منتدى البدائل العربي للدراسات
في الآونة الأخيرة، برزت هناك حاجة ماسّة إلى تعزيز النقاش حول مبادئ الاقتصاد القائم على المصلحة العامة والذي يأخذ في الاعتبار الاستدامة البيئية والآثار المدمرة لتغير المناخ والتي أثرت بالفعل على منطقتنا ومن المتوقع أن تزداد سوءًا، وتُعتبر المنطقة العربية منطقةً شديدة التنوع من حيث سماتها وظروفها المناخية المختلفة. في هذا الصدد، هناك تداعيات مختلفة ومتعددة للطوارئ المناخية، من بينها على سبيل المثال ارتفاع درجات الحرارة والجفاف والفيضانات المفاجئة وانخفاض الإنتاج الزراعي وتهديدات السياحة كقطاع مهم في المنطقة.
ليس الكلام حول مسألة التغير المناخي والاعتبارات البيئيّة تحضيرًا لمستقبل بعيد أو تحسينًا لوضعٍ قائم، فكما نواجه أزمةَ “كوفيد 19″، هناك أزمة جبّارة تواجه العالم اسمها التغيّر المناخي. وكما أثّر الوباء على كلّ شيء، لا ينحصر أثرُ أزمة التغير المناخي في مسائل صغيرة، بل يطال كلّ مناحي الحياة. كما أنّ آثار هذه الأزمة على منطقتنا تفوق غيرها من المناطق. هذا بالإضافة إلى الخلفيات المتعلقة بالفوارق الهائلة في الدخل والثروة التي تتميّز بها منطقتنا، ونستطيع تبيان ذلك مثلًا من خلال أزمة “كوفيد 19″ نفسها، فبعد رواج فكرة المساواة في أثر الأزمة بين الفقراء والأغنياء، تبيّن بعد مدّة أنّ من يدفع الثمن الأكبر هم العمّال والفئات الهشة والأكثر فقرًا. وتتطلّب أزمة التغير المناخي الحادّة التدخّلَ الفوريّ الذي يبدأ من صياغة تصوّر أو محاولة لصياغة الأسئلة الكبيرة المطروحة، وهناك بالفعل أفكار موجودة في حركات بيئية حول العالم، بل ولدى بعض السياسيين والأحزاب.
ويُستهلّ الحديثُ عن البيئة ومدى أهميتها من علاقة البيئة بالنمط الاقتصادي الحالي. لقد أعدنا تعريف الاقتصاد ليكون قائمًا على قوى السوق فقط، فأصبح النمو المجرّد للناتج المحلي الإجمالي هو الهدف الأساسي للسياسات الاقتصادية عالميًّا، من دون النظر إلى الاحتياجات الأوسع والأبعد للأفراد والمجتمعات. ويتميّز هذا النمط بخصائص تؤثّر بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر على البيئة، فالعولمة الراديكالية تقوم على الاستغلال الجائر لليد العاملة والطبيعة في دول الجنوب المضمونة باتفاقيات التجارة الحرة العالمية، وتهرب الشركات من التشريعات، ولا تأخذ بالاعتبار حدود الكوكب وتغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي وغيرها من الكوارث البيئية، ما يجعلنا حتمًا نقترب من الفوضى المناخيّة بالغة التأثير على الحياة البشرية. هذا بالإضافة إلى نفوذ صناعة التمويل على الاقتصاد، والاستغلال الصناعي للطبيعة.
ومن أمثلة هذا التأثير ما طرحه مشروع سد بسري في لبنان من مخاطر على البيئة والذي كان سيقضي على حوالي ستة ملايين متر مربع من الأراضي الزراعية، وعلى سبعين معلمًا أثريًّا، وهذا شق متعلق بالسياحة البيئية الأثريّة. كما أن مرج بسري هو ثاني أهم ممر للطيور المهاجرة في لبنان. وعندما قررت الدولة اللبنانية بناء السدّ لم تكن دراسةُ الأثر البيئي مكتملة، وكذلك التعويض الإيكولوجي لم يكن جاهزًا. وقد استملكت الدولة بعض الأراضي المحيطة بالمرج، ما يطرح تساؤلًا حول قدرتها على استثمارها، ذلك أنّ المرج يمكن أن يشكّل خطوةً بسيطةً على طريق تحقيق الأمن الغذائي في البلاد ذلك أنّه وحده يستطيع تغطية أكثر من 60 % من حاجة لبنان للفراولة، و50% من حاجته للفاصولياء العريضة مثلًا. وفي لبنان هناك أيضًا مصادر مياه يجب حمايتها، ويمكن أن يساهم تجاهل ذلك بالجفاف والتغيّر المناخي.
