين التي شهدها الأردن خلال العقد الفائت.
ريعان داخلي وخارجي
نقطة أخرى مهمة أنّ الريع، في نظريّته الليبرالية السائدة، ريعٌ خارجي، أي أنه يأتي مثلاً عن طريق رسوم العبور في قناة السويس وتحويلات الخارج وأسعار النفط التي تتحدّد في السوق العالمية. إن هذه المسألة تصرف النظر عن الريع المحلّي إذا كان موجودًا، ففي الحالتين المصرية، واللبنانية سابقًا، هناك ملكيات محلية لسندات وأذون الخزانة، سواء لمؤسسات أو لأفراد يقرضون الدولة ويحصلون على فوائد مرتفعة للغاية. وهذا في الحقيقة، بالمعنى الماركسي، أمر ملازم للريع، ولكن بمعانٍ أخرى يمكن إطلاق تسمية «ريع» عليها، بمعنى أنه ينطبق عليها التعريف الخاص بملكية الأرض تترتّب عليها عوائد من دون عمل، فالملكية كافية تمامًا للحصول على تلك العوائد. بالتالي، هناك ريع داخلي وآخر خارجي، وهناك تداخل كبير بين الاثنين. يشير الدكتور محمود عبد الفضيل في دراسته داخل كتاب الببلاوي، إلى أنه حتى في الدول النفطية العربية هناك جدَل بين العملية التي يتم فيها تحديد أسعار النفط العالمية وبين تطور التكوينات المحلية للاقتصاد والتي تستجيب بمرونة لهذه التحولات العالمية. ونحن عندما نرى أن النفط تراجع إلى ربع الناتج المحلي الإجمالي على مدى سنين منذ كتابة ذاك الكتاب، من المهم أن نلتفت إلى الأشكال الأخرى من الريوع والتي أصبحت في دول مثل السعودية أو الإمارات مرتبطةً بريوع مالية تأتي عبر استثمارات الصناديق السيادية في الخارج، وهذه ليست فقط في أذون وسندات الخزانة الأميركية، كما هو متعارف عليه، ولكن أيضًا على شكل حصص متزايدة في كبريات الشركات الإنتاجية العالمية، والتي لا يشارك السعوديون فيها سوى في ملكية الأسهم فيحصلون على ريعها من قيمة إنتاجية تنتَج خارج حدود المنطقة العربية وتُحوَّل الأرباح والقيمة والعوائد المبنيّة على الملكية فقط إلى السعودية، وهذا دخل ريعي.
نقطة إضافية حول «الداخل والخارج»، وهي أن الريع ليس كله مسألة غير متعلقة بالدول المتخلفة في مواجهة الدول المتقدمة، ولا هو كله مسألة متعلقة فقط بالخارج في مواجهة الداخل. هناك حالات محددة وواضحة في علاقات الدول المتقدمة بالدول المتخلفة تشهد نزوحًا للريع مباشرةً من الإنتاج المحلي إلى الخارج. أجرى الاقتصادي جون سميث تحليلاً لسلسلة إنتاج الكنزات القطنية في معامل السخرة ببنغلادش لصالح شركات كبرى موقِعها ألمانيا، وتوزيع حصة كل طرف في هذه السلسلة من ثمن الكنزة النهائي. تبيّن أنّ الكنزة التي قد تبلغ تكلفتها دولارَين أو 2 يورو تخرج من بنغلادش ويُمنح العامل أجرًا زهيدًا من تلك التكلفة، تُقتطع منها كل القيمة الإنتاجية وبعض الربح للمشرف المحلّي في بنغلادش، ثمّ تباع في ألمانيا عبر الشركة بخمسة أو ستة أو عشرة أضعاف ثمنها. لكن ليست الشركة في ألمانيا وحدها من يحصل على الحصة الهائلة من القيمة التي تمّ إنتاجها في معامل السخرة تلك، أيضًا الحكومة الألمانية، التي تفرض ضريبة مبيعات على الكنزة، تحصل على جزء منها حصيلة ضرائب المبيعات أو الضريبة غير المباشرة (VAT) على تلك القيمة التي يتم إنتاجها خارج الحدود. بالطبع، يصعب على ذهن اقتصاديين عرب تصوّر اقتصاد صناعي متقدم يحوي قطاعًا ريعيًا في دولة كألمانيا.
تعدد أوجه الاستيلاء على القيمة
إنّ العلاقة بين الجوانب المختلفة للاستيلاء على القيمة، أو مصادرتها– وهي الأرباح والفوائد والضرائب والريع– علاقة مركّبة. وأحيانًا قد يطغى أحدها على الآخر حسب شروط تراكم رأس المال ومعدلات الربحية الممكنة على الأرض، وهذا ما يحدد لاحقًا، إلى حدّ كبير، طبيعةَ القوة المسيطرة؛ ومن يحقق الربح، والتجليات السياسية لهذه البُنى، ليس فقط في المنطقة العربية، بل في الخارج أيضًا. من أجل ذلك نشهد أزمات يحاول المفكّرون الليبراليون حلّها عن طريق وضع مواجهة بين الإنتاج الجيّد، أي الرأسمال الجيد، والريع السلبي الذي يقضي على الجدارة والاستحقاق ويخلق لامساواة ضخمة، وبالتالي يكمن الحلّ في أن نعود، بشكل أو بآخر، إلى رأسمالية منتِجة عن طريق حوافز وقيود ضريبية وغيرها. لكنّ هذا النوع من الحلول يتجاهل حقيقة أنّ شكل تحولات النمط الرأسمالي والتراكم الرأسمالي والربحية الرأسمالية هي التي تخلق أصحاب الثروة ومن ثمّ أصحاب الملكيات الكبيرة والريوع، ولاحقًا تخلق هذا الميل نتيجة انغلاق سبل الأرباح أمام الاقتصاد المنتِج في كل العالم، حيث الأزمة الطاحنة، التي هي مصدر هذه المشكلة في الأصل.
فيما يتعلق بمصر، تحدّث البنك الدولي نفسه، في دراسته التشخيصية، عن تحوّل في اقتصادها والذي يقوم على: الصناعة التحويلية بقيمة 14% من الناتج المحلي، والزراعة بين 13 و15% من الناتج المحلي. والاقتصاد المصري متنوّع، على الرغم من وجود مصادر ريعية بالمعنى الذي يستخدمه الببلاوي– لوتشياني، وهي عوائد قناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج، كما أن النفط شكّل في فترة من الفترات مصدرًا من مصادر الريع ليتراجع من 40% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1980 إلى حوالي 4% من هذا الناتج حاليًّا. وفي الاقتصاد المصري قطاعات إنتاجية مباشرة، لكن بالطبع تميل الرأسمالية المصرية إلى الأموَلة وإضفاء الطابع المالي على أنشطتها باضطراد متزايد، الأمر الذي نشهده في النموّ الهائل في الدين والتركز الهائل لملكية الدين المحلي وحتى الخارجي من جهة، وفي المحاولات المضنية لتوسيع الدين الخاص أيضًا من جهة أخرى، وهذه مسألة شديدة الخطورة، عن طريق ما يُسمّى «الشمول المالي» أو «التضمين المالي» إلخ. وفي هذا الإطار أعتقد أن لبنان سبق مصر بخطوات، وظهر أثرُ التوسّع في إقراض القطاع العائلي فيه وربْط مداخيل وأجور وحياة الملايين بالنظام المصر على نحوٍ يختلّ فيه التوازن لصالح أصحاب الودائع الكبرى والملكيات الكبيرة في البلاد. أما في الاقتصاد المصري، فقد قفزت العوائد الملكية، في منتصف هذا العقد، إلى حوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وجزءٌ منها، حوالي 17% من الناتج المحلي أو إجمالي الدخل، يأتي من الفوائد، ما يشير مباشرةً إلى مدى هيمنة أصحاب الملكية على عملية الاستيلاء على مصادر الفوائض والقيمة من هذا الاقتصاد. ومن نتائج هذا الأمر الفوارق الطبقية الفادحة في مصر، سواء المتعلقة بالثروة أو حتى بالدخل، إذ إن دخل الـ 1% الأغنى في مصر يفوق إلى حدٍّ كبير جدًّا دخل الـ 50% الأفقر فيها.
محمد زبيب
الاستخدام الأيديولوجي للريع
انطلاقًا من الخطاب العامّ الشائع والنظريات التي تتحدث عن «الريعية»، يمكن لأحدنا، وبتسرّع، إذا صحّ التعبير، أن يشير إلى نوع من إساءة استخدام مفاهيم مثل «الريع» و«الاقتصاد الريعي» و«الدولة الريعية»، وذلك في إطار مناقشة ما إذا كانت «الريعية» هي التشخيص المناسب لاقتصاداتنا العربية، وما إذا كانت هي سبب فشل التنمية والتغيير أو الديموقراطية، وفشل الاتجاهات نحو أشكال من العدالة الاجتماعية.
أقول إنّ هناك «إساءة استخدام» لأنّ جانبًا كبيرًا جدًّا من الكلام عن «الريعية» يتّخذ طابعًا أيديولوجيًّا، أكثر مما هو استخدام لمصطلح يحمل معنًى محددًا أو واضحًا أو واحدًا. وأحيانًا، من خلال متابعاتنا للأدبيات التي تتناول الدولة الريعية والاقتصاد الريعي، نصطدم بكمّ هائل من المعاني والتفسيرات المتباينة، التي تجعل من الصعب الإمساك بهذا المصطلح، وما يعنيه عندما يطرحه بعض الاقتصاديين وعلماء الاجتماع، ويردُ في تقارير وأوراق مؤسسات دولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد وغيرهما.
أود التعليق هنا على مجموعة أمور تدفعني إلى استخدام وصف «أيديولوجي». في غالب الأحيان، تُستخدم الريعية لقول مسألة تبدو مهمة مفادها أننا «نحن»، للإشارة إلينا بوصفنا عربًا أو شعوبًا عدة في العالم الثالث، مجتمعات متخلّفة ما قبل رأسمالية، وبالتالي نعيش أنماط ما قبل الرأسمالية! ولإثبات هذا الأمر يجري الاستدلال بتعاظم الريع ووضعه ضمن هذا السياق. في الواقع، إن الرد على هذا النوع من الأيديولوجيا بسيط وسهل للغاية، إذا وُضع ضمن سياق الاقتصاد، وهو أنّ الريع ليس وحده سابقًا للرأسمالية، فرأسُ المال الحامل للفائدة سابق على نمط الإنتاج الرأسمالي. ورأس المال التاجر، وهو من العناصر المهمة في نمط الإنتاج الرأسمالي، هو أيضًا سابق على نمط الإنتاج الرأسمالي. بهذا المعنى، لا يقدّم «الريع» تفسيرًا كافيًا للفشل والعجز الديموقراطي، ما دام أنه عنصر من العناصر العديدة التي جرى تكييفها مع النمط الرأسمالي وآلياته في عملية إنتاج القيمة وعملية توزيعها وتقاسمها إلى حد كبير جدًّا.
المسألة الأخرى التي نصطدم بها في هذه الأدبيات، أنّ الريع، بمعزل عن النظريات الاقتصادية التي تضعه في تحديد دقيق، يُختصر أحيانًا ويُستخدم تعبيرُه للدلالة على سيادة نوع من الأنشطة الاقتصادية الخاملة والكسولة، وبالتالي يصبح الريع كمرادف لرأسمال غير منتِج وخامل بشكل مضرّ للغاية. وإذا دقّقنا في مفهوم الريع، نكتشف مسألتين تشكّكان بهذه المقولة إلى حد كبير. أولاً، داخل الرأسمالية نفسها، وفقًا لطبيعتها وطريقة عملها وآلياتها أو ما وصّفه ماركس بالتراكم اللانهائي لرأس المال، يوجد مَيل للتحوّل من المنافسة الى الاحتكار وتحويل صاحب المشروع إلى ساعٍ وراء الريع من خلال تركّز رأس المال والثروة، انطلاقًا من سعيه الدائم إلى تعظيم حصّته من فائض القيمة، ومراكمة المزيد من رأس المال. ثانيًا، إن الرساميل الخاملة نفسها تنقسم إلى قسمين: رأسمال خامل، أي غير مولّد للقيمة بشكل واضح، وهذا ينطبق على أشكال من الريوع المختلفة؛ ورأسمال خامل لأشخاص غير خاملين، بمعنى أن جزءًا من رأسمال التاجر أو رأس المال الصناعي أو أي رأسمال بأشكاله المختلفة، من خلال تحقيقه لفائض القيمة يتّجه جزءٌ من هذا الفائض أو حصة رأس المال هذا من الفائض ليوظَّف كرأسمال خامل يسعى وراء الريع. وبالتالي، هنا تظهر بوضوح العلاقة المركّبة بين كل هذه العناصر كجزء من نمط الإنتاج الرأسمالي، وليس كشيءٍ ما قبله أو غريب عنه.