من المهم كذلك التأكيد على حقيقة أن النماذج البيئية والاقتصادية تتأثر ببعضها البعض؛ فالعلاقة ليست طريقًا ذات اتجاه واحد، وقد يعني هذا أن المنطقة في حاجة ماسة إلى “نقلة نوعية” شاملة في التعامل مع النماذج الاقتصادية والبيئية، واعتماد نماذج “التعافي الأخضر“، وفهم الاستدامة البيئية، ومواجهة أنماط الاستهلاك الشديدة وآثارها الرئيسية على الاستدامة. وبالتالي تؤثر حالة التراجع البيئي في قضية العدالة الاجتماعية ذلك أن النظام الاقتصادي الحالي الذي يُعتبر الاستغلالُ الجائر للطبيعة والاقترابُ من الفوضى المناخية وتشجيعُ الخصخصة والعولمة والنمو غير المحدود من أهمّ خصائصه ومقوّماته، يستمرّ في توسيع فجوة عدم المساواة بزيادة مستمرّة لتركيز المال والنفوذ مع النخب وتهميش فئات أوسع من المجتمع لتستمر مستويات الفقر والإقصاء في الارتفاع بشكل غير مقبول. وبالتالي فإنّ الحاجة اليوم هي إلى اقتصاد يضع الناس والبيئة فوق المصالح الاقتصاديّة الضيقة وقصيرة الأجل، ويخدم صحة وسلامة الناس والكائنات الأخرى، والاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية بدلًا من تقويضها باسم النموّ والربح، وكذلك ضرورة أن يكون هذا الاقتصاد متجدّدًا ومستدامًا بطبعه، يعمل بالطاقة المتجددة، ويزيل جميع المواد الكيميائية والنفايات السامة عن طريق إعطاء الأولوية للتقليل وإعادة الاستخدام في التعامل مع النفايات.
على أنّ السؤال المشروع هنا هو “يوجد تناقض بين الاقتصاد والبيئة؟ الذي يُظهر خصوصيّةَ وضعيّتنا في المنطقة التي تحوي الكثير من التناقضات، فهل تجوز مثلًا المساواة بين مجتمع متقدم صناعي كالسويد وتُلزم مجتمعًا كمصر ما زال بحاجة إلى تنمية صناعية ومستوى معيّن من الدخل، بنفس المعايير في ما يتعلّق مثلًا بحدود النمو الاقتصادي؟ هناك إذًا تناقضات بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة، وبين التنمية الصناعية أحيانًا والحفاظ على البيئة، وبالتالي المنطقة العربية في وضعية تختلف قليلًا مع العالم المتقدّم وهي بحاجة إلى التفكير من زاوية الواقع الذي يعيشه الناس. والعلاقات بين التغير المناخي والبيئة والاقتصاد واضحة جدًّا ومرتبطة ببعضها البعض، فمثلًا خطاب كبح النمو الموجود في العالم يربط بشكل مباشر بين الإجراءات الثانية على المستوى الاقتصادي التي يجب أن تُتخذ للتعامل مع اللامساواة، مثل بعض الأطروحات الموجودة، كالخدمات العامة الشاملة أو الدخل الأساسي المعمم أو التعديلات الضريبية المطلوبة التي تحوّل موضوع البيئة إلى مرتكز رئيسي للسياسات التي تحصل. حتى قياس النشاط الاقتصادي يجب أن يتغير بحيث يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي إلى مؤشرات أخرى. ويبقى جهد هام على المعنيين بهذه العلاقة لتطوير خطاب نظري للمنطقة العربية تشكل جزء من خطاب الجنوب في هذه القضية، وهذا الخطاب لا يمكن بلورته بشكل فعال دون بناء قواعد محلية للتفاعل مع هذه القضية.