إذًا، الريع موجود كل الوقت، وهو حقيقة قائمة في الاقتصاد الرأسمالي. ولم يكتسب الريع صفةً أو نعتًا سيئًا إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر بعد نظرية ريكاردو حول الريع التفاضلي. كما لم يتّخذ صفتَه السيئة للغاية بوصفه شرًّا سوى في الأدبيات والنظريات الاقتصادية خلال القرن العشرين. قبلها، كان الأمر مسلّمًا به، على الأقل من النخب أو الطبقات العليا، وبالتالي لم يكن الريع يقدَّم بوصفه شرًّا كما هو حاصل اليوم.
معنيان للريع
وعلى الرغم من ذلك، وفي سياق مناقشة مسألة الريع، يجب أن نحدد تمامًا عمّا نتحدث كي نتمكن من توضيح وجهة نظرنا بشكل غير ملتبس. شخصيًّا، أستخدم الريع بمعنيَين اثنين أفهم من خلالهما الحديث في الأدبيات المتداولة حوله. معنًى توصيفي أعتبره أصليًّا، والذي يَعتبر أن الريوع هي الريوع السنوية التي يستدرّها رأس المال بما هو رأس مال، وبالتالي الأشخاص الذين يستدرّون هذه الريوع على شكل إيراد أو دخل؛ إيجارات أو فوائد أو توزيعات أرباح من خلال ملكية الأسهم أو عوائد او إيرادات من حقوق الملكية، سواء الملكية العقارية أو الفكرية أو أشكال أخرى من المداخيل التي تنتج عن رأس المال بمعزل عن أي عمل أو خلق أي قيمة بشكل مباشر. وهناك معنًى آخر، وهو الذي أودّ التعليق عليه، يطغى على الأدبيات الشائعة اليوم. يتناول هذا المعنى الريعَ بوصفه مظهرًا من مظاهر عدم كفاءة الأسواق، وبالتالي يعرّف الريع، وهنا أتحدّث تحديدًا عن النظريات الكلاسيكية الجديدة، على أنه كل ربح يفوق الربح الذي يمكن أن يتولّد من الفرصة البديلة التالية. ومن أجل ذلك، جزءٌ كبيرٌ من أرباح التجارة يوضع بوصفه ريعًا، والحديث هنا تحديدًا عن السعر الاحتكاري في التجارة. وبالتالي، يحتاج هذا الأمر إلى نقاش دقيق، لأننا إذا سلّمنا بأن جزءًا من الربح هو في الواقع ريع احتكاري، نكتشف أن اقتصادات لبنان ومصر، على الأقل، اقتصادات ريعية بشكل حاد وواضح، ذلك أنّ اقتصاداتنا تتّسم بدرجة عالية من التركّز الاحتكاري، وهو أمر واضح. غير أنّ ما يهمّني في هذه الملاحظة أكثر من التدقيق بمفهوم الريع كمصطلح وإذا ما كان يدلّ على ريع احتكاري أم لا، هو الغرض الأيديولوجي من طرح هذا التعريف في المدرسة الكلاسيكية الجديدة. وهذا التعريف يقصد القول إنّ الريع هو المرض الخبيث الذي يفتك بالرأسمالية النقية والحميدة وغير الفاسدة، أي أنّ هناك تصورًا لرأسمالية متخيّلة تتشكّل من خصال حميدة، ثم يأتي الريع كمرض خبيث فيعكّر هذه الصفات الحميدة ويجعلها في حالة غير سوية وجب تصحيحها. وهذه مشكلة كبيرة، لأننا إذا استخدمنا هذا التعريف لرأسمالية متخيّلة وعطفناه على واقعنا سنصطدم بنظرية أخرى سائدة تقول إنه بالإضافة إلى ذلك، نحن نعيش في دول وأنظمة سياسية تقوم على التلاعب بالمصالح الاقتصادية وبالتالي تستدرّ الريوع وتوزّعها ضمن النخبة الحاكمة على قاعدة ما أطلق على تسميته «رأسمالية المحاسيب»، وبالتالي تصبح الأخيرةُ هي المرادف للاقتصاد الريعي. وتجدر الإشارة إلى أن التدقيق في مفهوم «رأسمالية المحاسيب» يحتاج إلى نقاش واسع، ولكن باختصار يمكن القول إن كلّ الرأسمالية في تاريخها قامت على «رأسمالية المحاسيب» لا على أمر آخر، من خلال البنية الطبقية وسلطة الطبقة، وهناك بالتالي تَلازم بين ميدان الاستغلال (رأس المال) وميدان السيطرة (القسر)، وبالتالي هناك دور محوري لأدوات القسر في فرض هذا النمط أو ذاك.
ويمكن التوجه نحو نقاش تقني بعض الشيء لتحديد موقع الريع في اقتصاداتنا، ولجزم ما إذا كنّا اقتصادًا ريعيًّا بالمعنى الذي تحدثنا عنه سابقًا، أم أننا اقتصاد ونموذج رأسمالي بحت يحتلّ فيه الريع حصةً كبيرةً أو وازنة تفوق الأرباح والأجور وغيرهما.
إذا اتّجهنا نحو تفسير الاقتصاد من حيث القيمة الإجمالية التي يُنتجها عمل شعبٍ ما خلال فترة زمنية معيّنة، فإن القيمة، تحديدًا كما فصّلها ماركس، تتوزع على ثلاثة عناصر أساسية: هناك جزء يعوِّض رأسَ المال الثابت في هذه الفترة الزمنية المحددة، وهو قيمة أو سعر وسائل الإنتاج التي دخلت في عملية الإنتاج، وهناك جزء يؤلّف رأسَ المال المتغير، وهو إيرادات العامل أو الأجور، والجزء الثالث هو فائض القيمة. ويتخذ الأخير شكلين أساسيين: شكل ربح رأس المال أو ربح صاحب المشروع أو الفائدة المتحصّلة على رأس المال بما هو رأس مال، وشكل الريع الذي يذهب إلى صاحب الملكية، سواء في التفسير الريكاردي أو الماركسي، والذي هو ريع على ملكية الأرض الداخلة في عملية الإنتاج، أو بتوسيع المفهوم، الذي هو الريع الذي يذهب لصاحب الملكية، سواء ملكية الأرض، أو السهم، أو حقوق الملكية الفكرية، أو أشكال أخرى تتخذ الشكل نفسه.
وإذا ما دقّقنا في هذه العناصر الثلاثة وحاولنا رؤية وزن الريع في اقتصاداتنا، أي الشكل الذي يقوم على اقتطاع جزء من فائض القيمة، فإننا في الحقيقة سنصطدم بنقص فادح جدًّا في المعطيات الكمية والنوعية التي تسمح لنا، بشكل دقيق ومطمئن، بالحديث عن نسبة الريع بالمقارنة مع الربح وبالمقارنة مع الأجور وبالمقارنة مع رأس المال الثابت.
الريع من خلال الناتج المحلي الإجمالي
لذا، ولتفسير هذا الأمر، سأستخدم طريقةً غير دقيقة وتحوي إشكاليات كبيرة للغاية، لكنها ترسم صورة معيّنة كي نتمكن عبرها من رؤية وسيلة الريع. سأستخدم هنا مقابلاً للقيمة ما يسمى الناتجَ المحلي الإجمالي بوصفه تجميعًا للقيم المضافة داخل الاقتصاد، وبالتالي يعكس شيئًا من الواقع، ولكن بشكل غير دقيق أو علمي يمكن لأحدنا الدفاع عنه إلى حدّ كبير.
لتطبيق هذه الطريقة، التي أشدد على أنها غير دقيقة، سأتّخذ من لبنان نموذجًا. عام 2018، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في لبنان 55 مليار دولار، وقد اخترتُ هذا العام لكونه يقع قبل الانهيار مباشرةً. وإذا اعتبرنا أن الناتج المحلي يعكس نظرية آدم سميث بأنه يشكّل مجملَ قيمة العمل الذي بذله هذا الشعب والتي يجب، أي القيمة، أن تكفي استهلاك المجتمع من الضرورات والكماليات من إنتاجه المباشر أو ما يكفي لاستيراد حاجاته من الخارج، فيمكننا أن نرى كيفية توزّع هذا الناتج على مستويين أساسيين: المستوى الأول، أن حجم إجمالي تكوين رأس المال، إذا اعتبرناه مرادفًا لرأس المال الثابت، بلغ حوالي 21% من هذا الناتج (بلغت قيمته عام 2018 حوالي 11,5 مليار دولار). أما المستوى الثاني فهو تقديرات حصة الأجور من مجمل الناتج والتي بلغت 25%، أي بين 13 و14 مليار دولار، وسنفترض أنها هي المقابل لرأس المال المتغيّر. هذا يعني أنّ فائض القيمة، ومن ضمنه الضرائب المحسوبة ضمن الناتج المحلي، يشكّل حوالي 54%، أو حوالي 30 مليار دولار من الناتج. إذا أردنا رؤية كيفية توزيع فائض القيمة بين شكل يُسمّى الربح، بما فيه الفائدة، وشكل يُسمّى الريع، فنحن لا نملك الأرقام التي تسمح لنا بذلك، لكن بإمكاننا اللجوء إلى طريقة يمكنها التعبير عن ذلك، وهي توزّع هذه القيم المضافة حسب القطاعات. مثلاً، تشكّل العقارات، من دون قطاع البناء، 15% من الناتج، والخدمات المالية حوالي 8% من الناتج، أي أننا عمليًّا نتحدث عن 25% فقط من العقارات والخدمات المالية التي تحمل شبهة بأنها تمثّل أنشطةً ريعية. وإذا أضفنا، وفق المدرسة الكلاسيكية الجديدة، الاحتكارات التجاريةــ وهنا مثلاً قدّر البنك الدولي عام 2006 ريوعَ الاحتكارات التجارية في لبنان بحوالي 16% من الناتج ــ فعمليًّا إنّ هذه العناصر الثلاثة، إذا اعتبرنا أنها هي التي ترسم شُبهة الريع، تشكّل وحدها حوالي 39% من الناتج المحلي، وبالتالي يبقى 15% إذا اعتبرنا أنها تشكّل ربح رأس المال المنتِج. وإذا اعتمدنا أيضًا مقارنةً بهدف التوضيح، لا للتمسّك بها، وجدنا أنّ مجمل مقبوضات الفائدة عبر جهاز المصارف عام 2018 بلغ حوالي 15 مليار دولار، أي ما يساوي 25% من الناتج المحلي الإجمالي.
نحن إذًا أمام سمات في بنية الناتج المحلي الإجمالي تدفعنا إلى القول: نعم، هناك أشكال من الريع وشبه الريع موجودة بوزن كبير للغاية. ولكن، هل هذا يعني أن الاقتصاد اللبناني ليس اقتصادًا رأسماليًّا؟ ما قلته في البداية هو تمامًا للتأكيد أنّ هذا الأمر لا يعني شيئًا سوى أنه لا يغيّر في نمط الإنتاج الرأسمالي، إنما يعقّد تحليلَه ويجعلنا نصطدم بوقائع تحتاج إلى جهد أكبر للوصول إلى نتائج معيّنة.