والسؤال هنا هل التكنولوجيات الجديدة ممكن أن تسمح أن ينمو الاقتصاد بشكل يسمح بتوفير حياة كريمة للمواطنين ولا يخلّ بالبيئة“؟ إنّ هذا واردٌ وممكن، ولكن يجب أن نغيّر هدفنا، وألا يكون هدفُ الفرد الاستهلاكيةَ والاستخراج، وأن تكون الحياة كريمة في أساسها. يجب أن نبحث عن سبل يكون فيها الاقتصاد ووالبيئة داعمَين لبعضها البعض لا متناقضين. إلا أنّ التكنولوجيا لا تُعدّ الحلّ السحري لهذه المعضلة كما يروج البعض خاصة مؤسسات التمويل الدولية، ذلك أنّ الحلول التكنولوجية قد لا تكون بالضرورة لصالح نموذج بديل، فقد يحصل نوع من “Green Grabbing”، أي يتم الاستحواذ على موارد الناس من أجل تقديم حلول بيئية. لذا يدعو الحديث عن الحلول التكنولوجية إلى ضرورة التفكير بقدرة النظام الحالي، أي النظام الرأسمالي، على إعادة صياغة الأشياء لصالح نموذج استغلالي نشهده حاليًّا.
وتُعدّ تجربةُ قرية بنبان في مصر مثالًا على ذلك. إذ يُعتبر مشروع بنبان أكبرَ مشروع للطاقة الشمسية في إفريقيا، وهو منفصل تمامًا عن المجتمعات المحلية الموجودة، وتنفّذه 15 تحالفًا دوليًّا أغلبها دول أجنبية. وفي بنبان، لا يوجد أي رابط بين الاقتصاد المحلي، أي الناس، وبين المشروع، فمن غير المعروف إلى أين تذهب الطاقة التي يتم إنتاجها. تمّ الاستحواذ على مساحة ضخمة من الأراضي هي الظهير الصحراوي لمجموعة قرى منها بنبان نفسها، وحصلت نزاعات ومشاكل كبيرة لم تحظَ بتغطية إعلاميّة. وفي النهاية، تمّ التفاهم بين سكان هذه القرى والدولة أن يحصل السكان، وبشكل حصري، على الوظائف الدونيّة في المشروع (حراسة، قيادة السيارات)، وأن ينشئ القيمين على المشروع مدرسة فنية في القرية تدرّس الطاقة الشمسية، وهذا أمر جيد، ولكن حتّى اليوم يُنتج المشروع طاقةً منفصلة تمامًا عن كلّ السكان الموجودين في محيط المشروع، فسكان بنبان لا يعرفون ما يحصل على بعد ثلاثة كيلومترات من أرضهم التي تحوي أكبر مشروع للطاقة الشمسية في إفريقيا. وبالتالي، هذا المشروع شكلٌ من أشكال استيراد التكنولوجيا، وهو يصبّ في الأساس في مصالح الشركات المتعددة الجنسيات. وليس الاعتراضُ هنا على الطاقة الشمسية، ولكن على نموذجٍ للطاقة الشمسية قائم على بناء القدرات المحلية والإنتاج الصغير والمتوسط لا يشترك فيه الناس، وكذلك ليس نقدًا لفكرة التحول نحو الطاقة النظيفة، ولكن ما يحتاج إلى نقاش هو الشكل الذي يتمّ به هذا التحوّل.
وكثيرة هي النماذج القائمة على نسق مشروع بنبان، كمشروع ورزازات في المغرب مثلًا وغيره من المشاريع. ويُظهر التدقيقُ في تفاصيل هذه المشاريع أنّها رأسمالية خضراء تعيد شرعنةَ الاستغلال والاستحواذ على ثروات وأراضي المجتمعات المحلية. لذا عند الحديث عن انتقالٍ أخضرَ وعادل، يجب التفكير في مقاومة الرأسمالية وفي نظام بديل تمامًا. ويحتّم علينا موقعُنا في مجتمعات الجنوب التفكير في العلاقات بين الشمال والجنوب، أي العلاقات الاستعمارية المبنيّة على هيمنةٍ إمبرياليّةٍ وسرقة الثروات، وبلورة خطابات تحوي مفاهيم تلائم واقعنا المحلي وتراعي خصوصياتنا المحلية.