نقطة أخيرة أيضًا حول الناتج المحلي للدلالة إلى هذه المعضلة. كما ذكرت سابقًا، عام 2018 بلغ الناتج المحلي في لبنان 55 مليار دولار، لكنّ الاستهلاك العام والخاص بلغ، في العام نفسه، 106% من مجمل الناتج المحلي، وإذا أضفنا الاستهلاك، الذي بلغ حوالي 58.5 مليار دولار إلى إجمالي تكوين رأس المال، والذي ذكرنا أنه حوالي 11.4% من الناتج، فنحن نتحدث تقريبًا عن مجموع استخدامات الناتج تبلغ حوالي 70 مليار دولار على ناتج 55 مليار دولار. وبالتالي، يؤدّي هذا إلى ناتج سلبي، إلى عجز، بقيمة تصل إلى 14 و15 مليار دولار، وتشكّل نسبة تصل إلى ما بين الـ 22 و25% من الناتج. وبالتالي، إنّ هذا الفارق الذي يعبّر عن العجز التجاري، أو عجز الحساب الجاري في لبنان، يستدعي من الاقتصاد اللبناني أن يستقطب عام 2018 حوالي 14 إلى 15 مليار دولار من الخارج، أي 25% من قيمة الناتج، كي يسدّ عجزه التجاري، وهذا يتكرر كل عام. وتأتي هذه الـ 15 مليار دولار من ثلاثة مصادر أساسية: تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، والتي قُدّرت بحوالي 7 مليارات دولار عام 2018؛ والاستثمار الأجنبي المباشر، والذي يتجه بنسبة 70% نحو المضاربات العقارية وشراء وتملّك العقارات وليس للاستثمار المنتِج في الزراعة أو الصناعة؛ والدين الخارجي الذي يتضمّن ودائع غير المقيمين والتي تشكّل ما بين 25 و30% من مجمل الودائع في القطاع المصرفي. وبالتالي، تصبح هذه التدفقات الهائلة لتسكير عجز الحساب الجاري كما لو أنها، وأشدد على كلمة «كما»، ريعًا في الاقتصاد، وتحصل عملية توزيع وفق آليات متعددة، إلا أن توصيفها لا يغيّر في الواقع كثيرًا، أي واقع أنها تدفقات خارجية إلى اقتصاد رأسمالي تهيمن عليه الأنشطة الخدمية، وهذا ليس اقتصادًا ريعيًّا، إنّما اقتصاد رأسمالي يتّسم بالنمو غير المتكافئ، وهذه سمة من سمات نمط الإنتاج الرأسمالي.
محمد العجاتي
المضاربة على السندات
أولاً، أودّ طرح سؤال حول المضاربة على السندات الحكومية، وأثر ذلك على الدين. ونحن ندرك تمامًا حجم هذه المسألة في لبنان مثلاً، ونرى أن مصر تتجه نحوه بشدة.
ثانيًا، أخشى أن يؤدي استخدام لفظ الأيديولوجيا لمصطلح الريع إلى إدانة فكرة الأيديولوجيا، بمعنى أنه استخدام غائي، ذلك أنه من الطبيعي أنّ أيّ استخدام لمطلق مصطلح نابعٌ من أيديولوجيا الشخص أو المؤسسة التي تستخدمه.
نجيب عيسى
الريع والخدمات المنتجة لحساب الخارج
أود التعليق على نقطتين: الاقتصاد غير المنتج ومسألة الريع. لقد استخدمتُ مصطلح «الاقتصاد غير المنتِج» في مقالة أو شبه دراسة أصدرتها أخيرًا تمحور موضوعها حول مسألة التغيير في لبنان. قلتُ حينها إنه لا يمكن فهم التغيير في لبنان إلا نتيجة تفاعل ثلاثة عوامل هي: الخارج والاقتصاد غير المنتِج والطائفية السياسية. ولكن بأي معنى استعملتُ «غير المنتج»؟ يجب أن نتفق أولاً أننا نتحدث عن اقتصادات وطنية، وهنا نتناول الحالتين اللبنانية والمصرية، وليس عن اقتصادات على المستوى العالمي. استعملتُ «الاقتصاد غير المنتج» بمعنى أنه الاقتصاد الذي لا يتعلق بعملية الإنتاج المحلية الوطنية، وبالتالي أوافق فواز طرابلسي الرأي بأن الخدمات منتِجة، أي أن الذين يعملون في الخدمات يساهمون في فائض قيمة، لكني شخصيًّا استخدمتُ الخدمات بمعنى أن تكون لها علاقة بالقطاعات المنتجة المحلية، غير أنّ اقتصاد لبنان، منذ الانتداب الفرنسي والجمهورية الأولى، كان قائمًا على إنتاج الخدمات لحساب الخارج، لا بل محرّكه الرئيسي كان الخدمات المنتِجة لحساب الخارج. بهذا المعنى، يمكن الاعتبار أنه كان اقتصادًا ريعيًّا فرعيًّا، وإنْ لم أستخدم التعبير في تلك المرحلة، لأنه كان لحساب المنطقة العربية القائمة على الريع بالمعنى الذي استُخدم حينها.
أما فيما يخص الريع، فقد بلور ريكاردو هذا المفهوم، ولكن من ضمن النظام الرأسمالي، فمثلاً لم يكن الحديث عن دولة ريعية ولا عن اقتصاد ريعي، إنما عن مصدر معيّن للدخل وهو الريع، ولاحقًا، توسّعت النظريات الرأسمالية وغير الرأسمالية بمفهوم الريع، فكان هو كل الدخل المتأتي من غير العمل المنتِج والحقيقي، المادي. لذلك مثلاً شكّل الموقِع مصدرًا للريع، ويمكن أن يكون الموقع عنيفًا، كالمليشيات، إلخ. وقد شرح الأستاذ زبيب كل المكونات التي يمكن اعتبارها ريعًا.
الريع عملية معيقة للتراكم الرأسمالي
في لبنان، يمكن القول إن اقتصاد المرحلة الحالية، مرحلة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وما بعد، ريعي أو شبه ريعي، إذا أخذنا العقارات أو الإيجارات مثالًا على ذلك. ولكن الأساس هو الفائدة وهي مكون دخل رأسمالي، لكن الفائدة التي كانت تؤخذ في لبنان كانت أربعة أو خمسة أضعاف، وربما أكثر بكثير، من الفائدة العالمية، وبالتالي، لا يمكننا اعتبار هذا الفارق سوى ريع، وكذلك الأمر بالنسبة للاحتكارات وغيرها.
ملاحظة أخيرة، وأود هنا مخالفة الأستاذ زبيب، وهي أنّ ريكاردو اعتبر الريع عملية معيقة للتراكم الرأسمالي. أيضًا، من الأفضل أن نربط الريع، بالمعنى الحالي، بالمرحلة الحالية– المستقبلية للرأسمالية، وليس فقط بما هو ما قبل رأسمالي، وبالتالي، دعونا نرى الواقع ونتوسع بالنظريات ونخرج من القوالب الجامدة، فربما يكون تمويل الرأسمالية نوعًا من الريع. وفيما يخصّ البلدان العربية، فإني أدرس كل حالة على حدة، فحالة لبنان تختلف عن باقي الحالات.
أما بالنسبة لرأس المال، فإذا كان موجودًا في لبنان فمعناه أن هناك برجوازية. وبرأيي، لا تنطبق على لبنان هذه المعايير بالمعنى الدقيق للرأسمالية لأننا يجب أن نرى بشكل رئيسي ما مصادر التراكم الرأسمالي وإلى أي مدى الريع أو فائض القيمة هو الطاغي. برأيي، في لبنان طبقة لا تنطبق عليها مواصفات البرجوازية، بل هي عبارة عن عصابة نهب لا أكثر.
فواز طرابلسي
كل عمل ينتج قيمة مضافة
في مسألة الريع تدقيقات سأعالجها بطريقة مختلفة. إنّ قيمة هذا البحث لا تنحصر في بُعده الأكاديمي والنظري، بل في كيف يؤدي إلى مقاومة الرأسمالية. أود التدقيق في أننا ما زلنا نضع «فائض القيمة مقابل الريع». والنقطة التي ندور حولها هي استمرار المقارنة بين إنتاجٍ يُنتِج فائض قيمة وإنتاجٍ ينتج ريًعا. ما زلنا واقعين في الشرَك نفسه.
سأبدأ من لبنان. إن أكثرية سكان لبنان لا يعملون في القطاعات الإنتاجية، في الصناعة والزراعة، وبالتالي يصبح السؤال «هل هم يمارسون عملاً أم لا يمارسون؟».
إنّ قسمًا من النشاط الاقتصادي اللبناني هو تحقيق قيمة مُضافة منتجة في الخارج أو مقدَّمة للخارج ويقتطعون منها حصة محلية في التجارة الخارجية خصوصًا. في المقابل، يجب التشديد على أن كل أشكال العمل تنتِج بالضرورة قيمة مضافة. مجددًا، إنّ أكثرية اللبنانيين لا يعملون في الصناعة أو الزراعية ولا ينتجون سلعًا صناعية أو زراعية، لكنّ أجراء ومستخدمي القطاع التجاري يساعدون، في عملهم، في تحقيق القيمة المضافة التي تحتويها السلع المستوردة أو المنتجة محليًّا، إذ لا يستحصل المنتج على القيمة المضافة التي تحتويها سلعته إلا عندما تباع في السوق، أي تتحول من سلعة إلى مال. لكنّ الأجراء والمستخدمين في القطاعات غير الإنتاجية ينطبق على عملهم قياسُ ماركس لإنتاج القيمة المضافة: الوقت الضروري اجتماعيًّا لإنتاج الخدمة التي ينتجونها. وكما في أي عمل مأجور، لا بدّ أن تكون قيمة الوقت الضروري اجتماعيًّا لإنتاج الخدمة المعينة أدنى من مقابل الأجر الذي يتقاضاه الأجير على إنتاجه. وهذا الفارق هو القيمة المضافة التي أنتجها عمله والتي تتحول إلى ربح وتُسهم بالتالي في التراكم الرأسمالي.
هذه أفكار أولية واحتمالية. لكني أجازف بعرضها. في عودة إلى ثنائية ريع/ عمل منتج، أي عمل صناعي وزراعي: إذا كان لا مجال للنقاش في أهمية تنمية القطاعات الإنتاجية من الاقتصاد، فنموّ هذه على حساب الريوع لا يعني نهاية هذه الأخيرة خصوصًا عندما نوسّع تعريفنا للريوع بحيث يشمل أرباح المصارف، وأرباح الاحتكارات، والفوائد، والريع السياسي، وغيرها، أي النشاطات التي لا تصدر مباشرةً عن عمل يمارسه من يجني ثمار تلك النشاطات.
إن المؤدّى العملي لهذا التصنيف يقودنا إلى الآتي: يجب تغريم كل دخل لا يَنتج عن العمل. ليس المهم ما إذا كانت عائدات الاحتكار أرباحًا أو ريوعًا؛ ما يهمّ هو أنّ الردّ على الاحتكار ليس الإنتاج (خصوصًا أن الاحتكار موجود في القطاعات الإنتاجية هي أيضًا)، إنما الردّ عليه هو سَنّ قوانين ضدّ الاحتكار، أو نقْل ملكية المرفق الاحتكاري المعني إلى الملكية العامة. وفق المنطق ذاته، الردّ على العائدات الريعية ليس الإنتاج، بل هو التغريم بواسطة الضرائب التصاعدية على الثروة. والردّ على توليد المال بواسطة المال، أي الفوائد، هو أيضًا فرض الضرائب التصاعدية على الفوائد. والردّ على ريوع المضاربة العقارية هو فرض الضرائب على التحسين العقاري وعلى الخلوّ التجاري، إلخ.