إنّ ما سبق يؤكد أهمية إحداث تغييرٍ في الخطاب الاقتصادي ومقترحات سياسية مستقبلية في المنطقة لتكون أكثر وعيًا بالتهديدات التي يتعرض لها كوكبنا ومستقبلنا. خطاب يضع مبادئ جديدة لاقتصاد يقوم على العدالة والشفافية والمسألة الديموقراطية تحديدًا، أي مشاركة واسعة من المجتمع، عبر آليات أساسية أهمها تشريعات تعاقب التعدّيات على البيئة وحقوق الإنسان والمشاعات والممتلكات العامة. ثمّ نظام ضريبي من دون إعفاءات مؤذية للطبيعة والإنسان تنقل العبء من العمال والموظفين إلى من يكنزون الثروات ومن يستهلكون أكبر نسبة من الطاقة والموارد وأكبر الملوّثين وعلى المعاملات والمضاربة المالية وغيرها من الأنشطة التي تؤثّر سلبًا على المصلحة والممتلكات العامة. وإعادة هيكلة النظم والمؤسسات الأساسية بشكل تكون أقلّ هرميّة وأكثر شموليّة، فيها ديموقراطية في المعلومات والمعرفة والموارد والنفوذ، وتعتمد اللامركزية في توزيع الطاقة والغذاء.
وتبرز هنا السياسات العامة وفكرة طرح البدائل بين المجتمعات وحركاتها والمؤسسات الدولية وممارستها ففي تونس مثلًا الحديثُ عن البدائل مطروحٌ بطريقة ملحّة نتيجة غياب أجوبة واضحة من الطبقة الحاكمة حول المواضيع الاقتصادية والاجتماعية. وخلال السنوات الأخيرة، ازداد عددُ الحركات الاحتجاجية التي تطالب بعدالة بيئية بشتّى الطرق. والمطروح هو تغيير نظم الإنتاج، وهناك فئات اجتماعية معنيّة بجدوى التغيير تتنظم وتدافع من أجل إنتاج تغيير هذه النظم في بلداننا. في الوقت نفسه، انطلق النسق نحو التغيير، فهناك بدائل ميدانيّة تُصاغ إما من ناحية النظام أو الإنتاج من طرق مختلفة بديلة، أو من ناحية التسويق في الزراعة، في المنتوجات التقليدية، أي هناك إعادة نظر للموضوع. في تونس تحديدًا، يصيغ المواطن بطريقة بعيدة عن الساحة السياسية، إذ لا توجد تشكيلة سياسية اليوم تطرح موضوع البديل، لكن المجتمع التونسي انطلق في التغيير. لدينا إذًا النهج الذي يتغير وهناك نهج المؤسسات التي نجد فيها حديثًا عن التكيف والاستراتيجيا وتقليص الانبعاثات، وهنا ثمة مجال واسع للعمل للتغيير من داخل المنظومة، إلا أنّ المجال الأوسع للتغيير موجود في ما يحدث وسط المجتمع التونسي، إما من ناحية التنظير لما يحصل والتوعية به، أو من ناحية التدقيق بالسياسات التي حصلت وطرق تغييرها. يكون العمل على هذا الموضوع إما عبر النهج الممأسس أو النهج المرتبط بالمجتمع. وفي كلتا الحالتين هناك مجال واسع للمجتمع المدني للعمل شرط أن يكون هناك انغماس في الواقع.
أما عن التباينات إقليميا فمن القضايا المهمة الأخرى التي يجب معالجتها قضيةُ الاختلاف بين منطقة الخليج وبقية المنطقة العربية من حيث القابلية لاعتماد اقتصاديات “الطاقة الخضراء“، حيث يعتمد اقتصاد منطقة الخليج بشكل أساسي على الطاقة غير المتجددة مثل البترول والصناعات المختلفة ذات الصلة به. قد لا يكون هذا هو الحال في بلدان أخرى في المنطقة العربية خاصةً الذين لديهم إرث زراعي وأنماط استهلاك كانت مرتبطة بنموذج الاقتصاد الزراعي على سبيل المثال.
وعلى المستوى الدولي لا بد من التطرق للعلاقات بين الشمال والجنوب، لا سيما عندما يكون هناك إرث استعماري بين دول الشمال (الدول الأوروبية) والمنطقة العربية. هذا الجانب لا يزال يؤثر على الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية هنا، ويمكننا أن نشير إلى مفهوم “الاقتصاد الاستخراجي“، وهو الصناعات والجهات الفاعلة والتدفقات المالية، وكذلك العمليات والمخرجات الاقتصادية والمادية والاجتماعية، المرتبطة بالاستخراج المعولم للموارد الطبيعية. يشمل الاقتصاد الاستخراجي استخراج الوقود المعدني والوقود الأحفوري، والعمليات الأحادية الواسعة النطاق في مجالات الزراعة والغابات وصيد الأسماك. كما يثور في هذا الإطار تساؤل حول التناقض بين قضية التنمية والحفاظ على البيئة.