وائل جمال
كيفية تمييز الريع عن الاستثمار الإنتاجي؟
فيما يتعلق بـ«الاستثمارات المتزايدة في أدوات الدين»، إن معدلات الدين في مصر تتزايد باضطراد، حتى بالمقارنة مع العقد الأخير. مؤخرًا، أصدر البنك الدولي إحصائيات الدين السنوية الخاصة به، والتي أشارت إلى وجود دولتين ضمن الأعلى عالميًّا فيما يتعلق بنسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي لما فوق الـ 100% هما لبنان وتونس. وأعتقد أن مصر من بين هذه الدول لأنه إذا تمّت إضافة دين المصرف المركزي، ومعظمُ هذا الدين، إن لم يكن كلّه، بالعملة الأجنبية، يتبيّن لنا أنّ إجمالي الدين الحكومي العام سيفوق الـ 100%. كما أن جزءًا أساسيًّا من الدين، وآخر رقم يشير إلى 33 مليار دولار، يأتي عن طريق مصارف الاستثمار ومضاربين عالميين يضعون أموالهم في أدوات الدين المصرية بالجنيه المصري، وهي الأعلى عالميًّا من حيث معدلات الفائدة التي تعطيها لهؤلاء المضاربين في الأموال الساخنة، بحسب التصنيف الدوري لوكالة «بلومبيرغ» لمعدلات الفائدة العالمية. ما يعني أن هناك نزوحًا للأموال من الموازنة العامة المصرية إلى جيوب هؤلاء المضاربين الدوليين للحفاظ على استقرار العملة إلخ. لكن أيضًا، وتمامًا كما أن هناك صعوبات فيما يتعلق بالتمييز بين الفئات المختلفة، الأمر نفسه موجود فيما يتعلق بالحصول على عوائد الفوائد المترتبة على إقراض الدولة في مصر، لأن جزءًا مهمًّا من الأثرياء المصريين يستثمر في أدوات الدين المصرية، حتى بالعملة الأجنبية، عبر مؤسسات خارجية وعبر شركات مؤسَّسة في ملاذات ضريبية يصعُب تعقّب الأملاك فيها. والعكس صحيح، فحتّى في الدين المحلي، كما أشرنا، هناك كتلة كبيرة من المستثمرين الأجانب الذين يشترون رسوم سندات الخزينة بالجنيه المصري. وبالتالي، هي عملية تشهد تداخلاً شديدًا. والنتيجة، أن هذا النمو الهائل، سواء في حجم الاستدانة بمعدلات خدمة دين مرتفعة جدًّا، والمقترن في الوقت نفسه بإكماش هائل للإنفاق العام وخصخصة الخدمات العامة، من آثاره المباشرة خلق مزيد من التفاوت الاجتماعي واللامساواة بين الأغنياء والفقراء في مصر؛ بين الطبقة الثرية المالكة والطبقة العاملة غير المالكة.
أما فيما يتعلق بمسألة الأيديولوجيا والسياسة، ففي تقديري أنّ الريع، كالكثير من القضايا، قضية تقنية تُستخدم لأسبابٍ معيّنة ويعاد تقليمها وتقديمها وتطويرها كي تبقى ملائمة لمشاريع سياسية ذات طابع معين. ومن أجل ذلك، هناك المنهج الذي يقع فيه بعض الاقتصاديين الراديكاليين مثل غاي ستاندنغ في كتابه عن الرأسمالية الريعية والذي يتكلم فيه عن «إفساد الرأسمالية»، وكأنّ هناك صيغة رأسمالية خالصة ونقيّة تشوبها شائبة نتيجة ظروف معينة كالطمع والسيطرة أو تراجع دور الدولة في ضبط السوق، وأنه بمجرد القيام ببعض الإجراءات يستقيم كل شيء.
وضمن هذا الإطار، في الحالة العربية والمصرية، يشير البنك الدولي والمؤسسات الدولية والليبراليون العرب، إلى أننا لن نحسّن وضعية التنمية الاقتصادية فحسب، بل سنعالج مسألة استبداد الدولة. وبذلك يبدو الحل كأنّ أحدًا سيدوس على زرّ ينقلنا فورًا إلى بنى منتِجة عوضًا عن البنى الريعية غير المنتِجة. ولا تقتصر مشكلة هذا المنظور على أنه سياسي، وهو بالطبع كذلك، لكنّ مشكلته تكمن في أنه غير واقعي وغير قائم على تفسير سليم للوقائع التي تشير إلى أن الاقتصادات المتقدمة، والتي فيها شكل من أشكال الديموقراطية التمثيلية، هي أيضًا تعاني من مشكلة في زيادة الأشكال الريعية وهيمنة متزايدة للرأسماليين المعتمدين على الريع والملكية كمصادر دخل إضافية. بالطبع، إن هذه التمييزات شديدة الصعوبة، وهي لا تنفي أنّ هذه رأسمالية، لكنها في الوقت نفسه تخلق واجبًا إضافيًّا لفهم التعقيدات والتركيبات والتداخلات بين بعضها البعض. مثال على ذلك، عندما تكون هناك شركات صناعية منتِجة فتشتري حصة في بنك استثمار هو نفسُه يملك حصصًا في شركات أخرى منتِجة، يصبح تحديدُ ما هو ريع وما هو استثمار وما هو استثمار إنتاجي مسألةً متشابكةً للغاية تحتاج إلى إبداع منهجي وفكري كي يتمكّن من رسم خطوط فاصلة وفهم هذه التداخلات.
وقد أصبحت هذه التداخلات موجودة في العالم العربي، وفي لبنان ومصر بشكل مباشر، وهي أيضًا تتداخل وتتشابك مع السوق العالمية. ويكمن جزء مهم من حلّ هذه الاشتباكات في فهم السوق كما هي، لا عبر افتراضات نظرية مثالية حول وضعيات نقيّة غير موجودة. وينطبق هذا أيضًا على قضية الاحتكارات، أي التعريف الكلاسيكي للريع في ما يتعلق بالاحتكار، وهو الهامش الذي يقع فوق معدل الربح الطبيعي، وقد أصبح هناك ما يسمى «معدل الربح الطبيعي»، ونحن نعاينه سياسيًّا وفكريًّا، والذي يتجاهل أن معدل الربح الطبيعي الإنتاجي يمكن أن يكون ناتجًا عن معامل سخرة المنسوجات، كما هو الحال في بنغلادش، وأن معدل الربح هذا قد يكون مقبولاً وتنمويًّا من زاوية إنتاجية على الرغم من أنه غير مقبول وغير تنموي من وجهة نظر حقوق أولئك العمال ومن وجهة نظر الأولويات التنموية ومن وجهة نظر النجاح والفشل في نقل هذه البلاد ومستويات معيشة الناس فيها إلى وضعية مختلفة.
محمد زبيب
الريع ابن السوق الرأسمالية
هناك مسألتان تدفعانني إلى الحديث عن خطاب أيديولوجي: الأولى، أن هناك نظرية دائمًا ما يجري تداولها وتتعلق تحديدًا بمفهوم «الدولة الريعية» والتي تقوم على فكرة أننا مجتمعات يكمن فيها العنف، ولا أتحدث فقط عن منطقتنا، بل يشمل الحديث حوالي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية وسكانها، وبالتالي، يتم التنظير على أن الدعوات لـ«القضاء على الريع» لا يؤدي إلى بناء سوق تنافسي بالمعنى الذي يطرحه الليبراليون، وإنما يؤدي إلى دورات من العنف الكامن داخل هذه المجتمعات. وبالتالي، من خلال هذه النظرية، يكون التفسير أننا محكومون بأنظمة استبداد وبحدود دنيا من الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وأننا محكومون أيضًا بما يطلِق عليه البعض تعبيرَ «سمات التخلف في أنماط ونماذج عيشنا واقتصاداتنا».
المسألة الثانية أن تصوير الريع كأنه مرض خبيث يفتك بالرأسمالية يتناقض مع حقيقة يمكن نقاشها وإثباتها بيُسر وهي أن الريع ليس على الإطلاق عارضًا أو علةً تشوب آليات السوق، بل على النقيض من ذلك، فوفقًا للوقائع، الريع هو نتيجة لسوق رأسمالي تام وكامل وليس العكس. وبالتالي، منطق السوق في النمط الرأسمالي هو تمامًا الذي يقوم على سعي مالك رأس المال وراء عائد أعلى وأكثر تنوعًا من الفرص الموجودة أمامه. هذه هي طبيعة السوق، لذا إنّ توصيف الريع على أنه السعي وراء هذا العائد كما لو أنه يمكن للرأسمالية أن تكون تنافسية إلى درجة يمكن معها قياس معدلات الربح والريع وفق سعر طبيعي أو ربح طبيعي، يخالف منطق الرأسمالية نفسها. بناءً عليه، حديثي عن الأيديولوجيا ليس نقدًا لها، إنما للقول إنه يدخل ضمن صراع أيديولوجي من وجهات نظر مختلفة، وكل وجهة تحاول إقناع الآخرين بمسائل هي التي تخلق هذه الالتباسات وسوء الاستخدام، وأحيانًا سوء الفهم لمسألة الريع والريعية.
التراكم بواسطة النهب
تعليقًا على كل ما مرّ سابقًا، هناك مسألة أساسية في معالجة الريع قليلاً ما يتم تداولها، حتى في الأدبيات التي تتناول الريعية أو تهاجمها. مفاد هذه المسألة أنّ في اقتصاداتنا التي نتحدث عنها سمة يجب دائمًا الانتباه إليها في سياق التحليل وهي أن معدل الربح المتأتّي ممّا يُسمّى رأس المال المنتِج هو معدل ربح منخفض، وبالتالي هناك نظام رأسمالي سيحفّز دائمًا العوائد، سواء الريعية أو شبه الريعية أو الربح الفاحش المبني على الاحتكارات والمقاولات والشراكات مع الدولة والقطاع العام، والأهمّ المبني على ما يسمّيه دايفد هارفي «التراكم بواسطة التجريد (النهب) من الملكيات الخاصة والعامة» إلخ، والتي كلها يجري عادةً تصويرها على أنها السمات الريعية لاقتصاداتنا، والتي هي موجودة أينما كان في العالم بدرجات متفاوتة وفق خصائص وظروف وعوامل تتعلق بكل سوق وبلد ومجتمع. وما حاولت قوله في كامل مداخلتي أنه يجب علينا أن نحسم أن الريع ليس شكلاً لا رأسماليًّا، بل العكس، هو الترجمة الفعلية، وربما الحتمية، لآليات عمل السوق. وبالتالي، عند مناقشة كيفية التعامل مع هذه المسألة، وهنا نعم الضريبة جزء منها، لكني أودّ التذكير بشيء يخصنا في لبنان، وأعتقد أنه يتكرر في مصر، والذي عمل عليه فواز طرابلسي ضمن أكثر من كتاب، وهو الفكرة السائدة في لبنان والتي تتعلق تحديدًا بالثروة وما يكمّلها لجهة التحويلات الآتية من الخارج. تاريخيًّا، منذ تنظيرات ميشال شيحا، نسوّق أنّ التحويلات الآتية من الخارج حقّقها لبنانيون أثرياء بنوا ثرواتهم هناك من خلال استغلال بشر غير لبنانيين، وبالتالي تدفُّق حاصِل أعمالهم، عوائدهم وإيراداتهم، إلى لبنان، يجب ألا يترتب عليه أي عبء ضريبي كونه لم يستغلّ أحدًا في لبنان، بل يجب شكر المغترب على إرساله الأموال. هذا أحد تفسيرات ما يُسمّى «المرض الهولندي» الذي يعاني منه لبنان من خلال هذا النوع من التدفقات، والذي يؤثّر على كل ما نتناوله، فالتدفق المالي النقدي الخارجي يؤثر كل الوقت، وتاريخيًّا، والحديث ليس محصورًا بالعقدين الفائتين، على عوامل الإنتاج في البلد، ويخفّض بالتالي رأس المال وفرصه المتعلقة بقطاعات أساسية، ويرفع الأسعار بطريقة يعتبرها البعض ريعًا، ويزيد عملية الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي.
وهنا أودّ التوضيح أنني دائمًا ما أسمع أن اقتصادنا في لبنان ريعي من خلال ارتباط قطاع الخدمات باقتصاد إقليمي واسع يقوده النفط، والحروب، والعسكرة، والفساد. ولكن على الرغم من ضخامة مساهمة الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي، هي ليست ريعًا. صحيح أن صافي تجارة الخدمات الخارجية في لبنان إيجابي وليس سلبيًّا، ولكن من خلال التدقيق في الأرقام يتبيّن أن هذه التجارة ليست كبيرة جدًّا كما تُصوَّر، فحجم صادرات الخدمات في لبنان يتراوح بين 7 و8 مليارات سنويًّا، في حين تتراوح صادراتنا من الخدمات بين 6 و7 مليارات، والفائض الإيجابي يبلغ نحو المليار ونصف المليار سنويًّا. وإذا أضفنا خدمات السياحة في ذروات معينة قبل عام 2011 فإنها كانت تضيف إلى الناتج المحلي ما يعادل المليار ونصف المليار دولار، إذًا نحن نتحدث عن مساهمة للخدمات في الاقتصاد الإقليمي ليست بالشكل الذي يصوَّر عليه. وبالتالي، في تحليلنا، نصيحتي أن نتفادى تضخيم ربط الاقتصاد اللبناني من خلال قطاع الخدمات باقتصاد إقليمي ريعي كما يصوَّر من خلال ارتكازه على الريع النفطي أو المسائل المتعلقة بالعسكرة وبالتدخلات أو التمويل السياسي الآتي من الخارج.